استأنفت "القوات المسلحة اليمنية" في 11 آذار/ مارس 2025، حظرها مرور السفن عبر باب المندب في البحرين الأحمر والعربي، بعد مرور أربعة أيام على إمهال "إسرائيل" لفتح المعابر وإدخال المساعدات إلى قطاع غزة.
جاء ذلك بعد نحو شهر واحد من سماح "القوات المسلحة اليمنية" لأول سفينة نفطية بالعبور من "باب المندب"، بعد حظر فرضته على مرور جميع السفن في البحر الأحمر خشية وصولها إلى "إسرائيل"، إسناداً لمعركة "طوفان الأقصى"، واستثنت من رفع الحظر هذا السفن المملوكة لـ "إسرائيل" أو تلك التي ترفع علمها.
لهذا، ولأسباب أخرى سيأتي المقال على ذكرها، صرّح وزير الجيش الإسرائيلي يسرائيل كاتس في 23 كانون الأول/ ديسمبر 2024: "سنوجه ضربات قوية للحوثيين وسنستهدف بنيتهم التحتية الاستراتيجية وسنقطع رؤوس قياداتهم كما فعلنا بهنية والسنوار ونصر الله".
ما الدور الذي اضطلع به اليمن على وجه التحديد حتى دفع قادة الاحتلال للتهديد صباح مساء بضربه؟ هذا ما يحاول المقال شرحه.
من إغلاق باب المندب إلى ضرب تل أبيب
منذ 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، انخرطت "القوات المسلحة اليمنية" في معركة طوفان الأقصى مع لبنان والعراق، إسناداً للمقاومة الفلسطينية، انطلق اليمنيون في مشاركتهم من عدة نقاط، أبرزها: أولاً، كون اليمن أحد أطراف "محور المقاومة" الذي شكّلته إيران؛ وثانياً الضغط الشعبي اليمني الداعي لإٍسناد غزة في معركتها؛ وأخيراً فرض واقع جديد يدلّ على سيطرة اليمن على البحر الأحمر ومضيق باب المندب.
كان انخراط "القوات المسلحة اليمنية" على مراحل: تمثّلت أولاها في إطلاق صواريخ من اليمن باتجاه إيلات الإسرائيلية، مدينةً وميناءً، إضافة إلى استهداف السفن الإسرائيلية التي تمرّ في البحر الأحمر، وهو ما تكثّف في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 مع إعلان المتحدث باسم "القوات المسلحة اليمنية" يحيى سريع: "القوات المسلّحة لن تتردّد في استهدافِ أيّ سفينة إسرائيلية في البحر الأحمر أو أيِّ مكانٍ تطالُه أيدينا".
طُبِّق ذلك في حدث الاستيلاء على سفينة "جلاكسي ليدر" واقتيادها إلى الساحل اليمني، التي تحولت إلى مزار سياحي لليمنيين، في حين أصبح طاقمها أسرى، قبل الإفراج عنهم في نهاية الشهر الماضي. ومن اللافت، أن "القوات المسلحة" كانت قد سلّمت إلى كتائب القسام ملف السفينة لتستخدمه ورقة مساومة في المفاوضات، مما يدل على تنسيق عالٍ بينهما.
اقرؤوا المزيد: من شِعب أبي طالب إلى شِعب غزّة.. أين ذهبت نخوة العرب؟
لاحقاً، بعدها بنحو شهر، وتحديداً في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2023، استهدفت "القوات المسلحة" بصاروخ بحري سفينة "استريندا" النرويجية التي كانت متجهة إلى "إسرائيل"، ليعلن اليمنيون بذلك بداية المرحلة الثانية من التصعيد، التي قضت بمنع أي سفينة متجهة إلى "إسرائيل" من الإبحار في البحر الأحمر وبحر العرب.
وعقب العدوان البريطاني الأميركي المشترك على اليمن في آذار/ مارس 2024، دخلت "القوات المسلحة" في المرحلة الثالثة من انخراطها، إذ وسّعت نطاق استهدافها للسفن الإسرائيلية أو تلك المتجهة إلى "إسرائيل" لتشمل أيضاً السفن في المحيط الهندي والسفن المارة عبر طريق "رأس الرجاء الصالح".

وفي أيار/ مايو من العام نفسه، أعلنت صنعاء دخولها المرحلة الرابعة من التصعيد، والتي شملت استهداف أي سفينة متعاونة مع المواني الإسرائيلية بغض النظر عن وجهتها، إضافة إلى توسيع دائرة النار إلى البحر الأبيض المتوسط.
اقرؤوا المزيد: المضائق المائيّة تتسع لـ "إسرائيل"!
