في سماء مخيّم عقبة جبر جنوب غرب أريحا، انكسر ضوءُ الشمس في السابع من شباط/فبراير 2023 وتحلّل إلى قوسٍ كبيرٍ من الألوان، يُشير إليه أطفالُ المخيم ويتسابقون محاولين الوصول إليه. رغم الجوّ البارد، يقفز الأطفال خلال ركضهم داخل برك المياه، وتعلو ضحكاتهم. أحدهم يقول إنّ هذه الألوان هي أرواح الشهداء الخمسة، فيُسرع الأطفال أكثر محاولين ملامستها.
تحت قوس الألوان كان حزنٌ ثقيلٌ يحلُّ على المخيم؛ المحال مُغلَقة، الصمت مطبق، النساء يُسرِعن عبر الأزقة مجموعاتٍ مجموعاتٍ وصولاً إلى منازل عائلات الشهداء. والرجال يتجمعون في خيمة العزاء حيث يستقبلون الوفود المُعزِّية.
وبالقرب مركبةٌ محروقة، أصبحت مزاراً لفتية المخيم وشبانه، شاهدةً على امتداد حالة المقاومة في الضفّة الغربيّة إلى جغرافياتٍ جديدة، وهي المركبة التي نُفّذت من خلالها عملية إطلاق نارٍ في كانون الثاني الماضي.

فجر الاثنين السادس من شباط/ فبراير سال الدم، وقدّم المخيّم عطاءً جديداً. إذ تصدّى المقاومون بالنار وخاضوا اشتباكاً مع قوّةٍ لجيش الاحتلال اقتحمت المخيّم وحاصرتهم. وفي أزقة المخيم، خرج الشبانُ والفتية يُغلِقون الطرقَ ويتصدّون بالحجارة.
بعد وقتٍ، توقف صوت الرصاص، لكن لا خبر يُطمئن الأمهات، إلا أنّ قلوبهنّ تيقَّنت بما حلّ بأبنائهنّ المقاومين. كانت بسمة حسن عبد الفتاح (58 عاماً) تتنقِـلُ من نافذةٍ إلى نافذة علّ نبأ ما يصلها، تقول: "فجأة دبّتْ النار بقلبي وخنقتني.. فعرفت أن ثائر استشهد".
انسحب جيشُ الاحتلال من المخيّم تاركاً جرحاً غائراً في قلبه، وقد أعلن اغتيال خمسة مقاومين، هم الشهداء: الشقيقان إبراهيم ورأفت وائل عويضات، ومالك لافي، وأدهم مجدي عويضات، وثائر خالد عويضات. إضافةً إلى إصابة مقاومين اثنين آخرين بجروحٍ خطيرة قبل اعتقالهما، وهما: علاء وعوض عويضات.
أريحا على خارطة النضال
سطع نجمُ المخيّم مساء السبت 28 كانون الثاني/ يناير، بعد أن أطلق رأفت وائل عويضات (21 عاماً) ومالك لافي (22 عاماً) النارَ على مطعمٍ إسرائيلي قرب مستوطنة ألموغ جنوب أريحا، قبل أن ينسحبا بسبب خللٍ في السلاح، حسب فيديو صورته كاميرات المراقبة الإسرائيلية في المكان.
جاءت هذه العملية بعد يومٍ واحدٍ من عملية إطلاق النار التي نفّذها الشهيد خيري علقم في مستوطنة النفيه يعكوف في القدس والتي أودت بحياة سبعة مستوطنين، وبعد يومين من عمليةٍ عسكريّةٍ نَفَّذها جيش الاحتلال في مخيّم جنين استشهد خلالها 10 فلسطينيين. أي أنّها جاءت في سياق تصاعدٍ جديد لحالة المقاومة في الضفّة الغربيّة والقدس.
اقرؤوا المزيد: "لم أرَ مثل ذلك في حياتي من قبل".. جنين يوم المجزرة
بتنفيذ رأفت ومالك العملية أعلنا انضمام أريحا إلى الجغرافيات المُشتبكة، تلك التي تشهد حالةَ مقاومةٍ مُسلّحةٍ متصاعدةٍ منذ نحو عامين. تحدّى المُنفِّذان الواقعَ الأمنيّ المعقّد المفروض على أريحا، إذ من جانب يعتبرها الاحتلال من المناطق الآمنة نسبيّاً على مستوطناته، ومن جانبٍ آخر، تتخذها السلطة الفلسطينيّة مقرّاً لعدد من مؤسساتها الأمنيّة، وتمارس على الدوام قمعاً وملاحقة لأي مقاومٍ أو حالة مقاومة تنشأ فيها.

