12 أغسطس 2021

ملاحظاتٌ أوليّة عن مزج المُقاومة للهزيمة

ملاحظاتٌ أوليّة عن مزج المُقاومة للهزيمة

حَلَّت الهزيمةُ في يونيو/حزيران 1967، لكنها لم تحلّ إلا على نفوسٍ مُحدّدة. في الأيام والشهور التالية لتلك الهزيمة جرى كثيرٌ من الماء، وسُجّلت الكثير من التجارب والمحاولات اليوميّة في مقارعة الاحتلال. لكنَّ الكثير من الأحداث، والكثير من الأدبيات أيضاً، ساهمت في محو ونسيان تلك التجارب، والتي وقع غالبها في  شهور الاستنزاف ما بين يونيو/حزيران 1967 وأواخر العام 1971، خصوصاً في مناطق فلسطين الوسطى، وأبرزها القدس. في هذا المقال ذكرٌ لبعضها. 

بحلول أغسطس/ آب 1967 انطلقت أول أعمال المقاومة ضدّ الاحتلال المستجد. كانت سمةُ العمليات الأولى أنّها كانت بمبادراتٍ من مقاتلي الأرض المحتلة، وباستخدامِ السلاح العربيّ الذي تركه بعض أفراد الجيوش العربيّة على أرض فلسطين. في ليل الجمعة 4 أغسطس/آب 1967، الساعة العاشرة والنصف تقريباً، تعرّضت قوّة للاحتلال لإطلاق ما يقارب مئة طلقة، من رشاشٍ آليّ، غرب نابلس، بالقرب من المستشفى العسكريّ/الأسكتلندي. قاد تحري الآثار يوم السبت إلى قرية جُنيد المجاورة، لتعثرَ قوات الاحتلال على رشاش "براوننج" استُخدمَ في الهجوم، وإلى جواره رشاش ثانٍ وصندوقا ذخيرة، وقنبلة يدوية من طراز ملز، أخفيت في "سنسلة". كما وُجِدَ جهازٌ لاسلكيّ لدبابة أردنيّة، تبيّن أنّها سبق ودُمِرَت في معركةٍ مجاورةٍ من القرية.

غير بعيدٍ عن جُنيد زماناً ومكاناً، مساء الخميس 24 أغسطس/آب 1967 نُصِبَ كمينٌ لأربعة إسرائيليين بالقرب من بلدة أبو ديس. أُصيبت السيارة ولم يُصَب أيٌّ من ركابها، وأثناء عملية التفتيش على المُهاجم أُطلِقت نيرانٌ على القوّة الإسرائيلية، فأصيب اثنان من قوّة حرس الحدود وجنديُّ مظلي. اعتقلت القوّة رياض سلمان الخطيب (1948-2011) بعد إصابته أثناء الهجوم، كما اعتقل والده وشقيقه رفيق بتهمة مساعدته للاختفاء في المنزل، وبقي رياض في السجن إلى أن أطلق سراحه في مايو/أيار 1985.

بين جُنيد وأبو ديس كانت منظمات التحرير الفلسطينيّة المختلفة تستعدُّ لانطلاقتها الجديدة في الأرض المحتلة. كما بدأ الاحتلالُ يلحظُ مظاهر مقاومةٍ يوميّةٍ في غير بقعةٍ جغرافيّة من الأرض المحتلة، فبالإضافة للمنشورات المختلفة التي بدأت تُوزّع في القدس والمدن الأخرى، والتحريض على مقاطعة الاحتلال ومؤسساته، بدأت موجةُ المواجهة الأولى مع نهاية يوليو/تموز ومطلع أغسطس/آب 1967، بعد قرار الاحتلال بضمّ القدس المحتلة عام 1967.

