توقفت المعارك في مخيّم عين الحلوة في لبنان وانجلى غبارها بعد أن خلّفت 14 قتيلاً و60 جريحاً، في حصيلة غير نهائية. بدأ أهالي المخيّم بالعودة التدريجية إلى منازلهم بعد نزوحهم عنها ومعاينة الأضرار، فيما أُعلن عن تشكيل لجنة تحقيق فلسطينيّة للبحث عمّن قتل قائد الأمن الوطني في صيدا أبو أشرف العرموشي.
لكن أهالي المخيم يعرفون أنّ هذه الجولة غالباً لن تكون الأخيرة، فمنذ خروج قوات منظمة التحرير من لبنان تحولت المخيّمات الفلسطينية إلى ساحةٍ لتصفية الحسابات والتجاذبات السياسيّة وصندوق بريدٍ للقوى المحليّة والإقليمية، وقد ظلّ أمنها واستقرارها ورقةً تعصف بها رياحُ فوضى السلاح وغياب المرجعيات الوطنيّة المسؤولة وتعدد الولاءات والأجندات.
في هذا المقال تلخيص لما حدث وتعريف بأبرز التشكيلات والجهات الموجودة في مخيم عين الحلوة، في محاولة لفهم المشهد وتطوراته المحتملة مستقبلاً.
شرارة المعارك
بدأت الأحداث الأخيرة التي شهدها مخيّم عين الحلوة مساء السبت 29 تموز/ يوليو الماضي بعد تعرّض القيادي في تنظيم "جند الشام" محمود خليل، الملقّب بـ"أبو قتادة"، لمحاولة اغتيال، أُصيب على إثرها بجروحٍ متوسطة، فيما قُتل اثنان كانا يرافقانه، وجُرِحت طفلتان. تشير أصابع الاتهام في تنفيذ هذا الاغتيال إلى محمد زبيدات الملقّب بـ"الصومالي" الذي ينتمي لحركة "فتح". وأعقب العملية إطلاق رشقاتٍ من أسلحةٍ رشاشة ومتوسطة، وقنابل يدويّة وانفجار قذائف صاروخيّة.
تعود جذور العداوة بين آل الزبيدات المحسوبين على حركة "فتح" وبين تنظيم "جند الشام"، إلى خلافٍ وقع مطلع مارس/ آذار الماضي حين قُتِلَ شقيق الصومالي، محمود الزبيدات على يد خالد علاء الدين الملقّب بـ"الخميني"، وهو أحد المنتسبين لـ"جند الشام"، وقد طُوقّت الاشتباكات في حينه بعد تعهد الإسلاميين بتسليم الخميني للقضاء اللبنانيّ. في حين يقول آخرون إنّ المعارك الحالية لها دوافع وأسباب أخرى، يراد لها أن تأخذ الطابع العشائري للتغطية على الأهداف والجهات الحقيقيّة التي تقف خلفها.
في اليوم التالي لمحاولة الاغتيال تلك حاول العميد أبو أشرف العرموشي، قائد قوات الأمن الوطنيّ في صيدا، نزعَ فتيل المواجهة عبر التعهد للإسلاميين بتسليم الصومالي للقضاء اللبناني، مقابل وقف إطلاق النار. وقالت في حينه مصادر في "فتح" إنَّ العرموشي أجرى اتصالات مكثّفة مع القيادي في "الشباب المسلم" هيثم الشعبي لتأمين عملية التسليم، إلا أنه أثناء تنفيذ ذلك وقع في كمين محكم لجهةٍ مجهولةٍ في منطقة البركسات، قُتِل على إثرها مع أربعة من مرافقيه بطريقةٍ أشبه بالاعدام الميدانيّ. الأمر الذي يرجح وجود قرار مسبق بتصفية العرموشي ودفع المواجهات إلى أقصاها.
يُعدُّ أبو أشرف العرموشي من صقور حركة "فتح" في لبنان، كما أنّه مقرّب من رئيس الفرع الماليّ في "فتح" منذر حمزة، والسفير الفلسطينيّ في لبنان أشرف دبور، وهما من المقرّبين من رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية ماجد فرج، الأمر الذي أدى لتأويل عملية الأغتيال لدى بعض المحللين في سياق الردّ على زيارة الأخير للبنان.
ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الجيش اللبناني كان قد عزّز قبل أيامٍ قليلة فقط إجراءاته حول مداخل المخيم، بعد حصول استخباراته على معلوماتٍ عن عودة بعض "المطلوبين" الى المخيّم من سوريا، ما يرسم الكثير من علامات الاستفهام ويثير العديد من التساؤلات حول خلفيات ما حصل. فيما تناقلت وسائل إعلام لبنانية خبر عودة بلال بدر، مؤسس مجموعات "الشباب المسلم"، وأحد أهم المطلوبين الإسلاميين للسلطات اللبنانية، وصاحب السجل الطويل من المواجهات مع حركة "فتح".
وهكذا انفجرت الأوضاع من جديد إثر الضربة القاسية التي تلقتها "فتح" باغتيال العرموشي ومرافقيه، وقد حمّلت المسؤوليةَ لـ"جند الشام" ومجموعات "الشباب المسلم" بقيادة الشعبي وبلال بدر.
في المقابل، تقول مصادر من أوساط هذه الجماعات إنّ قراراً اتخذ من قبل قيادة "فتح"، بالتنسيق مع الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية اللبنانية، بإنهاء الجماعات السلفية الجهادية في المخيم أو إضعافها إلى أقصى حدٍّ ممكن. بينما يحيل البعض ما جرى من معارك إلى صراع مراكز القوى والنفوذ داخل البيت الفتحاويّ.
خارطة النفوذ الفتحاوي في المخيم
تنظر "فتح" للساحة اللبنانية باعتبارها الساحة الرئيسية الثانية بعد الداخل، وبناءً على هذا التوجه نستطيع فهم التركيز والاهتمام الذي توليه الحركة من خلال جميع أطرها ومؤسساتها في هذه الساحة، سواء الرسمية التابعة للسلطة كالسفارة والقنصلية، أو المؤسسات التابعة لمنظمة التحرير، أو المؤسسات والأطر التابعة للتنظيم.
ويتصدر أجندة "فتح" في لبنان عنوانان رئيسيان يمثّلان أولويّة سياسيّة وأمنيّة وعسكريّة لها في هذا بلاد الأرز، الأولى مسألة احتكار السيطرة العسكرية في المخيمات وعدم التسامح مع ظهور أي قوّة مسلّحة تقاسمها النفوذ. وفي هذا السياق تأتي في مقدمة التهديدات الجماعات الاسلامية المسلحة ذات التوجه السلفي الجهادي، من ثم حركة "حماس" الخصم التقليدي لـ"فتح"، يليها ما يسمّى "التيار الإصلاحي الديمقراطي" التابع لمحمد دحلان. وربما تتبدل هذه التراتبية بين منطقة وأخرى بسبب اختلاف أوزان القوى والفصائل بين مخيم وآخر. والعنوان الثاني يتمثّل في احتكار تمثيل اللاجئين الفلسطينيين وعدم السماح لأي طرف بمنازعة "فتح" مسألة التمثيل أو القرار الفلسطينيّ في لبنان، سواء كانت الجهة المنازعة لبنانيّةً أم فلسطينيّة.
بموجب اتفاق إدارة المخيّمات المُوقَّع بين الدولة اللبنانيّة ومنظمة التحرير في العام 1969 في العاصمة المصريّة القاهرة، تتولّى منظمة التحرير مسؤولية إدارة المخيمات، فيما تخضع الخدمات الصحيّة والتعليميّة والإغاثيّة لوكالة "الأونروا".
حتى مطلع التسعينيات كان جهاز الكفاح المسلح بقيادة "فتح" يتولى مسؤولية ضبط الأمن في المخيمات الفلسطينيّة، وبعد اتفاق أوسلو سُلّمت هذه المهمة لقوات الأمن الوطنيّ التابعة للسلطة.
يقود الأمن الوطني في لبنان اللواء صبحي أبو عرب، ويعتبر اللواء منذر حمزة المسؤول المالي لـ"فتح" في لبنان صاحب نفوذ كبير في هذا الجهاز، وتشير بعض المصادر من أوساط الحركة أن الأمن الوطني يتلقى دعماً أوروبيّاً لمحاربة ما يُسمّى "الإرهاب" في المخيمات، الأمر الذي يُتهم على أساسه بعض عناصر الأمن الوطني بافتعال اشتباكات بين فينة وأخرى بغية استمرار ذلك الدعم.