عقب انسحاب رأفت ومالك إلى حضن مخيّمهما، تشكّلت حولهم مجموعة حاضنة أطلقت على نفسها "كتيبة عقبة جبر"، وأعلنت أنّها جزءٌ من "كتائب الشهيد عزّ الدين القسّام"، الذراع العسكريّ لحركة "حماس"، حسب مقطع مصور تحدّث فيه الشهيد رأفت. ثمّ توالت بيانات الكتيبة على قناةٍ خاصّة لها على تطبيق "تيلغرام"، وقد بدا أنّ المجموعة الوليدة حاولت اتّباع خطى المجموعات المُسلَّحة في نابلس وجنين في تواصلها مع الحاضنة الشعبيّة.
اقرؤوا المزيد: "كيف تحضر انتفاضة الأقصى فينا الآن؟"
من ناحيةٍ أخرى فقد تبنّت "سرايا القدس" الشهيد ثائر عويضات، أحد شهداء فجر الاثنين، مما يُشير إلى أنّ الكتيبة احتضنت عناصر من حركة الجهاد الإسلامي، وهو ملمحٌ مُلاحَظ في المجموعات المُسلّحة مؤخراً، إذ تجمع في صفوفها عناصر من فصائل متعددة، مُستعيدةً بذلك ملمحاً من ملامح العمل العسكريّ في انتفاضة الأقصى.
الاشتباك الأول والصورة الأخيرة
السبت، الرابع من شباط/ فبراير 2023، نفّذت الكتيبة أولى اشتباكاتها المسلّحة ضدّ جيش الاحتلال داخل مخيّم عقبة جبر، خلال اقتحامٍ عنيف شهده، تركّز بالقرب من منازل عائلة عويضات. تخلّل الاقتحام استخدام الجيش قذائف الأنيرجا، وإطلاقاً كثيفاً للرصاص، وقد سُجّلت خلاله 13 إصابة، واعتُقل 15 شاباً من أقارب عناصر الكتيبة في محاولة للضغط عليهم لتسليم أنفسهم.
تُردِّد العائلة على لسان أفرادها: "راحوا الغوالي، ع شو نزعل" معلقين على ما تعمّد الجيش إلحاقه بمنازلهم وممتلكاتهم في ذلك اليوم. كان منزل أحد أبناء العمومة، عادل حسن عويضات (61 عاماً)، قد قُصِف حينها بقذائف الأنيرجا، ثمّ هدمت جرافة إسرائيليّة أجزاءً منه. يقول عادل: "اتصلوا علينا بعدما بدأوا بهدم المنزل، وقالوا لنا سلّموا المقاتلين، وطالبونا بالخروج". وأشار عادل أنّه تعرض وأبناؤه لتحقيقٍ ميدانيّ قاسٍ وضربٍ وتنكيلٍ لمدة ثماني ساعات، ولكنّهم فور الإفراج عنهم وعودتهم، بدأوا بإعادة إعمار منزلهم.

كذلك دمّرت جرافات الاحتلال ذلك اليوم مزرعةَ دواجن يملكها أمين عويضات، الذي قدّر خسائره بحوالي 600 ألف شيكل. يُعلِّق أمين: "فجأة حضرت الجرافة وبدأت بهدم المزرعة دون أي إنذار، ودون أي سبب، كان يهدمون بهدف الانتقام منا". ويضيف: "كنت أقول فدا ولاد عمامي، المهم ما يصيبهم شي.. ولكنهم راحوا واستشهدوا".
بعد انتهاء ذلك الاقتحام، ظهرت لأوّل مرةٍ صورٌ ومقاطع فيديو توثّق بعض عناصر الكتيبة، ستبقى شاهدة على محاولاتها ونشاطها وسط كثافة القمع والملاحقة. إحدى هذه الصور هي الذكرى الأخيرة التي تركها أدهم لوالدته هنادي محمد عويضات (41 عاماً)، فلا تكفّ عن تأملها والنظر فيها.

يقف أدهم (23 عاماً) في الصورة بلباسِهِ العسكريّ، مُلثّماً، يحمل سلاحه، ويحمي ظهر رفاقه خلال انسحابهم. تقول هنادي: "كان أدهم ملتزماً بصلاته وصومه، كان طيباً وخلوقاً، كان محبوباً عند الجميع، دائماً كان حريصاً أن لا ينزعج منه أحد".
