6 يوليو 2023

مخيم جنين: الدولة النوويّة في مواجهة نصف كم2

مخيم جنين: الدولة النوويّة في مواجهة نصف كم2

بدأ العدوان الإسرائيلي على جنين ومخيمها فجر الاثنين الثالث من تموز/ يوليو 2023، وبحسب جيش الاحتلال، فإنّ الخطّة لهذا الاجتياح وُضِعَت قبل حوالي عام، ولكن أُجل تطبيقها عدة مرات وأُجريت عليها عدة تعديلات. 

لضمان أفضل النتائج، شارك في هذا العدوان ما يقارب 1000 جندي إسرائيلي من كتائب ووحدات مختلفة: وحدة "إجوز" المختصة بقتال المجموعات غير النظاميّة في مناطق سكنية مكتظة، ووحدة "اليمام" الشهيرة بعمليات الاعتيال، ووحدة "ماجلان" المختصة بتدمير أهداف نوعيّة في قلب ساحة المعركة، ووحدة "سيفن" المختصة بجمع الوثائق والعينات والأغراض التي تساعد في الكشف عن شبكات المقاومين، وعناصر من جهاز "الشاباك"، وغيرها من المسميات والتخصصات، عدا عن إقامةٍ مركز لإدارة عمليات الجيش شمال حاجز الجلمة. 

أخذناك في جولةٍ في كلِّ هذه الأسماء التي تبدو "فخمة"، ليس لغرض حفظِها بالطبع، فقط لكي نقول لك إنّ المواجهة بين الدولة النوويّة ومخيم جنين الذي لا تزيد مساحته عن نصف كيلو مترٍ مربع، تجعل من أي نتيجةٍ، مهما كانت، مفارقةً ساخرة، فما بالكم لو أنّ النتيجة كانت أنّهم انسحبوا دون أن يُحقّقوا شيئاً يذكر.  

أعلنت الدولة النوويّة، وصاحبة "الجيش الذي لا يُقهر" في نظر من لا يُريد مقاومته، أنّ هدفها هو ترميم الردع. ولم تنتبه أنَّ هدفَ الحملة بذاته، حتى لو تحقّق، يُعتبر إهانةً ثقيلة، فأيّ ردع تقصده أمام فتيةٍ في مطلع العشرينيات من العمر، يقطنون في مخيّمٍ محاصر، وخبرتهم العسكريّة الوحيدة هي ذكرى حدّثهم بها الآباء عن مقاتلين اختاروا أن يحفروا أسطورةً بأجسادهم في انتفاضة الأقصى عام 2002، فتركوا ميراثاً ثقيلاً لأجيال لاحقة.

اقرؤوا المزيد: "هل نحن في انتفاضة؟"

معاركنا وإن لم يكن فيها انتصارٌ حاسم، فإنّ نصرها الأساسي يتجلّى في نوع الذاكرة الذي نورّثه لمن بعدنا؛ كيف يريد كلّ جيلٍ أن يتذكره من يأتي بعده؟ ما هي الحكاية التي نريد أن تُحكى؟ هذا هو نوع الأشياء الذي يُشكّلنا ويُربّينا ويحدّد مصيرنا لاحقاً. ومن يظنّ أنّ هذا الكلام إنشائيّ، فليفسّر لنا ما يحدث في مخيم جنين.

ألم تكن مجزرة 2002 كافيةً لردع الناس هناك؟! ألم تكن عملية "السور الواقي" بما صاحبها من عنفٍ مكثّفٍ وقتلٍ وتدمير كافيةً للردع؟! يبدو أنّ "إسرائيل" تُسيء فهمنا في كلّ مرة،كما أننا أيضاً نسيء فهم الدرس الذي تريد أن تعلّمنا إياه (أي أننا لا نرتدع). 

هنا تماماً تكمن أهميّة مخيّم جنين، في بثّه لنموذج إمكانية تحرير النفوس، وتخليص بقعٍ جغرافيّةٍ ولو بسيطة من هوان سهولة الاقتحام، وتصعيب الأرض على المحتل. وهذا الذي دفعهم إلى استعمال الطائرات المسيّرة للقصف وتأمين القوّات، واستخدام آليات خاصّة وضخمة من أجل تمشيط الشوارع وضمان عدم وجود أي عبوات ناسفة فيها، وهي الآليات التي حفرت الشوارع ودمرت البنية التحتية. 

اقرؤوا المزيد: "لم أرَ مثل ذلك في حياتي".. جنين في يوم المجزرة.

