14 فبراير 2022

منير شفيق.. سيرةُ التنقّل من جَمرٍ إلى جَمر

منير شفيق.. سيرةُ التنقّل من جَمرٍ إلى جَمر

"من جَمرٍ إلى جَمر"، هو العنوانُ الذي اختاره منير شفيق (85 عاماً) لمُذكّراته، التي جاءت حصيلة تفريغ عدّة مقابلاتٍ ولقاءاتٍ جمعها ودوّنها الإعلامي الراحل نافذ أبو حسنة، وتقع في 560 صفحة.1أبو حسنة، نافذ. 2021. من جمر إلى جمر: صفحات من ذكريات منير شفيق. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة. تتنقّل المُذكرات التي كان صاحبها فاعلاً وشاهداً على فصلٍ مُهمٍّ من تاريخ فلسطين، بين عرضِ جزءٍ من تجربته الشخصيّة والنضاليّة، ومواقفه السياسيّة وتعليقاته على القضايا التي تطرأ، وبين المراجعات التي يُقدِّمها للتجارب الفكريّة والسياسيّة المختلفة.

أما الجمر الذي تنقّل بينه شفيق، فهو التحوّلات الفكريّة التي مرّ بها خلال حياته النضاليّة والفكريّة؛ من الماركسيّة إلى القوميّة، والتأثر بالماوية، وصولاً للإسلام. لم تكن تحولاته هذه انتهازيّةً أو نفعيّة، ولم يكن مُضطراً لها كما يقول، بل كانت "انتقالاً من الإمساك بجمر، إلى الإمساك بجمر أشدّ تلهّباً".2شفيق، ص426 

وُلِدَ شفيق في فبراير/ شباط من عام 1936، في حي النمامرة بالبقعة التّحتا في مدينة القدس، قبل أن تنتقل عائلته إلى حي القطمون، الذي قضى فيه طفولتَه واستحوذ على ذاكرته، فهو إلى هذه اللحظة بإمكانه رسم القطمون بالشارع والبيت والمداخل والشجر، كما يقول.3شفيق، ص 37. وهناك، عاش أجواءً سياسيّةً منذ طفولته، تشكلّ خلالها وعيُه في الصراع مع الصهاينة الذين غزوا البلاد. 

كان يخوض مع والده وفي مدرسته نقاشاتٍ حول قرار "تقسيم فلسطين"، وكانت حاكورة منزلهم تمتلئ بالمُقاتلين الذين يذودون عن القدس، والذين تركوه يُطلق رصاصةً تجاه القوّات الصهيونيّة لقاءَ خدمته لهم. كما يتذكر من تلك الفترة لقاءه بالمناضليْن عبد القادر الحسيني وإبراهيم أبو ديّة، وخلال اللقاء كان أبو ديّة يشرح عن المكان، والطفل منير الذي بلغ من العمر 12 عاماً يُصحّح أخطاءَه، فيردّ الحسيني مازحاً "دع منير يشرح لي".4شفيق، ص 32.

اقرؤوا المزيد: "القطمون بعد النكبة: حكاية بيت الكرمي"

في عائلة مسيحيّة ثريّة ترعرع شفيق، وقد حفّظه والده، الذي نشط كمُحامٍ للثوّار أثناء الثورة الفلسطينيّة الكُبرى (1936- 1939)، ما تيسّر من القرآن الكريم والشعر العربيّ، وكشفه على عالم السياسة وأدبيّات الفكر الماركسيّ. أما والدته فعملت لفترةٍ من حياتها كمُعلّمة. لذا، نشأ شفيق وتربّى في بيئةٍ تهتمُ بالتعليم ومنخرطة بالسياسة. كان لدى شفيق أختان، نهلة وسميرة، بالإضافة إلى أخيه جورج الذي استشهد عام 1976. 

مشهد لآثار الدمار في فندق سميراميس في حي القطمون، بعد أن فجّرته العصابات الصهيونية مطلع عام 1948، مخلفة عشرات الشهداء. مصدر الصورة: موقع mypalestinestory.com

أسئلة ونضال مع الحزب الشيوعي

تصاعد النشاط السياسيّ على إثر النكبة عام 1948، وظهرت عدّة أحزاب في الضفّة الغربيّة، حتى على مستوى المدارس. وعن مدرسته الرشيديّة، يتذكّر شفيق بأنّه لم يكن فيها آنذاك من ليس مُسيّساً، وأنّ جزءاً كبيراً من الانشغال السياسيّ كان مُرتبطاً بقضايا الأردن، مثل: المطالبة بإلغاء المعاهدة مع بريطانيا وتعريب الجيش. خلال تلك الفترة، دفعه حماسُه إلى تقديم طلبِ انتسابٍ للحزب الشيوعيّ في عام 1952، وهو الحزب المُعارض الذي يُنظّم المُظاهرات والمعروف بموقفه المُعادي لأميركا. 

