13 أكتوبر 2023

من لعمّال غزّة المُرحّلين إلى الضفّة؟

من لعمّال غزّة المُرحّلين إلى الضفّة؟

خلال الساعات الأولى من بدء معركة "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، رحّل جيش الاحتلال الإسرائيلي مئات العمال الغزيين العاملين في الأراضي المحتلة عام 1948، إلى الضفّة الغربيّة. وذلك بعد أن احتجزهم لساعات ونكّل بهم بالضرب والشتم وتجريدهم من الملابس، كما مزّق أوراقهم الثبوتية وسرق أموالهم، ثم ألقى بهم على حواجز عسكرية مختلفة باتجاه الضفة. 

في ستّة أيّام فقط، كان قد وصل الضفّة قرابة ألفي عامل، لا تزال أعدادهم في ازدياد، من بين نحو 19 ألف عامل من غزّة يعملون في المستوطنات ومدن الـ48 المحتلة. فيما حوصر عدد من العمال في أماكن عملهم، غير قادرين على التنقل خوفاً من اعتداءات الجيش والمستوطنين. 

من جهة أخرى، قدّم عدد من العمال شهادات لمؤسسات حقوقية عن مفقودين من أقاربهم وأصحابهم الذين قُطع الاتصال بهم بشكل كامل، وسط خوف حقيقي على مصيرهم. فيما نشر جيش الاحتلال صورة تتضمن اعترافاً باعتقال عشرات العمال. كما نقل البعض شهادات حول حالات استشهاد عدد من العمال، وأخرى عن إصابات برصاص الجيش والمستوطنين1اعتمدت المادة على مقابلات مع عمّال، منحناهم أسماء مُستعارة لحمايتهم

ضرب واعتقال وسرقة.. ومصيرٌ مجهول!

محمد (25 عاماً) مهندس كهربائي، كان يعمل في عسقلان. يتواجد الآن في مؤسسة "السرية" في مدينة رام الله، إذ جرى -حتّى الآن- استقبال نحو 600 عامل غزي. روى لـ"متراس" أنه تفاجأ يوم السبت بقوة كبيرة من جيش الاحتلال، تقتحم مكان سكنه هو وخمسة عمال آخرين من غزة في المدينة المحتلة، لتنهال عليهم بالضرب. يقول: "فجروا الباب، وبدأوا بضربنا ضرباً مبرحاً حتى كسروا قدمي زميلي، وأفلتوا الكلاب نحونا وجردونا من ملابسنا بشكل كامل، ثم نقلونا عراة". بعد أكثر من نصف ساعة من الضرب، اعتقل الجيش محمد ورفاقه، و"خلال خروجنا من المبنى رأيت اثنين من العمال بدمائهم على الأرض ويبدو أنهم فارقوا الحياة، وحولهم اثنان من المستوطنين يبولون عليهم ويدوسون رؤوسهم".

حتى ساعة متأخرة من المساء، وبعد أن أفرج جيش الاحتلال عن محمد ورفاقه على حاجز قلنديا، عرف محمد عن معركة "طوفان الأقصى" وعمّا يدور في القطاع. يقول: "هاتفت زوجتي فأخبرتني أنها وأطفالي الاثنين، أخلوا منزلنا في حي الرمال ويتواجدون في إحدى مدارس الأونروا". يعيش محمد كباقي العمال، وجع الخوف كل لحظة من فقدان أسرته، ووجع محاصرته في الضفة وعدم قدرته الوصول إليهم.

عدد من العمال الذين وصلوا إلى رام الله في 9 تشرين أول 2023. (تصوير: عصام ريماوي\ الأناضول)

أما أبو رمزي (47 عاماً) فهو عامل بناء، يتواجد في مجمع "رام الله الترويحي". تحدّث لنا بصعوبة وألم، فهو منهك القوى جرّاء تعرضه للضرب المبرح خلال ترحيله من مكان سكنه في تل أبيب، وقد أدى الضرب لكسور في فكه وأسنانه. يقول: "لم أكمل كلمة غزة حتى انهال نحو 12 جندياً عليّ بالضرب.. تكسرت أسناني وفمي، ومنذ خمسة أيام أنا غير قادر على الأكل بسبب الوجع". 

