13 ديسمبر 2022

"معنيّ بالإسلام": اليسار وموقع المرجعيات

"معنيّ بالإسلام": اليسار وموقع المرجعيات

فجر يوم الأحد 23 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وأثناء سيره في إحدى زقاق البلدة القديمة في مدينة نابلس، كانت "فيسبا" مفخّخة تنتظر تامر الكيلاني، وما إن مرّ بجانبها حتّى انفجرت به. أنبأت عمليّة الاغتيال هذه عن أنّ قائداً في "عرين الأسود"، ومن أمضى 8 سنوات في السجون الإسرائيليّة لانتمائه للجناح العسكري للجبهة الشعبيّة، قد خُتمت مسيرته النضالية. 

رسمت زوجته بعض ملامح شخصيته، فوصفت سلوكه قبل الاستشهاد: "آخر فترة تامر بدل الصلاة صلاتين يعيدها ورا بعض". كما وتنقل عنه ما كان  يقوله ويوصّيها به: "كان يحكي: إنّ الله لا يُغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم؛ الحياة فانية هاي دار فناء؛ وصيتي تحفظي أولادي القرآن". 

السؤال الذي ينشأ هنا: هل تعكس هذه الحالة إرثاً في الجبهة الشعبيّة متصالح مع المكوّن الديني أم أنّ ذلك مرتبط بجيل جديد يتجاوز الأيديولوجيا مُغلّباً عليها المكوّنَ الوطني والديني؟

الجبهة رغم كونها حزباً يسارياً علمانياً، إلا أنها لطالما احترمت الحريات الدينية وتصالحت مع وجودها. يمكننا القول أيضاً، إنّ الاحزاب اليسارية الفلسطينية اكتسبت بعض جاذبيتها من رفعها للسقف الوطني الذي انخفض من قبل حركة "فتح"، ربّما أكثر من عامل الجذب في الأيديولوجية اليسارية نفسها، إذ لطالما كانت مكوّناَ هامشياً أمام زخم الأفكار التحررية من الاحتلال.

ولكن أيضاً، يمكننا ملاحظة التزايد في أعداد الشباب من الجيل الجديد الذين ينفرون من الإيديولوجيا، سواء عند اليسار أو غيره، فلقد سئموا الخطاب الأيديولوجي والفصائلي والتفرقة بسببه، فغدوا يبحثون عن نقاط التقاطع وتوحيد الهدف ضد الاحتلال وحده. هذا ما يُلاحظ مثلاً في مجموعة "عرين الأسود" التي تشكّلت في البلدة القديمة في مدينة نابلس، وهي عابرة للتنظيمات والأيديولوجيات وتضم مقاتلين من كل ألوان الطيف الفلسطيني، وشباب اليسار جزء من هذه الحالة العامة التي برزت فيها بشكل واضح معالم التديّن، من خلال لغة البيانات والوصايا والمقاطع وشهادات المحيطين بهم. 

الخطاب: "معنيٌّ بالإسلام"

ينطلق موقف الشعبية وعلاقتها بالإسلام من فهمها للمجتمع الفلسطيني، الذي غالبية سكّانه مسلمون، ويشكّل الإسلام فيه قيمه وتاريخه. بهذا، وإن كان الفكر اليساري يُتهم بالنخبوية، فإنّ روّاده الأوائل في الشعبية مثلاً، قد عبّروا عنه بلغةٍ سهلةٍ وبسيطة تنسجم مع المجتمع وتعمل معه ولا تتعالى عليه. من ذلك النموذج الذي خطّه غسان كنفاني، الأديب الشهيد عضو اللجنة المركزية للجبهة الشعبية. فمثلاً؛ كان في رواياته وقصصه كثير الاستخدام لمفردة "اليهود" للإشارة إلى المستعمرين الصهاينة، وذلك انسجاماً مع التسميات الشعبيّة، فهو أراد لهذه الأعمال قُرّاءً من عامة الناس من مختلف الفئات والطبقات، فهي في النهاية روايات تعبّر عن مأساتهم وتهدف إلى استنهاضهم، وكأنه بذلك يتفق مع مقولة علي بن أبي طالب: "حدثوا القوم بما يعرفون". وبالطبع، لم يكن ذلك من باب جهله بطبيعة "إسرائيل" الاستعمارية الحديثة، بل على العكس من ذلك، وهو ما تثبته لغته البحثية التي كان يستخدم فيها مصطلحات أخرى أكثر علميّة ودقة. 