نال أدهم شهادة الدبلوم في الكهرباء، وعمل في هذا المجال حتى استشهاده. تضيف والدته: "أدهم كان مثل كل الشباب يحب الفرفشة والحياة، وقبل استشهاده بفترة قصيرة أخبرني أنه يريد أن يخطب". سؤال أدهم، دفع الأمّ للتفكير والتخطيط لعرس نجلها الذي سيتحدث عنه الجميع: "كنتُ أخطط لأعمله أحلى عرس، عرس يحكي عنه كل العالم.. ولكن قلبي كان حاسس اني رح أفقد أدهم".
لم يسلب الاحتلال هنادي ابنها الشهيد فقط، إذ اعتقل زوجها مجدي عويضات (46 عاماً)، وترك دماراً كبيراً في منزلهم بعد اقتحامه.
السعي نحو "العلامة الكاملة"
لا يختلف تعريف الأمهات لأبنائهن المقاومين في "كتيبة عقبة جبر" شيئاً عن بعضهن البعض. فتفتح والدة الشهيدين رأفت وإبراهيم وائل عويضات حديثها عنهما: "كلاهما ملتزم بالصلاة والصوم، عطوفين على الآخرين وحنونين على الجميع، كل الصفات فيهم.. كانوا يقولون بدنا العلامة الكاملة في الدنيا، ولكني كنت أفكر ماذا أكثر من هذه الصفات".
أكمل الشقيقان دراستهما، إذ درس إبراهيم (28 عاماً) العلاج الطبيعي، ودرس رأفت (22 عاماً) هندسة السيارات. تقول والدتهم: "كان إبراهيم يغنيلي طول الوقت، كلما دخل وخرج يغنيلي". وتبين أنّ الشقيقين حرصا على إقامة وليمة للعائلة قبل استشهادهما.

تأثر الشقيقان إبراهيم ورأفت بتصاعد حالة المقاومة المسلحة، فكانا يحتفلا عند كل عملية، ويوزّعان الحلوى على أهالي المخيم، ويطلقون الألعاب النارية، وقد كانت آخر احتفالاتهم حينما نفذ الفتى محمد عليوات عمليته في سلوان. تُعلّق والدتهم: "ماذا صنعهم إلا الأحداث الأخيرة.. كانوا يشعرون بالغضب والاختناق، ويتفاعلون مع كل حدث".
أما بسمة والدة الشهيد ثائر، فتستذكر الاعتقال الأول لنجلها حينما كان يبلغ من العمر 15 عاماً، وقد اعتقل خلال توجهه لتأدية العمرة، وذلك بعد توجيه تهم له بإلقاء الحجارة، وقضى حكماً بالسجن 6 شهور. وقبل عامين، اعتقل جيش الاحتلال ثائر مجدداً لمدة شهر، وجّه له تهمة حيازة سلاح. تقول بسمة: "كانت المقاومة في دمه.. طلب الشهادة ولم يكن يريد غيرها بالحياة". أسرعت بسمة بتزويج نجلها ثائر ما أن أكمل عامه الـ 19، وأنجب أربعة أطفال. تضيف بسمة التي غابت البسمة عن وجهها: "زلمة ثائر، فش بالدنيا مثله، بطل والله والكل بحبه.. وين ما راح محبوب".
حصار بمختلف الأشكال
جاء نضال شباب "كتيبة عقبة جبر" امتداداً لفعل المواجهة المستمرة التي يشهدها المخيم، خاصّةً كونه المدخل الرئيس الذي يقتحم من خلاله جيش الاحتلال مدينة أريحا، وبالقرب منه يقع معسكر للجيش (فيريد يريحو). كما يشهد مدخل المخيّم في كثيرٍ من أيام الجمع مواجهاتٍ مع الاحتلال. "مش عادي يمر الجيب وما نطبش عليه… ما فينا دم لو صار هالحكي"، يُعلّق أحد الشبان. ويضيف آخر أنّ أزقة المخيّم "بتولع" في كل اقتحام.
تشهد شوارع المخيم التي يكسوها السواد من أثر الإطارات المطاطية المحروقة أنّ المواجهة اشتدّت في الأيام الأخيرة، وقد ساهمت بطريقتها في توفير غطاءٍ للمقاومين، وعرقلة اقتحامات الجيش، ولو لبضع الوقت. وقد لبّى الشبان نداءات مسجد المخيم التي علت مطالبةً بالتصدي للاقتحام، فاجتمع نداءُ حيّ علي الجهاد، مع دوي الرصاص وحجارة الشبان.