اختار شفيق التفرّغ للعمل في الحزب الشيوعيّ بدلاً من استكمال دراسته للقانون، ما يدلّ على تسيّسه ضمن أجواء عامّة من الانخراط في العمل السياسيّ، حتّى أنّه نظّم مسيرة عفويةً عقب تأميم قناة السويس عام 1956.

كانت سنواته في الحزب الشيوعي حافلةً بالأحداث، حتّى دفع ثمن نشاطه حوالي 10 أعوام من الاعتقالات لدى السُلطات الأردنيّة، كان آخرها اعتقاله عام 1957 الذي استمرّ حتّى عام 1965. لم يتوقف خلال فترات اعتقاله عن النضال، فيذكر لنا واقعة تحطيم سجن عمّان المركزي "مَجلدة"، وذلك بتحريضٍ منه ورفاقه من الحزب الشيوعيّ، وصموده خلال التعذيب في السجن وكسره لقسوة التحقيق.

لم يبقَ شفيق في الحزب الشيوعيّ، رغم طول مدة انتظامه فيه البالغة 14 عاماً، خاصَّةً أنَّ أسئلةً كثيرة ظلّت تؤرقه منذ البداية ولم يجد لها إجابات، مثل: الموافقة على قرار تقسيم فلسطين، وارتهان الحزب للاتحاد السوفيتي، ومهاجمة جمال عبد الناصر، والمهادنة مع النظام الأردنيّ في سنوات الستينيّات، وبداية تخلخل قناعاته في النظريات الماركسيّة. مع ذلك رفضَ التنكّرَ للحزب أثناء اعتقاله، فتركه عام 1966 بعد أن خرج من السجن.

يشكّل هذا الجزء من شهادة شفيق إضافةً هامّةً عن الفترة التي تلت النكبة مباشرةً، فهي فترة حيويّة يقلّ توثيقها في الكتب والدراسات، إذ غالباً ما تكون الإحالة مباشرةً إلى سنة 1965 وما بعدها، وكأنّها لحظة بداية النضال.

جندي أردنيّ أعلى سور القدس العثماني يراقب المنطقة الحرام بين شرق القدس التي كانت تحت حكم الأردن وغرب القدس التي احتلتها القوات الصهيونية عام 1948. (تصوير Keystone-France / Gamma-Keystone عبر Getty Images)

فتح داخل فتح

لم يعني خروج شفيق من الحزب الشيوعيّ هروباً من الماركسيّة والثورية، بل عنى بحثاً عن إضافاتٍ لها مرتبطة بالقضية الفلسطينيّة والوحدة العربيّة. لذا التحق بحركة "فتح" عام 1968 بدفعٍ من أخته سميرة وزوجها ناجي علوش، اللذيْن كانا ينتميان إلى الحركة. خلال تلك الفترة، انكشف شفيق على أدبيات ثوريّة جديدة خلال عمله في الترجمة، خاصةً نصوص "هو تشي منه" التي تركت أثراً كبيراً في علاقته بالنظرية الماركسيّة، أكثر من "ماو تسي تونغ" على عكس الاعتقاد الشائع.

انضمّ شفيق إلى "فتح" في حينه بسبب ما أشار إليه: خطابها القريب من عقل ومشاعر الناس، وتوجهها نحو الكفاح المُسلّح، وعدم دخولها في المحاور العربيّة. أما خلافاته مع "فتح" فقد بدأت مبكراً أيضاً، لكن رغم ذلك بقي فيها وقرّر مع مجموعة من رفاقه اجتراح طريقٍ للعمل من داخلها، طالما أنَّ الحركة لم تتجه نحو التسوية والتنازل بشكلٍ رسميّ.