اتصالاً مع هذا الفهم، عرّف الحكيم جورج حبش نفسه بأنّه: "مسيحي الديانة، إسلامي التربية، إشتراكي الانتماء". وهي مقولة قد يراها البعض من باب الدعاية السياسية، ولكنّها في الحقيقة تعبّر عن فهم ووعي عميق للواقع الفلسطيني، وعن انسجامٍ مع مجتمعه وتاريخه ومكوّناته الثقافية؛ "إنني في حال انسجام مع قوميتي العربية ومسيحيتي وثقافتي الإسلامية وماركسيتي التقدمية"، كما يقول

لم تتدخل الشعبية في انتماءات الناس الدينية ولم تفتّش فيها واحترمت علاقتهم بالدين، ولم تفرض عليهم ما يخالف معتقداتهم. كذلك الأمر بالنسبة لكوادرها، فاعتبرت الانتماء الديني مسألةً تخصُّ صاحبها وليس للحزب أن يفرض على الأعضاء انتماءً دينياً معيناً. من ذلك قول الحكيم: "كانت الحركات العلمانية الشبيهة بحركتنا مهمة لأنها اعتبرت الدين مسألةً شخصية"،1الثوريون لا يموتون أبداً: حوار جورج مالبرونو مع الحكيم. دار الساقي، الطبعة الأولى، 2009، 576. بل إن في بعض أقواله ما قد يشجّع على السلوك الديني، فكان مثلاً دائم الافتخار بدينه المسيحي وبالقيم التي يمثّلها مما جعله "يشعر بالسعادة عندما يمارسها". وعند هذه النقطة بالتحديد، تفترق الحركات العلمانية عن الحركات الإسلامية، التي ترى بضرورة حضور الدين في الحيّز العام وليس فقط كمسألة شخصية. 

اقرؤوا المزيد: الجبهة الشعبية.. من قال إنّ اليسار قد مات؟ 

بهذا، اهتمت الجبهة الشعبيّة بـ"المسألة الدينية" وحياة الناس الروحية، وأشارت إلى ضرورة إيجاد فهمٍ علميٍّ لهذه المسألة الملحة، كما جاء في الوثيقة التنظيمية للمؤتمر الوطني الخامس بأن هناك "ضرورة امتلاك فهم علمي للمسألة الدينية في ظروفنا الملموسة والاهتمام بالحياة الروحية للناس".2مسيرة الجبهة الشعبية من حركة القوميين العرب حتى المؤتمر الوطني السادس، منشورات الدائرة الثقافية المركزية للجبهة، 2010. من ذلك مثلاً، أنّ الشعبيّة تفرّق بين أحزاب "الإسلام السياسي" والدين كعقيدة، وهذا ما وضحّته الوثيقة السياسية للمؤتمر الوطني السادس: "وهنا لا يجوز أن توضع علامة مساواة بين قوى الإسلام السياسي بما هي قوى وأحزاب وتنظيمـات لها برامج ومواقف وممارسات محددة، وبين الإسلام كدين وعقيدة وفضاء فكري وحضاري لشعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية"، وتتابع الوثيقة ذاتها فتشير إلى "إننا جزء من هذا الفضاء حيث يغدو التراث والحضارة الإسلامية مكوناً عضوياً من مكونات خصوصيتنا الثقافية".3لمصدر السابق. وهذا ينسجم مع مقولة الحكيم: "أنا معنيٌّ بالإسلام بقدر أي حركةٍ سياسية إسلامية".

مسن فلسطيني يحمل صورةً لجورج حبش، مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، خلال مسيرة لإحياء ذكرى وفاته، رام الله، 2008. (عدسة: عباس المومني/وكالة الصحافة الفرنسية).

المسلكيّة الثورية

إلى حدٍّ ما، تنسجم الممارسة اليسارية لأفراد الجبهة الشعبيّة مع الخطاب الوارد في أدبياتها الداخلية وتصريحاتها العامة. ومن أوجه هذا الانسجام ما يظهر في سلوك قائد بحجم الأسير أحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية، فيما رواه أسير حركة "حماس" حسن سلامة حينما وضعهما الاحتلال في زنزانةٍ واحدة ظنّاً منه أنّ اختلاف المعتقدات فيما بينهما سينجم عنه تنافر واقتتال: "وجدت عنده احترام كبير جداً لمعتقداتي الدينية، وتوفير كل الهدوء والراحة من أجل القيام بشعائري الدينية لدرجة تجاوزت تصوري، بل حتى قد لا أجدها عند ممن يحملون نفس أفكاري". 

وقد أشار جورج حبش إلى ملاحظة قد تبدو غريبة ومستهجنة في أيامنا: "وقد بدأنا بالفعل نلاحظ، في داخل الجبهة الشعبية، أن بعض الأعضاء يذهبون إلى المسجد وبعض النساء يرتدين الحجاب".4الثوريون لا يموتون، المصدر السابق، 583. وهو نفسه، ترجم رؤيته ونهجه عملياً، فلم ير غرابةً في الاستشهاد من القرآن الكريم واستخدام نصوص من الإسلام، قد يراها بعض اليساريين "العقائديين" نصوصا "غيبية" لا يعقل التعامل معها. ففي خطابه أمام المجلس الوطني عام 1991، وفي ظلِّ جنوح منظمة التحرير نحو اتفاقيات السلام مع "إسرائيل" وجّه الحكيم رسالته لياسر عرفات قائلاً: "فليكن جوابك باسم 6 ملايين فلسطيني؛ ومن المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً، بهذا نعمّق وحدتنا بهذا نحقق أهدافنا".5فيلم وثائقي بعنوان: الحكيم.. جورج حبش، من إنتاج قناة الجزيرة الوثائقية لعام 2021، الدقيقة 50. 