دبلوماسيّاً يمثّل السفير أشرف دبور واجهة الحركة والسلطة، في حين يتولى اللواء فتحي أبو العرادات مسألة تمثيل "فتح" أمام الفصائل الفلسطينية والأحزاب اللبنانية، ويعتبر من صقور "فتح" في لبنان. أما موقع مسؤول إقليم لبنان في الحركة فهو أقرب للموقع الرمزي ويديره الدكتور رياض أبو العينين، نجل اللواء سلطان أبو العينين، ومدير مشفى الهمشري التابع للهلال الأحمر الفلسطيني.
أما تيار دحلان، فيقوده العميد محمود عيسى "اللينو" الذي كان قائد الكفاح المسلّح في عين الحلوة قبل أن يُفصل من "فتح"، ويُجرّد من رتبته العسكريّة بقرار من اللجنة المركزيّة لحركة "فتح" في رام الله عام 2013. ينشط التيار في مخيمات لبنان، وقد حصلت عدة مناوشات عسكرية بين عناصره بقيادة اللينو وبين الأمن الوطني في عين الحلوة، قبل أن تنكفئ جماعة اللينو تحت ضغط "فتح" وأجهزتها في عين الحلوة، وباتت تكتفي بالأنشطة والفعاليات ذات الطابع المدني وتتجنب المواجهات المسلحة، إلا أن العلاقة بين الجانبين لا تزال توصف بأنها متوترة.
View this post on Instagram
"الجماعات الإسلامية"
يتواجد في مخيم عين الحلوة عدد من الجماعات التي توصف بأنها "إسلاميّة سلفيّة". أبرزها "جند الشام"، ويوصف بأنّه قريب من فكر تنظيم القاعدة، تأسس في المخيّم من مجموعات شبابيّة فلسطينيّة ولبنانيّة، وكان قوامه ثلاث مجموعات مقاتلة: مجموعة "أسامة الشهابي" ومجموعة "عماد ياسين" و مجموعة "غاندي السحمراني". قُتِل السحمراني في ظروفٍ غامضة عام 2010، وفي عام 2016 اعتقلت مخابرات الجيش اللبناني عماد ياسين.
أما "حركة الشباب المسلم" فظهرت في النصف الأول من العام 2015، وضمّت قيادات وعناصر من تنظيمي "جند الشام" و"فتح الإسلام" المتورطين بمعارك ومواجهات سابقة مع حركة "فتح". ومن أهم قادة "الشباب المسلم" بلال بدر وأسامة الشهابي وزياد أبو النعاج و جمال حمد وهيثم الشعبي. وقد أخذت البيعة لأسامة الشهابي أميراً للتنظيم، وبدأ أعماله بتنفيذ عمليات اغتيال داخل المخيم. يتراوح عدد عناصر "الشباب المسلم" حوالي 200 عنصر، استطاعوا التمدد داخل مخيم عين الحلوة والاستيلاء على عدة أحياء على حساب حركة "فتح".
وفي 16-8-2016 أعلن أسامة الشهابي حل "الشباب المسلم" في مخيم عين الحلوة نتيجة تفرد بلال بدر بقرار المواجهة مع "فتح"، وبهدف رفع الغطاء عنه، وتوزع معظم عناصر التنظيم على العصبة والحركة الاسلامية المجاهدة، بينما قرر آخرون الاستمرار بولائهم للشيخ أسامة الشهابي والتحق آخرون ببلال بدر.
وبلال بدر من مواليد مخيم عين الحلوة عام 1984، كان يحسب على اليسار الفلسطيني قبل أن يُغيّر قناعاته وينتقل إلى صفوف المجموعات السلفية. يمتلك خبرةً في صناعة المتفجرات، واتخذ من حي الطيرة مقراً له، متزعماً مجموعات تحمل فكر "تنظيم القاعدة" تارة ينسبها لـ"جبهة النصرة" وتارة لـ"فتح الإسلام" أو "جند الإسلام". برز اسمه بالذات في الفترة ما بين عامي 2011 - 2015، وقد اتهمته الفصائل الفلسطينية بالضلوع بعمليات اغتيال كوادر فلسطينية.