بدأ شفيق نشاطه في "فتح" من دائرة العلاقات الخارجيّة والإعلام، وساهم في تحرير صحيفتها، وكتابة كُرّاسات وكُتب تُقدّم منطلقات الحركة والقضايا التي تهم الثورة. إضافةً إلى ذلك، نشط في القطاع الغربيّ (الأرض المحتلة) بعد انتقال القيادة إلى الشهيد كمال عدوان5انتقلت قيادة القطاع الغربيّ لكمال عدوان من الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) بعد خروج فصائل الثورة الفلسطينية من الأردن إلى لبنان، ثم عادت قيادة القطاع الغربي إلى أبو جهاد بعد استشهاد عدوان.، وكان مسؤولاً عن العمل السياسيّ والإشراف على توجيه الإذاعات، وساهم بدفع إصدار "جريدة الفجر" الناطقة باسم منظمة التحرير في الأرض المحتلة بعد اللقاء بمحرّرها الشهيد يوسف نصر في لبنان. لاحقاً، انتقل إلى مركز التخطيط الذي عمل فيه، ومن ثمّ ترأسه من عام 1976 حتى عام 6حول تفاصيل اللقاء في يوسف نصر وتأسيس جريدة الفجر، يُنظر الصفحات 333- 334.1992.

اقرؤوا المزيد: مركز الأبحاث الفلسطينيّ.. ما تركته المنظمة للفئران.

نتيجة نقاشاتٍ جرت في منزل ناجي علوش، تبلور في عام 1972 التفكيرُ بإنشاء تيّارٍ جديد داخل حركة "فتح". كانت النقاشاتُ في مجملها ساخطةً على قيادة الحركة بعد الخروج من الأردن. وشارك شفيق فيها على اعتبار أنّه محسوب على يسار "فتح"، وأنّه ينقل شهادته عنها لإدراكه انحرافات قيادة الحركة وضعف الإعداد العسكريّ لديها.

تشكّل التيار، الذي حمل فيما بعد اسم "السريّة الطلابيّة" ولاحقاً "كتيبة الجرمق"، على يد عدّة شخصيّات يُحسب لها بلورة نظريّة العمل فيه، وهم: محمد داود، وناجي علوش، وأبو حسن قاسم (محمد بحيص)، وسعد (عبد القادر جرادات)، وأبو خالد جورج، وعبد الإله دراغمة، وباسم التميمي (حمدي)7الأسماء الواردة بين أقواس هي أسماء حركيّة عُرف بها أصحابها.، وعلي أبو طوق، ومروان كيالي، ومعين الطاهر، وهلال رسلان، ومحمد عدنان، وصبري البنا (بقي لفترة قصيرة)، ومنير شفيق.8لم تستمر علاقة علوش وداود بالتيار، ويمكن مراجعة أسباب الخلاف بين علوش وشقيقته سميرة وداود في الصفحات 357- 359. ولقد تبلور التيّار عسكريّاً منذ عام 1973، وساهم في الدفاع عن المخيّمات الفلسطينيّة ومقرّات الثورة في لبنان. 

يحاول شفيق أن يوضّح حدود دوره في التيار، تحديداً لما التصق بالتيّار من وصفٍ على أنّه  "جماعة منير شفيق". يشير إلى أنّ دوره الأساسي ارتبط بالخطِّ السياسيّ والعمل على بلورة مواقفه، ولا يقصر المَهمّة على نفسه، فيُبين أنّ كتاباته التي نتجت عن وجوده داخل التيار هي عبارة عن نقاشات جماعيّة، إذ كان يكتبها ويصيغها ثمّ تخضع للنقاش.

مع ذلك، تأثّر التيار بأفكار شفيق الذي رفض الانشقاق عن "فتح"، إنّما كان الاتفاق على تشكيل اتجاهٍ أو تيّارٍ داخل الحركة وليس تنظيماً جديداً. كان لدى التيّار إمكانيّة استقطاب عالية، إذ جاء مناوئاً لخطّ التسويّة السائد حينها في الحركة، ومُعبّراً عن التوجّه الشعبيّ الذي لا يزال مُتشبّثاً بخيار العمل المقاوم. يذكر شفيق: "كل يوم أو يومين أو ثلاثة يأتيان [أبو حسن وسعد] بشخص جديد من الكوادر والشباب. كانا يقدّمان المرشّح الجديد للعلاقة الحميمة وليس للتنظيم".9شفيق، ص 302.