المقاطعةُ والأقصى.. من عناوين المواجهة الأولى 

من مظاهر الاحتجاج على ذلك القرار مذكّرةُ شخصيات القدس المجتمعين في قاعة محكمة الاستئناف الشرعيّة يوم 24 أغسطس/آب.1تلك الشخصيات هي: المحافظ أنور الخطيب، أمين القدس روحي الخطيب، رئيس محكمة الاستئناف الشرعية عبد الحميد السائح، عضو محكمة الاستئناف الشرعية حلمي المحتسب، قاضي القدس الشرعي سعيد صبري، مفتي القدس سعد الدين العلمي، المحامي كمال الدجاني، المحامي إبراهيم بكر، مدير متحف القدس عارف العارف، المحامي فؤاد عبد الهادي، المحامي عبد الرحيم الشريف، المحامي حافظ طهبوب، المحامي سعيد علاء الدين، المحامي عمر الوعري، المحامي عبد المحسن أبو ميزر، إسحاق درويش، اسحق الدزدار، مدير أوقاف القدس حسن طهبوب، الدكتور داود الحسيني، الدكتور صبحي غوشة. أعلنت المذكرةُ رفضَ الضمِّ واحتجاجها على سياسات الاحتلال المفروضة حديثاً على المسجد الأقصى، فرفضت مراقبةَ وزارة الأديان الإسرائيلية لخطبة المسجد وحذفها للكثير من فقراتِ الخُطب بما فيها آياتٌ قرآنية، وإدخال الزوار الإسرائيليين من الرجال والنساء إلى المسجد، وكذلك تدخّل وزارة أديان الاحتلال بشؤون الأوقاف الإسلامية، والاعتداء على الأراضي الوقفية. ووفقاً لهذه المُذكرة تم تأسيسُ هيئة إسلامية برئاسة الشيخ عبد الحميد السائح الذي فُوِّض بمنصب قاضي القضاة.

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by متراس - Metras (@metraswebsite)

بالتزامن مع هذه المذكرة كان شبَّان المدينة يوزِّعون منشورات باسم "منظمة التحرير" تدعو إلى المقاومة، وتُحذر المتعاونين. ثم بدأت مدن وقرى بقية فلسطين الوسطى المحتلة بإرسال برقيات تأييد للقرار بتشكيل الهيئة الإسلامية، فقرَّرت قوات الاحتلال إبعادَ عددٍ من شخصيات المذكرة إلى الأراضي المحتلة عام 1948، لكنَّ تصاعد وتيرة الاحتجاج دفعَ الاحتلال بعد أيامٍ لإلغاء الرقابة على خطبة المسجد الأقصى، وتحويل ملف الشؤون الدينية إلى وزارة الأمن بدلاً من وزارة الأديان، في تراجعٍ ضمنيٍّ عن بعض الضمّ.

ثمّ جاءت خطوةٌ جديدة اتَّخذتها المدينة، بإعلانها الإضراب يوم 7 أغسطس/آب 1967، بعد منشورات وُزِّعت بتوقيع "لجنة الدفاع عن عروبة القدس"، إذ أضربت المدينة بالتزامن مع وصول مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة نيلس جوران جسنج، إظهاراً لاحتجاجها على ضمّ المدينة إلى دولة الاحتلال.

معركةُ المنهاج: من المدارس إلى الشوارع

افتتحت هذه الأحداثُ التي أخذت بالتصاعد يومياً حدثاً امتزجت فيه المقاومةُ اليوميّة بالمقاومة المسلحة محققةً أول "الانتصارات" اليومية لأبناء الأرض المحتلة. كانت الهزيمة قد حلّت أثناء العطلة الصيفيّة، وبهذا افتقدت قوى المقاومة الآخذة بالتشكّل في الأرض المحتلة لأحد مراكز التعبئة الرئيسية، التي كانت محور التعبئة خلال السنوات والشهور السابقة ضدّ أي نشاطٍ معارض، وهي المدارس. وكانت بعض المدارس، كالعائشية الثانوية في نابلس، أُغلقت في أبريل/نيسان 1967 من النظام الأردني لدورها المركزي في التظاهر ضدّ بعض سياساته.

خلال هذه الشهور، كانت سلطات الاحتلال الحاكمة للأرض المحتلة حديثاً مرتبكةً ومتأثرةً بخلافات بينيّة داخليّة، خصوصاً بين وزارة الأمن ورئاسة الوزراء. فشكّلت الحكومة لجنةً وزاريّةً للإشراف على إدارة الأراضي المحتلة، بعيداً عن اللجنة الخاصّة بوزارة الأمن. كان أحد أبرز قرارات هذه اللجنة في أغسطس/آب 1967 الموافقة على مقترح وزارة التربية بتحضير منهاجٍ إسرائيليّ جديدٍ يُفرض على مدارس الأرض المحتلة، وأصدر الحاكم العسكريُّ في 29 أغسطس/آب أمراً بمنع تدريس 55 كتاباً أردنيّاً، وحُدِّدت عقوبات بالسجن لمدة عامٍ وبغراماتٍ ماليّة لمن يخالف القرار.