يتلقى عمال غزة يومياً أخبار استشهاد أقاربهم وأصحابهم، وآخرون يفقدون التواصل مع عائلاتهم بسبب انقطاع الكهرباء والاتصالات. يرتجف صوت أبو رمزي عند سؤاله عن أسرته، المكونة من تسعة أبناء والموجودة في حي التفاح شمال غزة؛ "عائلتي مثل باقي عائلات غزة بدون ماء وكهرباء، بتنقلوا من بيت لآخر هرب من القصف"، يقول بحُرقة. يعقّب على كلامه جاره في الحي ورفيقه في العمل، محمود (40 عاماً): "نستودع الله عائلاتنا، وننتظر أن تنتهي المعركة بنصرنا". 

محمود، أب لستة أطفال، سرق الجنود "حيلته وفتيله"؛ مبلغ يُقدّر بألفي شيقل. أما مشغّله، فرفض إعطاءه أجره. وما جرى معه، جرى على عمّال آخرين. لقد احتجزه جنود الاحتلال منذ الساعة العاشرة صباحاً وحتى الساعة الثانية من فجر اليوم التالي، قبل أن يُلقوا به وبجاره وعمّال آخرين على حاجز بيت سيرا غرب رام الله.

لا دور للسلطة إلا..

على إثر توافد العمّال إلى الضفّة، أعلنت السلطة الفلسطينيّة عن فتحها مجموعة من المؤسسات الأهلية التي تحتوي على ملاعب داخلية أو قاعات كبيرة في رام الله ونابلس وجنين. خطب المسؤولون بعمّال غزة خُطباً برّاقة، مليئة بالوعود والعاطفة، ثم أداروا لهم ظهورهم. تُرك العمال دون طعام وملابس وأدوية، ولم توفّر لهم أماكن لائقة وكافية للاستحمام،  إلّا بعض المراحيض والتي لا تكفيهم.

بعد ستة أيام منذ بدء وصول العمال إلى رام الله، بلغ عددهم في مؤسسة "سرية رام الله" وحدها نحو 600 عامل، رغم أن المكان لا يستوعب أكثر من 130 شخصاً. الاكتظاظ ذاته رصدناه في مجمع "رام الله الترويحي" الذي فُرش ملعبه الداخلي - مثل ملعب السرية أيضاً - بالبطانيات. وبعد امتلائه وضعت البطانيات على المدرج وبين المقاعد. 

في هذه الأثناء، تغطّ فنادق رام الله ذوات النجوم، والبالغ عددها 29 فندقاً، في نومٍ عميق. لا رجال أعمال ولا سلطة استضافتهم فيها، بل وضعوا في ساحات لا تحفظ لهم كرامتهم.

مئات العمال في ملعب داخلي في مجمع رام الترويحي، عصر12 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. (تصوير: شذى حماد\ متراس)

تخبّطت السلطة، التي صدّعت رؤوسنا باستعدادها لأي حالة "طوارئ"، ولم تستطع التعامل مع الأعداد التي تتوافد من ضيوفنا العمّال. فمع وصول أول دفعة للعمال إلى حاجز "الجلمة"، استقبلتهم الأجهزة الأمنية ونقلتهم إلى إحدى مقراتها في مدينة جنين، ثم نقلتهم إلى منزل في قرية الجلمة، ليكونوا هناك تحت إشراف جهاز الأمن الوقائي. وفي رام الله، استقبلت أول دفعة من العمّال في مقر المحافظة، ولكن مع استمرار وصولهم بأعداد كبيرة إلى رام الله، فتحت لهم خمسة أماكن: سرية رام الله، ومجمع فلسطين الترويحي، ومجمع البيرة، وديوان آل دولة، ونادي بيتونيا.