كذلك، لم تجد الجبهة الشعبية حرجاً في أن تُشارك عام 2006 بملتقى علماء المسلمين في الدوحة، والذي أقيم نصرة للشعب الفلسطيني. وأمثلة مثل هذا التشارك والالتقاء كثيرة، أحدثها المُشاركة والتعاون بين اليسار والإسلاميين في الانتخابات المحليّة والبلديّة هذا العام، والتي نجحت بعضها بالفوز على قوائم السلطة. 

اقرؤوا المزيد: من التصادم إلى التحالف.. أين تلتقي حماس والشعبية؟

إضافةً إلى ذلك، فإنّ الجبهة الشعبيّة تولي اهتماماً بالغاً بالمسائل المُتعلّقة بالمسلكيّة الثورية، والتي تركز على علاقة العضو المُنظّم حزبيّاً برفاقه والجماهير، بالتالي تدفع باتجاه صفات وأخلاق ثورية معيّنة. من هذه المسلكية وجوب احترام الانتماء الديني وحريّة الاعتقاد للأفراد في المجتمع، وضبط سلوك المناضل الثوري تجاه الجماهير وسياق مجتمعه. وتتقاطع العديد من الصفات السلوكية اليسارية مع صفات يدعو الإسلام إليها، كالصدق والأمانة والتضحية والإيثار والشجاعة وغيرها. 

الهدف الأكبر

بالطبع، لا يعني كلّ ما سبق أنّ لا فروقات بين الاعتقاد اليساري والاعتقاد الإسلامي، وأن العلاقة فيما بينهما كانت على خطّ واحد عنوانه الانسجام والتكامل، فهذا إسفاف قبل أن يكون مغالطة تاريخيّة. إذ سُجّلت بعض التجاوزات على مستوى الأفراد، مثل ما أقدم عليه بعض أفراد اليسار أثناء فترة تواجد منظمة التحرير في الأردن من رسم المنجل والشاكوش وكتابة المقولات اليسارية على أسوار المساجد.6شهادة بسام شريفة وممدوح نوفل، الحلقة الرابعة من برنامج حكاية ثورة بعنوان: هانوي العرب، قناة الجزيرة.  

الشعبيّة في نهاية المطاف هي حزب سياسي كفاحي، يسترشد بالنظرية الماركسية اللينينية وجوهرها المنهج المادي الجدلي التاريخي، وبكل ما هو تقدمي وديمقراطي وإنساني تسعى لإقامة مجتمع اشتراكي خالي من الاستغلال،7النظام الداخلي للجبهة الشعبية الصادر عن المؤتمر السادس، الفصل الاول، المادة الثانية. بالتالي فالجبهة فكرياً تقف على النقيض من الحركات الإسلامية. لكن ما أراد المقال توضيحه، هو أنّ الجبهة الشعبية بما هي فكر علمانيّ يساريّ لم تسعى إلى إلغاء الدين، والإسلام على وجه الخصوص، بل على العكس غرفت منه أحياناً وتفاعلت معه باعتباره المكوّن الحضاري والتاريخي والثقافي لمجتمعنا الفلسطيني. 

لم تعادي الجبهةُ الشعبية الإسلامَ، بل كانت مدركةً لأهميته كمكوّنٍ اجتماعيّ وتراثيّ أصيل من مكونات الشعب الفلسطيني، ورأت ضرورةً في التحالف مع تنظيمات إسلاميّة كحركة "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، وذلك بالرغم من الاختلافات والخلافات. يقول الحكيم: "ما يفصلنا عن الإسلاميين هو تناقضات ثانوية علينا أن نضعها جانباً، والأولوية هي لتحالفنا مع جميع حركات المقاومة"،8الثوريون لا يموتون، المصدر السابق، 588. أي أن هناك خلافات في قضايا اجتماعية وفكرية، ولكن الهدف الاستراتيجي واحد؛ وهو التحرر من الهيمنة الأميركية والإسرائيلية في المنطقة.



12 أكتوبر 2019
أين تتعثر الكتابة؟

منذ انطلاق متراس في مايو/ أيار 2018، وبعد تجربة قصيرة شهدت الكثير من النقاشات بين محرري الموقع وبين الكتاب والصحافيّين،…