كان هذا القرار ومقدماته مدخلاً لمعركةٍ جديدة، فَقَبل إقرارِه وإصدار الأمر العسكريّ، بدأ الاحتجاج الفوريّ الذي قادته هيئاتٌ قديمة/جديدة، على رأسها رجال التعليم في المدن المحتلة، واتحاد المعلمين واتحاد الطلبة، وجبهة العمل الوطني. وارتفعت وتيرة الخطاب في البيانات والمنشورات، التي أُسنِدَت بمنشوراتٍ لمنظمات التحرير الفلسطينيّة المختلفة، فمثلاً جاء في بيان جبهة العمل الوطني يوم 12 أغسطس/آب: "ليكن الوطن أغلى من الحياة شعارنا، ولنكن جديرين أن نحيا بكرامةٍ في أرض الوطن بحفاظنا عليه، وصيانتنا له بإرخاصنا الدماء والأرواح من أجله، وعدم التعاون مع العدو بأي شكلٍ كان، لنبرهن لأمتنا والدنيا بأسرها بأننا جديرون بالحرية والحياة الكريمة".

اقرؤوا المزيد: "معركة المنهاج في القدس.. تسلسل تاريخي".

ومع أول يومٍ دراسيّ أُعلِن إضرابٌ طويلٌ في مدارس الأرض المحتلة حديثاً. نظرت وزارةُ أمن الاحتلال إلى الإضراب بوصفِهِ قضيةً سياسيّة، تتطلب تدخلاً مباشراً منها، إذ اعتُبِر عدم فتح المدارس نصراً لحركة المقاومة ومنظميها في الداخل والخارج، ودليلاً على رفض أهل الأرض المحتلة لإدارة الاحتلال، كما خشيَ الاحتلال من تحوّل المعلمين لنموذجٍ يُحتذى به. وبخلاف الفصل المفترض للقدس عن بقية فلسطين الوسطى المحتلة عام 1967، بعد الإعلان عن ضمّها، أَجبر الإضرابُ هيئاتِ الاحتلال على التعامل مع القدس كجزءٍ من هذه البقية المحتلة، إذ عادت وزارة الأمن للتدخّل الكامل في ملف التربية في المدينة (كما في الضفة)، بدلاً من قصره على وزارة التربية بوصفها الجهة المسؤولة عن التعليم في دولة الاحتلال، إذ كانت قناعة وزارة الأمن أنّ عدم رضا الناس في شرقي القدس سينعكسُ على عموم الأرض المحتلة، وبهذا فإنَّ الإضراب قضيةٌ سياسيّةٌ أمنيّة توجب إدارةَ الوزارة للملف.

شكّلت هذه القضية معضلةً لحكومة الاحتلال، وتسبَّبت في خلافٍ بين وزارتي التربية والأمن. وبدأت وزارة الأمن باتخاذ سلسلة قراراتٍ للتراجع عن جوهر القرار المتخذ سابقاً، فقررت أولاً عدم إلزام المعلمين على مزاولة عملهم في المدارس، وقبلت بالراتب المزدوج للمعلمين الذين أبقوا على تبعيتهم الإدارية لوزارة التربية الأردنيّة. لكنَّ الإضراب لم يتوقف، وبدأت الاشتباكات المختلفة في عموم الأرض المحتلة، وانطلقت عمليات المقاومة المُنَظّمة. 

مظاهرة نسوية في باب العامود، في الذكرى الثانية لاحتلال القدس، خرجت فيها نساء فلسطينيات لإحياء حرب الأيام الستة التي اندلعت في العام السابق. هنا يمرون عبر بوابة دامساكوس. (تصوير © Ted Spiegel / CORBIS / Corbis via Getty Images)

محطةٌ أولى نحو مسيرةٍ من المقاومة.. 