كانت "العملية العسكريّة" التي أرادت "تقويض المخيم كملجأ للمخربين" كما قالوا، منذ إعلانها وحتّى بعد انتهائها، قد أمدت المخيم برمزيةٍ مُضاعفةٍ لتلك التي يمتلكها. أرادت "إسرائيل" من خلال التضخيم الإعلامي لـ "عمليتها العسكريّة"، والحرص على نشر صورٍ وفيديوهات تُدلل على "إنجازها"، أن تدبّ الرعب في نفوس الناس، لكي تحرّض الحاضنة على مقاوميها، وأن تجعل من مناقشة الجدوى حواراً ضاغطاً على الحالة التي تنشأ في المخيّم. لأجل ذلك هجّرت ما يقارب من 3000 إنسان، ورهّبت الناس بحفر جدران بيوتهم واستخدام صالوناتها وغرفها لإطلاق النار، ودمّرت البنية التحتية، ثم حفّزت ذاكرة الناس بالقصف الجوي وتذكيرهم بأيام الانتفاضة. وهنا مهم أن نذكر، أنّه رغم كل هذا الجبروت، فإنّهم يعرفون أنهم لا يستطيعون القضاء تماماً على الحالة، ولكنّهم يعوّلون على إمكانيّة محاصرتها بإضعاف علاقتها مع حاضنتها الشعبية.

طرد رموز السلطة 

بعد إضعاف العلاقة مع الحاضنة الشعبيّة ومحاصرة النموذج كي لا ينتعش من جديد أو يُلهم مناطق أخرى، وتقويض حالة التمرد، يُمهّد جيش الاحتلال الطريقَ لعودة القبضة الأمنيّة للسلطة على تلك البقع المتمردة، وهي القبضة التي يوحي مشهد الضفّة الحالي بأنّها آخذة بالتراجع. يتصل مع ذلك، تصريح رئيس حكومة الاحتلال قبل العملية بأيام بأنهم غير معنيين بانهيار السلطة الفلسطينيّة وبأنه لابد من تقويتها.

لكن الذي حصل عكس ذلك. طرد أهالي المخيم الغاضبون رموز السلطة، محمود العالول وعزام الأحمد وصبري صيدم، وظهر توفيق الطيراوي يتوعّد، في مشهد يكسر هيبة رموز حركة "فتح" المرتبطين بتيار السلطة. وصاحب ذلك فيديوهات لمسلحين محسوبين على الأجهزة الأمنية (لم يظهر سلاحهم في التصدي للاجتياحات) محاولين إعادة تصدير رواية الانقسام والتخويف من حركة "حماس"، فيما مشهد المخيم بذاته وتنوعه وتوحده خلف المقاومة يشكل تقويضاً لهذه الرواية التي لم يصدقها أحد. 

يقاتل المخيّم اليوم على جبهتين: الأولى؛ ضدّ محاولة الاحتلال تركيعه، والثانية؛ ضدّ محاولة السلطة الفلسطينية فرض هيمنتها عليه. ويشكّل عاملُ الوقت أهميّةً قصوى في تطور النموذج وتعلّمه من نفسه في سعيه للانفكاك من هاتين الجبهتين، فالتجربة التي بدأت كمجموعةٍ صغيرة من المسلحين أصبحت غرفة فصائل مشتركة، وإطلاق النار تطوّر لتصنيع عبوات نوعيّة، والنموذج الذي أريد له أن يحاصر بدأ يلهم غيره من الجغرافيات.

اقرؤوا المزيد: "لا تُطلقوا رصاصكم في الهواء.. من هي كتيبة جنين؟".

ثمّة جبهة ثالثة من المهم أن نتذكرها على الدوام؛ جبهة الأمل، والتي تُشكّل هذه الحالات مصدر غذائها الأول. أعداؤنا يبثّون الخوف لتحصد النفوسُ يأساً، فيما هذه الأعمال المتناثرة بدأت تنتظم كعقدٍ غير مركزي، يحمل شعاراً ما زال ينضج بتوحيد ساحات المواجهة لكسر هذا العدو. نجح عدونا إلى حدٍّ بعيدٍ في بعثرة ما راكمناه في "سيف القدس"، إلا أنه من الضروري أن ننتبه للأفق الذي فتحته تلك المواجهة وما زالت تفتحه؛ لقد زرعت بذوراً ما زلنا نراقب نموها، ومنها مشهد مخيّم جنين اليوم.

وفي الختام، نذكر أنّ من طبائع الشعارات أنّها تُوضع بهدف الوصول إليها وتحقيقها، وبذلك فإنّ "وحدة الساحات" ليست تسميةً لما هو ناجز، بل هي تصوّرٌ لما يجب أن يكون وطريقٌ نعبر إليه، ومسألة العبور هي مسألة مقاومة ومراكمة يوميّة.



28 ديسمبر 2023
اليوم 82: كابوس غزة 

خلال 24 ساعة، 16 مجزرة نزلت على رؤوس أهالي قطاع غزّة من طائرات الاحتلال. نجم عنها 195 شهيداً، و325 مصاباً.…