 بحسب شفيق، فإنّ الهدف من التيار أن يتولّى العملَ الناسُ الأكثر شجاعةً، والأكثر نظافةً، والأكثر قناعةً بمنطلقات تحرير فلسطين، وأن "يحملوا كتفاً في هذه الثورة" في مواقع القتال وليس في المؤسسات، بعيداً عن قرار القيادات وهيمنتها، وبلا إذنها ودون مشورة أحد منها، لأن تدخّل القيادة يُخرّب ويُفسد.10شفيق، ص 303. يُعطي هذا الهدف ملامحَ عن التحوّلات التي طرأت على الثورة الفلسطينيّة في حينه، بظهور الدولانية وتضخّمها والذي بُني بشكلٍ ريعي فاحتوى مشروع الثورة وحوّله إلى مؤسسةٍ كبيرة. لذا استمرّ التيار وشفيق في نقد قيادة الثورة، ورفض "فلسطنة" القضية، والتأكيد على الوحدة العربيّة ببُعدٍ قوميٍّ عربيٍّ ويساريّ ثوريّ يلتزم خطَّ الجماهير، والتضامن العالم ثالثي متعاطفاً مع ثورة فيتنام والصين بسبب موقف ثوارهم من تحرير فلسطين.

اقرؤوا المزيد: آداتشي.. الياباني الذي كان مُتحدّثاً باسم الجبهة الشعبيّة.

شَغلَ التوجّهُ النظريّ للتيار الكثيرين، خاصّةً مع تحوله إلى الفكر الإسلاميّ، وتنقّل شفيق من الماركسيّة إلى القوميّة والتأثر بالماوية ولاحقاً الإسلام. لكنّ رؤية شفيق فيما يخصّ التوجه النظريّ تُفسِّر شيئاً من هذه التحولات، فيقول: "الثوريّة ليست في تبنّي النظريّة، إنّما في تنزيلها على أرض الواقع، أي في كيفية صنع الثورة"11شفيق، ص 285.. تختزل هذه العبارة جزءاً من توجّهات شفيق، وتعكس كيف كانت حياتُه بحثاً عن مقاومةٍ مستمرة.

صورة شخصية لمنير شفيق، وكالة الأناضول، 2018.

أما من ناحيةٍ شخصيّة، فقد بقي شفيق ماركسيّاً في فترة تأسيس التيار، لكنّه لم يستخدم الماركسيّة بالطريقة التقليديّة الشائعة، إذ شكّلت التجربةُ المعاشة عنده طريقاً في صوغ التنظير حول الواقع، وليس العكس. كما لم يكن التيار ماويّاً بحسب شفيق، وذلك بالرغم من انضمام العديد من الماويّين له، والموقف الإيجابيّ من الماويّة نتيجة موقف ماو من تحرير فلسطين. وفي الواقع فإنّ تأثير ماو يظهر في أفكار أساسيّة انعكست على التيار، مثل القول بأنّ الأفكار الثوريّة الصحيحة يجب أخذها من الجماهير وحرب التحرير الشعبيّة، وهي فكرة ساهمت لاحقاً في التحوّل نحو الإسلام. 12حول تحولات التيار/ الكتيبة الفكرية يمكن النظر إلى: نيكولا دوت بويار، اليسار المتحول للإسلام: قراءة في حالة الكتيبة الطلابية لحركة فتح، ترجمة: عومرية سلطاني (الإسكندرية: مكتبة الإسكندرية، 2010). مع الانتباه إلى بعض الإشكاليات في التوثيق التاريخي. أما عن التجربة العسكرية للتيار بشكلٍ تفصيلي يُنظر إلى مذكرات قائد الكتيبة الثاني معين الطاهر، تبغ وزيتون: حكايات وصور من زمن مقاوم، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017.

إلى الإسلام

الثورة الإيرانيّة، ووفاة ماو، وهواجس شفيق حول النظرية والثورة والواقع، جميعها عوامل اجتمعت أواخر السبعينيّات وبداية الثمانينيّات دفعت بالتيار للبحث عن تنظيراتٍ أصيلة لنماذج ثوريّة مُلهمة في الإسلام والتراث العربيّ. في هذه الفترة، كان شفيق يبحثُ عن جمرةٍ مُتَّقدة وروحٍ شابَّة وجهاديّة للمقاومة، وهو ما شكّل دافعاً له للانتقال إلى الإسلام. في ذلك يُشير شفيق إلى أنَّ جيل الثورة الأوّل بدأ ينحو نحو المُساومة، فكان الانتقال إلى الأرضية الإسلاميّة تعبيراً عن جمرةٍ متوهجّة، خاصةً أن بداية التوجّه للإسلام كانت لأسبابٍ حضاريّةٍ وثوريّةٍ وليست إيمانيّة.

كما لم يكن التحوّل عملية قطع سريعة، بل مرّ ضمن نقاشات تدريجيّة تزامنت مع استمرار العمل المقاوم، حتّى انتهى النقاش بتبني الإسلام كمرجعيّة، دون إجبار من يريد الانضمام إلى الكتيبة على تبنيه.