تُبرِز المصادرُ اعتناءَ منظمات المقاومة الفلسطينية بتعزيز المقاومة اليوميّة، وتحوّل الإضراب لمعركة تعبئة أولى للطلبة في مواجهة الاحتلال، وتبرز عشرات الشواهد أنّ هذه المحطة، كانت محطةً أولى في الطريق إلى المقاومة المسلحة خلال الأيام التالية، فمثلاً سيبدأ حاتم اسماعيل شنار نشاطهُ لمقاومة الاحتلال بالمشاركة في قيادة الحراك الطلابي، قبل أن يقود مع عددٍ من رفاقه الطلاب والطالبات -منهم مريم الشخشير- سلسلةً من العمليات كان أبرزها عملية الجامعة العبرية يوم 6 مارس/آذار 1969.

خلال الأيام التالية تراجعت سلطاتُ الاحتلال بقرارٍ من وزارة الأمن عن القرار بحذف المناهج واقتصرت على تعديلاتٍ محدودة، وبعد قرار هيئةٍ مُشكّلةٍ من شخصيات تربويّة افتُتِحت المدارس من جديد في نوفمبر/تشرين الثاني 1967، من غير مدارس القدس التي استمرّ إضرابها، بعد نجاح الاحتلال في استثناء القدس من مفاوضات الهيئات التعليميّة. ولن تكون هذه المعركة إلا معركةً من معارك تالية.

تصاعدت المقاومةُ المسلَّحة في القدس، وتصاعدت المقاومة اليومية، وتصاعدت إجراءاتُ الاحتلال في المدينة، وكان من أبرز قرارات الاحتلال تنفيذ عملية "برش" التي استهدفت إبعاد عددٍ من الشخصيات الفاعلة في المدينة، وكان أبرزها القرار في 22 سبتمبر/أيلول 1967 بإبعاد الشيخ عبد الحميد السائح، والذي اتخذ بالتزامن مع لحظة المواجهة الكبرى بين إدارة الاحتلال العسكرية ومدينة نابلس، والتي أبرزت فشلَ الاحتلال وإدارته في "تدجين" المدينة، فقررت معاقبة المدينة والبدء بحملةٍ متعددة الأغراض (حملات تفتيش، اعتقالات، إغلاق مصالح تجارية، منع تجول، حصار كامل لنابلس وقطعها عن ريفها، مصادرة الحافلات الداخلية والخارجية)، لكنها منيت بالفشل بعد أيامٍ قليلة، بفعل مقاومة المدينة وإدراك الاحتلال لعجزه عن إخضاعها المباشر.

وستحضر خلال المرحلة التالية المقاومةُ اليومية مع كلِّ ذكرى وكلِّ مناسبة، كحادثة النّصب التذكاري لشهداء الحرب في ذكراها الأولى، وقرارِ الاحتلال بتنفيذ استعراضٍ عسكريّ في المدينة في ذكرى الحرب الأولى، إذ ترافقت الإضراباتُ والمظاهرات المنتهية بالاشتباك مع الاحتلال، مع المقاومة المسلحة التي نفَّذتها المنظمات الفلسطينية المختلفة في غير بقعةٍ من فلسطين.

دبابات جيش الاحتلال، على طول الطريق بجانب أسوار القدس خلال استعراض قاموا به في الذكرى الثانية لاحتلال القدس. 2 مايو / أيار 1968. تصوير رولز برس.

شكّلت هذه النماذج المبكرة صورةً مصغّرة للمقاومة اليومية المتأثرة والمؤثرة في المقاومة المسلحة في الأرض المحتلة، وبعيداً عن مقاومة المعلمين والطلاب أسهمت كلُّ هيئات المدينة وفئاتها في جانب من جوانب هذه المقاومة، ولم يكن غريباً أن يُقرأ في صحف أغسطس/آب 1969 بعد شهورٍ من هذه الأحداث، عن طلائع ثورة في القدس ونابلس اندلعت مع حريق المسجد الأقصى، شاركت فيها النساء والرجال وسيكون عمادها طلاب وطالبات المدارس، بالتزامن مع عشرات العمليات المسلحة.