ولأسباب غير مفهومة، حاولت السلطة نقل العمال الذين وصلوا رام الله إلى المدن الأخرى، وهو ما رفضه العمال لكونه يُعرضهم لخطر تنكيل آخر على الحواجز الإسرائيلية. فيما يعلق أبو رمزي: "أنا أرفض الخروج من هنا لأي مكان سوى غزة". 

في الواقع، لم تقم السلطة إلا بوظيفة أمنية مع العمال، وهو ما تبرع به على الدوام، فهي تجمع بياناتهم، وتضع عناصر أجهزتها على أبواب المراكز. أما توفير الطعام والاحتجاجات الأساسية الأخرى للعمّال، فهذا كله بات من مسؤولية المؤسسات المستقبلة، وعلى جهود فردية من المتطوعين والمتبرعين. 

فزعة المتطوّعين

ورقة إعلانيّة علقها المتطوعون على باب الملعب الداخلي وأخرى في مطعم سرية رام الله، احتوت على أصناف من الأدوية تمكّنوا من توفيرها للعمّال. متطوعون آخرون يدخلون بأكياس فيها دفعة جديدة من الملابس والأحذية. ومجموعة ثالثة تقف في المطبخ، تقدم وجبات الغداء التي تبرّعت بها إحدى المطاعم للعمال. لكن الطعام لم يكف الجميع، فاضطروا للانتظار لأكثر من ساعة حتى وصلت الدفعة الثانية من الطعام من مطعم آخر. 

المُحاضِرة الجامعية رُلى أبو دحو، وقفت وراء طنجرة الطعام تملأ الصحون، وقد اعتذرت عن محاضراتها لليوم الثاني من أجل التطوّع في مساعدة العمّال، مثلها مثل غيرها من العشرات الذين تركوا أعمالهم للتطوّع والتبرّع بالمساعدة وتوفير الاحتياجات الأساسيّة للعمّال، من الماء والدواء والطعام والملابس، وكلها جمعها المتطوعون. تقول رولا: "الأعداد في تزايد مستمر، وصعب الاستمرار في ضبط الاحتياجات وتوفيرها اعتماداً على التبرع. الأعداد مهولة ويجب وجود جهات رسمية تستطيع تأمين احتياجاتهم". 

في كل ساعة تصل أعداد جديدة من العمال، ما يؤكد أن الأماكن الحالية لن تستوعب الوافدين الجدد في الأيام القادمة. تُعلّق رُلى: "يجب نقل العمال إلى أماكن أوسع، وأماكن تتوفر فيها حمامات ومراحيض، وهذا مطلوب من الجهات الرسمية التي تكتفي بزيارة العمال والتواجد هنا، ولكن الإنسان لا يعيش بالكلمة، والعمال بحاجة لحد أدنى من الاحتياجات التي يجب أن تتوفر فوراً". 

المطلوب

لم تُقصّر السلطة في حقّ العمّال فقط، بل جعلتهم يعيشون أجواء من الرقابة وكمّمت أفواههم عن انتقادها. ثمّ فوق ذلك، وضعت شروطاً على المتطوّعين، إذ شدّدت على المؤسسات بأوامر داخلية تمنع جمع أي تبرعات مالية لا تمر من خلالها. 

ومن جهة أخرى، منعت المتطوعين من الحديث مع الإعلام، كما عمّمت عليهم منع أي صحفي من التصوير داخل المراكز حتّى يحصل على موافقة من المحافظة. 

أمام غياب السلطة هذا، ومع احتماليّة أن يطول الأمر، لا بد من أن تشكّل كل مدينة استقبلت عمّال غزة لجاناً وطنية، تأخذ على عاتقها صيانة كرامة من صانوا للأمة كرامتها.