عدا عن حصار الاحتلال، تُحيط مقرات أجهزة السلطة الفلسطينيّة بمخيم عقبة جبر، كمعسكر تدريب قوات الأمن الوطني الذي يقع على مدخله، وكذلك مركز العمليات العسكرية. وقد شكّل وجود هذه المقرات رمزاً لردع السلطة ومحاولة قمعها للمقاومة.
وشهد أيلول/سبتمبر 2021، مواجهاتٍ عنيفة بين أهالي مخيم عقبة جبر وأجهزة السلطة، وذلك إثر مقتل الشاب أمير اللداوي (22 عاماً) عقب انقلاب سيارته بعد ملاحقته من قوات الأمن الوقائيّ. كان ذلك بعد قمع مسيرةٍ رُفعِت فيها أعلام حركة "حماس" خلال استقبال الأسير المحرر شاكر عمارة (أعيد اعتقاله بُعيد عملية ألموغ). وقد كشفت هذه الحادثة عن توترٍ ما زالت آثاره قائمة حتى اليوم.
View this post on Instagram
كذلك أُصيب في تلك الحادثة، الشهيد مالك لافي (22 عاماً) وهو أحد مقاومي "كتيبة عقبة جبر". وتشير مصادر مُقرّبة أنّ معظم شباب الكتيبة تعرّضوا للملاحقة بين اعتقالٍ واستدعاء من قبل أجهزة السلطة، وحُقِقَ معهم على تهم الانتماء لـ"حماس" وتعليق رايات الحركة، مثل المعتقل (لدى الاحتلال حالياً) المُصاب حسن عويضات، إذ خضع لاعتقال لدى السلطة لستة أيام مؤخراً. كما استُدعي الشهيد ثائر عويضات وحقق معه على تهمة حيازة سلاح.
ويتوقع شبان المخيّم أن تُكثِّف أجهزة السلطة من عملها في عقبة جبر، وأن تشن حملة جديدة من الاستدعاءات والاعتقالات. وهو الأمر ذاته أيضاً بالنسبة لجيش الاحتلال. يُعلّق أحد الشبان، "ولا بفرق علينا، مش قلقانين، مقاومة المخيم ما انتهت والطريق طويل".
الطريق إلى دير الدبان
كان إبراهيم، أحد شباب الكتيبة، يحاول شقّ درب العودة إلى دير الدبان، القرية في قضاء الخليل التي هُجّرت منها عائلته عام 1948. كان كثير السؤال عن قريته، يهمّه البحث عن وثائق أملاك العائلة فيها. فوزي المقيطي عويضات (73 عاماً)، الذي يُعرِف اليوم نفسه أنّه جدٌّ لثلاثة شهداء (الشقيقين إبراهيم ورأفت، وأدهم)، يقول: "إبراهيم كان لحوحاً جداً بأسئلته، وكان يلومنا لماذا تركنا القرية، ويطلب مني البحث عن وثائق تثبت ملكيتنا فيها".

تحت ضغط من إبراهيم وباقي الأحفاد سافر الجدّ في إحدى السنوات إلى الأردن وقابل أحد رجال عشيرة عويضات، ممن هُجّروا أيضاً في النكبة، وعاد ببعض الإجابات لأحفاده، إجابات لم تكن كافية. إذ يبدو أن الإجابة الكافية لهم هي العودة ذاتها، فسعوا لها بسلاحهم.
في صف العزاء الأول يجلس الجدّ فوزي يستقبل المعزين، ويتأمل الفتية في العزاء وهم يتسابقون في ترتيب المقاعد، وتقديم القهوة والماء، يُذَكِّرونه بأحفاده الشهداء كيف كانوا يتسابقون لتقبيله ومساعدته. يقول الجدّ: "استيقظت اليوم ولم أجد أدهم على الكنبة حيث اعتدته.. بكيت كثيراً.. لم نعتد غيابهم بعد".
وهكذا حال المخيم، لم يعتد غياب الشهداء الخمسة بعد، الكل يتلفت بحثاً عنهم، فقد كانوا سنداً في كل حدث. ولكن الطفل سامي عويضات (6 أعوام)، من أبناء العمومة، اختار المقبرة طريقاً للبحث عنهم، والتأكد من نبأ استشهادهم. لم يجد قبورهم، ولم ترق له الإجابة أنَّ جثامينَهم محتجزة، ليغادر غاضباً بحثاً عنهم في مكانٍ ما آخر، ربما هناك عند قوس الألوان، كما كان يقول الأطفال.