وكان الانتقال إلى المرحلة الخامسة بعملية نوعية استهدفت تل أبيب بطائرة "يافا" المسيّرة، يقول زعيم جماعة "أنصار الله" عبد الملك الحوثي: "بعد نجاح عملياتنا في البحر الأحمر والعربي والمحيط الهندي بات نطاق العمليات يتجاوز 2000 كم".
خلال المراحل العسكرية الخمس استمرت المظاهرات المليونية أسبوعياً في اليمن، دعماً للمقاومة في غزة وتأييداً لجبهة الإسناد اليمنية، انطلاقاً من ميدان السبعين بالعاصمة صنعاء، وصولاً إلى مئات مراكز التظاهر في سائر المدن اليمنية التي توحدت لإسناد فلسطين بعد سنوات من الحروب، كذلك استخدم اليمنيون وسائل الدعم الشعبية الممكنة كافة لتأكيد وقوفهم مع فلسطين، بمقاطعة المنتجات الإسرائيلية والداعمة لـ "إسرائيل"، وبالرسم والغناء والإعلام.
الذهاب المستمر إلى الملاجئ
أظهرت "القوات المسلحة" خلال الحرب تدريجياً قدراتها العسكرية المتطورة التي فاجأت الإقليم، وتحديداً "إسرائيل"، إذ لم يكن مستوطنو تل أبيب يحسبون أنهم سيستيقظون كل يومين هلعاً نحو الملاجئ خوفاً من صواريخ اليمن، ما تكشّف لاحقاً أن إيران أمدّت "القوات المسلحة اليمنية" بصواريخ باليستية متطورة، ومسيرات حديثة قادرة على اجتياز مسافات طويلة وصولاً إلى عمق "إسرائيل".
اقرؤوا المزيد: الدولة القلقة.. سيناريوهات التهديد الوجودي لـ "إسرائيل"
وكشفت "القوات المسلحة" عن امتلاكها صواريخ طوفان وكروز وصاروخ قدس بإصداراته الأربعة، إضافة إلى صاروخ "فلسطين 2" الباليستي فرط الصوتي، وهو صاروخ قادر على الطيران لمسافة تصل إلى 2150 كم وبسرعة 9600 كم في الساعة، إلى جانب قدرته في المراوغة والطيران على مسافات مختلفة، وقدرته على تقليل بصمته الحرارية مما يجعل مهمة رصده صعبة ومعقدة.
كما تمتلك "القوات المسلحة" سلاح الطائرات المسيرة، مثل مسيرة "يافا" التي هاجمت عدة أهداف بعد دخولها إلى سرب المسيرات اليمني، آخرها الهجوم بطائرتين مسيرتين على مدينتي يافا وعسقلان في 23 كانون الثاني/ ديسمبر 2024.
وتمتلك "القوات المسلحة" صواريخ بحرية نوعية مثل "روبيغ" بمدى يصل إلى 360 كم، و"صياد" بمدى 800 كم، إضافة إلى زوارق انتحارية قادرة على ضرب أهداف بحرية معادية مثل السفن والمدمرات. وسبق للإعلام العسكري اليمني أن عرض فيديو يظهر مهاجمة سفينة "توتور" اليونانية بعدد من الزوارق الانتحارية المفخخة في البحر الأحمر في 12 حزيران/ يونيو من العام الماضي.
ممنوع الدخول حتى إشعار آخر
يقول تقرير للبنك الدولي صدر في نيسان/ أبريل الماضي إن حجم التجارة العالمية في البحر الأحمر انخفض بنسبة 42%، كما ارتفعت أسعار الشحن بنسبة 270%، منذ أن بدأت "القوات المسلحة" تصعيدها ضد السفن المرتبطة بـ "إسرائيل" في مضيق باب المندب.
يصنف باب المندب ثالث أهم مضيق مائي في العالم، فهو يربط بين جنوب البحر الأحمر والمحيط الهندي وبحر العرب وخليج عدن، ويعد الطريق الأقصر والأقل تكلفة للوصل بين آسيا وأوروبا. وتمر عبر المضيق نحو 21000 سفينة شحن سنوياً، ويُنقل عبره يومياً نحو 6.2 ملايين برميل نفط والمنتجات البترولية، أي ما يعادل 9% من مجموع النفط المنقول بحراً.

ولكن بعد معركة طوفان الأقصى وقرار "القوات المسلحة اليمنية" في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي إغلاق المضيق في وجه السفن المرتبطة بـ "إسرائيل"، أعلنت شركات الشحن العالمية مثل: شركة "ميرسك" الدنماركية و"برتيش بتروليوم" وغيرها من الشركات، توقفها مؤقتاً عن عبور المضيق وتوجهها نحو مسارات أخرى، أو الرسو في موانٍ قريبة بطوابير طويلة في انتظار نهاية الأزمة.