في نيسان/أبريل 2017 اندلعت اشتباكات بين مجموعة بدر (الشباب المسلم) والقوة الأمنية المشتركة، أعلنت على إثرها القيادة السياسية الفلسطينية المشتركة في مدينة صيدا قرارها بانتشار القوة الأمنية المشتركة (قوة مشكلة من جميع الفصائل الفلسطينية) في حي الطيرة بأكمله وتفكيك مجموعات بلال بدر بشكل نهائي. وتضاربت الروايات بشأنه، منها ما قال بأنه انتقل إلى الشمال السوري ومنها ما أكد بأنه توارى عن الأنظار داخل المخيم.
تنظيمات أخرى ليست طرفاً..
تعتبر "عصبة الأنصار" أكبر تنظيم إسلامي داخل مخيم عين الحلوة، أسسها الشيخ هشام شريدي، وهو قيادي سابق في حركة "فتح" قبل أن ينشق عنها ويلتحق بـ "حزب التحرير" خلال حرب المخيمات منتصف الثمانينات .
تعرّض الشيخ هشام الشريدي خريف عام 1991 لعملية اغتيال اتهمت حينها حركة "فتح" بالمسؤولية عنها، تولى "أبو محجن" أحمد عبد الكريم السعدي إمارة العصبة وقد توارى عن الأنظار بعد اعتراف عناصر من العصبة بتنفيذ عملية اغتيال رئيس "جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية" الشيخ نزار الحلبي عام 1995، واعتباره منذ ذلك الوقت مطلوباً للسلطات اللبنانية.
أجرت العصبة مراجعةً فكريّةً وسياسيّةً، وانضمّت إلى هيئة العمل الفلسطيني المشترك، وأصبحت تنسق مع الدولة اللبنانية والفصائل الفلسطينية الأخرى. الأمر الذي أدى لحدوث انشقاقات في صفوفها، وشكل بعض المنشقين عنها تنظيم "جند الشام"، فيما التحق آخرون بتنظيم "فتح الإسلام" أو تنظيم الدولة أو جبهة النصرة. وقد أعلنت العصبة منذ بداية المواجهات الحالية أنها ليست طرفاً فيها.
أما الحركة الإسلامية المجاهدة فتعتبر أقدم الحركات الإسلاميّة المسلّحة داخل المخيم، تأسست عام 1976، وتزعمها الشيخ حامد أبو ناصر. وبرز من قادتها الشيخ عبد الله حلاق، والشيخ إبراهيم غنيم، والشيخ جمال خطاب الذي يتزعم الحركة حالياً وهو داعية إسلامي يوصف بأنه معتدل، ويحظى باحترام في صفوف جميع الفصائل. أنشأت "الحركة المجاهدة" مجموعة عسكرية يتراوح تعدادها بين 100 و150 عنصراً، شاركت في مقاومة الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وبعد اتفاق الطائف وانتشار الجيش اللبناني في محيط المخيم، حافظت الحركة على وجودها المسلّح، لكنها توجهت أكثر نحو العمل الدعوي وحققت انتشاراً في المخيمات الأخرى، وتتخذ من مسجد النور داخل مخيم عين الحلوة مقراً لها، وهي كذلك ليست طرفاً في المعركة الأخيرة.
يُذكر أنّ المخيّم ينقسم إلى مربعاتٍ أمنيّة، تخضع كل منها لسيطرة إحدى الفصائل الفلسطينية والتنظيمات الإسلامية. فمثلاً تقع منطقة البركسات في الجهة الشمالية الشرقية للمخيم، وتخضع لسيطرة حركة "فتح" وفيها مقر قيادة الأمن الوطنيّ الفلسطينيّ. ويقع "مخيم الطوارئ" وسط المخيم، وتسيطر عليه "جند الشام" و"عصبة الأنصار". وفي المنطقة الوسطى كذلك حيث يقع سوق الخضار تتقاسم النفوذ قيادات من حركة "فتح"، إذ يسيطر اللواء منير المقدح وبعض الفصائل الإسلامية كما تتواجد فيها الجبهتان "الشعبية" و"الديمقراطية"، وكان فيها تواجد سابقاً لتيار دحلان، إلا أنه انحسر لحساب اللواء منير المقدح بعد مناوشات حصلت بين الطرفين.