نتيجة التنقّل بين النظريّات والأفكار، اتُهم شفيق بالتقلّب. وهو الذي لم يندم على مسيرة حياته، يقول في دفاعه عن نفسه، إنّه كان مبدئياً طوال الوقت، باحثاً عن فلسطين، ويرفض "نقل البندقية من كتفٍ إلى كتفٍ"، وذلك في كنايةٍ عن المُساومة والتنازل، مُشيراً إلى أنّ تحوّلاتِه تلك كانت بحثاً عن الطرف الذي يريد الاقتراب إلى فلسطين أكثر.

على ماذا تشهد؟ 

لم تؤرّخ مذكرات شفيق لكلِّ التجارب والمحطات وتتوقف عندها تفصيلاً، لكنها قدّمت شهادةً تاريخيّةً هامّة عن جزئيّات من تاريخ تشكّل "سرايا الجهاد الإسلامي" كإطار جبهويّ للفصائل الإسلاميّة المقاتلة في فلسطين. وهي واحدة من إنجازات التيّار المستقلّة عن حركة "فتح" بعد الخروج من لبنان، وعمل عليها أساساً أبو حسن وحمدي، وكان الهدف منها جمع القوى الإسلاميّة المقاتلة في فلسطين داخل إطارٍ جبهويّ واحدٍ دون أن تتحول إلى تنظيم مستقلّ، وذلك من أجل تصعيد المقاومة وضخّ روحيةٍ جديدةٍ فيها.

من بين النقاط التي يوثّقها شفيق العمل المشترك مع الجماعة الإسلاميّة التي تحوّلت فيما بعد إلى الجهاد الإسلامي، ومشاركته في عدة لقاءات مع الشهيد فتحي الشقاقي، رغم عدم استمراريّة العلاقة طويلاً نتيجة خلل في فهم العلاقة مع سرايا الجهاد ولكون الشقاقي كان يحملُ مشروعاً كبيراً يريد فيه تشكيل فصيل، وهو ما لم ينسجم مع فكرة السرايا الجبهوية. استمرّت السرايا حتى عام 1991، رغم استشهاد قادتها، وساهمت في الدفع نحو الانتفاضة الأولى، وأصدرت جريدة "السبيل" وتقدير موقف "الكاشف"، وكان توقّفها بعد أن لم يعد لها ضرورة بحسب شفيق خاصةً بعد دخول فصائل إسلاميّة عدّة للعمل المقاوم.13للاستفاضة في تجربة سرايا الجهاد الإسلامي، يُنظر: ساري عرابي، تحولات الأيديولوجيا والسياسة في الحركة الوطنية الفلسطينية: الكتيبة الطلابية نموذجاً، جامعة بيرزيت، رسالة ماجستير، 2014.

اقرؤوا المزيد: "رمضان شلح.. القيادة في ظروف صعبة".

بالرغم من كثرة الأحداث في حياة شفيق، إلا أنّ مذكراته لا تمتلئ بها وبتفاصيلٍ عنها، سواء على المستوى الشخصيّ أو العام. فالمذكرات مهمومة بعرض المحطّات المحوريّة من حياته وارتباطها بالنقاشات السياسيّة العامة والمحيطة، وبتقديم نظرةٍ في المواقف المُتخذة سابقاً والعودة للنظر إليها بعد سنوات.

مع ذلك، فإنّها تُقدم في بعض جوانبها مساهمةً تاريخيّةً توثيقيّة عن العمل السياسيّ في الأردن والضفّة الغربيّة بعد النكبة، وتجربة الاعتقال في سجونها في فترةٍ مبكرة، وظروف النشاط والعمل السياسيّ في تلك الحقبة، وصولاً إلى تشكيل الكتيبة الطلابيّة كردٍّ على اتجاهات قيادة "فتح" نحو التسوية، والظرف السياسيّ المُحيط والوقوف عند أهم الشخصيات التي شاركت في تأسيس العمل، وهي المحطات التي يُقدّمها شفيق كشاهدٍ عليها ومُشاركٍ فيها. إضافةً إلى ما سبق، توثّق المذكّرات نشوء سرايا الجهاد الإسلاميّ، وهي من أهم الإضافات التي تؤرّخ لبدايات الكفاح المسلّح للفصائل الإسلاميّة بشكلٍ مُنظّم، وهذه فُرصة للنظر في بدايات تأسيسها.