اقرؤوا المزيد: وطنٌ من القواعد.. عن الوجود الأميركي بيننا
قاد ذلك أميركا وبريطانيا ودولا أخرى إلى تعزيز وجودها العسكري الإقليمي والدولي في البحر الأحمر، بحجة حماية طرق التجارة العالمية، وأعلنتا في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2023 تشكيل تحالف "حارس الازدهار"، وهو قوة أمنية دولية تهدف للتصدي لهجمات "القوات المسلحة" ضد "إسرائيل"، وشنت بالفعل عشرات الغارات التي استهدفت اليمن في محاولة لإضعاف "القوات المسلحة".
لم تثمر هذه الهجمات إلا دخول سفينة واحدة فقط إلى ميناء إيلات خلال أشهر، وقال الرئيس التنفيذي لميناء إيلات جدعون غولبر لصحيفة "معاريف" الإسرائيلية، إن "العمل في الميناء توقف كليا لعجز السفن عن الوصول إليه"، كذلك تعرّض الميناء لخسائر بلغت 14 مليون دولار، حسب غولبر.
على إثر ذلك تكبدت شركات الشحن الإسرائيلية والمرتبطة بها خسائر اقتصادية تتمثل في ارتفاع تكاليف التأمين للسفن، وتعطل عدد من الصفقات التجارية مع "إسرائيل"، واضطرار السفن المتوجهة لـ "إسرائيل" إلى سلوك طريق رأس الرجاء الصالح الذي يلتف عبر القارة الإفريقية كلها وصولاً إلى مضيق جبل طارق ثم البحر المتوسط إلى "إسرائيل"، لكونه أقل خطراً من الطريق المعتادة عبر باب المندب.
صُداع اليمن
شنت "إسرائيل" أربع هجمات استهدفت بشكل أساسي محطات توليد الكهرباء وميناء ومطار الحديدة وغيرها من الأهداف المدنية، وذلك رداً على الهجمات المتصاعدة من اليمن طيلة العام ونصف من معركة الطوفان، في حين يهدد الإسرائيليون باستمرارٍ بشن هجوم أوسع مشابه لهجومهم على "حزب الله" في لبنان، وهو ما جاء على لسان بنيامين نتنياهو الذي رأى أن قصف "إسرائيل" لليمن سيحقق ردع "القوات المسلحة" وضرب بنيتها وقدراتها العسكرية.
أما رئيس الموساد ديدي برنياع، فأوصى بضرورة مهاجمة إيران رداً على هجمات "القوات المسلحة اليمنية"، كما يؤكد رئيس معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي تامير هايمن أن "جباية الثمن يجب أن تكون من الذراع كلها لا من اليد وحدها"، في إشارة إلى أن إيران هي الفاعل الأساس في تحريك "القوات المسلحة اليمنية" لشن هجماتهما على "إسرائيل".
اقرؤوا المزيد: هل تنجح "إسرائيل" في تغيير وجه المنطقة؟
إلا أن المسافة بين اليمن و"إسرائيل" والطبيعة الجغرافية المعقدة في اليمن وضعف المعلومات الاستخبارية؛ نجحت في منع "إسرائيل" حتى الآن من اختراق "القوات المسلحة" أو توجيه ضربة عميقة لها. لذلك، افتتحت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أخيراً دورات لتعليم اللهجة والثقافة اليمنية استعداداً للعمل في الأراضي اليمنية.

فرضت "القوات المسلحة اليمنية" معادلة استراتيجية بقدرتها على السيطرة على المسطحات المائية في المنطقة وتهديد الاقتصاد العالمي والإقليمي كله ولفترة زمنية طويلة. يقول داني سترينوفيتش، وهو رائد احتياط لـ "معهد الأمن القومي الإسرائيلي"، إن "القوات المسلحة اليمنية" تمتلك قراراً مستقلاً عن طهران، وبالتالي يمكن أنهم لا يأخذون المصالح الإيرانية بعين الاعتبار دائماً. وأوصى سترينوفيتش بضرورة إسقاط "القوات المسلحة اليمنية" للتخلص من "الصداع" الذي سببته لـ "إسرائيل".
ورغم كل التصعيد الإسرائيلي وتهديدات اليمن بمزيد من الضربات، فإن "إخوان الصدق" - كما وصفهم المتحدث العسكري باسم كتائب القسام أبو عبيدة - لم يفتحوا باب المندب، ولم يعيدوا سيوفهم إلى أغمادها، ولم يتوقفوا عن قصف "إسرائيل" إلا بتوصل المقاومة في قطاع غزة إلى اتفاق وقف إطلاق النار مع جيش الاحتلال، وحال لسانهم الآن مع رفض "إسرائيل" فتح المعابر وإدخال المساعدات إلى القطاع: "وإن عدتم عدنا".