30 أكتوبر 2025

محرقة ونازية.. لماذا نلعب في ملعب العدو؟

محرقة ونازية.. لماذا نلعب في ملعب العدو؟

ما يعجز أوروبي القرن العشرين عن مغفرته لهتلر ليست الجريمة بذاتها، ولا الجريمة ضد الإنسان، ولا إهانة الإنسان، بل هي الجريمة ضد الإنسان الأبيض وإهانة الإنسان الأبيض وتطبيقه على أوروبا أساليب استعمارية كانت حتى تلك اللحظة تقتصر على عرب الجزائر، والـ"كولي" في الهند، والزنوج في إفريقيا"1إيميه سيزار، خطاب حول الكولونيالية، 1955

منذ أكثر من عامين يصرخ الفلسطينيون في غزّة "نحن نُباد" بعد أن جعلت آلةُ الحرب الإسرائيلية أجسادَهم مسرحاً لفنون العنف الاستعماريّ. من جهته، آثَـر المجتمع الدوليّ صمّ آذانه عن الصوت الفلسطينيّ، إذ ما زالت مؤسسات دوليّة كثيرة تُحجم حتى اللحظة، بعد عامين كاملين من الإجرام، عن تصنيف الفعل الإسرائيليّ في غزّة تحت بند الإبادة. 

إذاً، لا يحق للفلسطينيّ أن يُطلق اسماً على موته إلا بعد موافقة المجتمع الدوليّ. ولا تصبح مأساة الفلسطينيّ حقيقيةً إلا بعد مرورها عبر أطر المعايير الأخلاقيّة لمؤسسات المجتمع الدوليّ، وبعد أن تُطلق عليها المؤسسات الدوليّة المسمّى المناسب، وهو مسمّى في الغالب لا يعطي الواقع حقّه، ولا يحصل إلا بعد عمليةٍ رتيبةٍ تُشرِفُ عليها هذه المؤسسات، تبدأ بالتقييم والتدقيق وجمع المعلومات وانتظار المؤسسة المناسبة، والاعتماد على "المصدر الموثوق" و"المختص المحايد" حتى تَدرُس الحالة وتُقرّر ما سيطلق عليها، وعندها فقط يمكن أن تكتسب معاناة الفلسطيني شرعيةً ما. 

وفي محاولة لخوض الحرب الإعلاميّة وتثبيت السرديّة الفلسطينيّة، لجأت المقاومة الفلسطينيّة، وعلى رأسها حركة "حماس"، إلى تأطير ما يجري في غزّة عبر استحضار واحدةٍ من أقوى الاستعارات التاريخيّة في المخيال الغربيّ: المحرقة النازيّة. ولكن في سياق النضال ضدّ  الاستعمار، تصبح مسألة المصطلحات واختيارها في ذاتها ميدان مواجهة له تحدياته الاستراتيجية، وهو ما يسعى هذا المقال إلى توضيحه. 

هل من المُجدي أن نقارن موتنا بموتهم؟

للوهلة الأولى تبدو منطلقات المقاربة الإعلاميّة لحركة المقاومة منطقيّة، إذ يحاول المتحدثون باسمها استفزاز الذاكرة الغربيّة بالمكانة التي تحتلها المحرقة اليهوديّة "الهولوكوست" والحركة النازيّة في المعيار الأخلاقيّ الغربيّ، وهو ما يأملون أن يُترجم على شكل ضغطٍ ينتجه الرأي العام الشعبيّ على الحكومات الغربيّة فيُنهي معاناة الناس في غزّة.

عامان كاملان مرّا على الإبادة، لكن ذلك لم يتحقق. لماذا؟

تُمثِّل أحداث الحرب العالميّة الثانية نقطةَ ارتكازٍ أساسية في الفكر الغربيّ الليبرالي ومنطلقاً محوريّاً لخطابه الأخلاقيّ، والهولوكوست هي جوهر ذلك الخطاب2تمثل هذه الزاوية منطلق نقاش أساسي في دراسات الأمن النقدي. للمزيد راجع على سبيل المثال:  Barkawi, Tarak, and Laffey, Mark. The Postcolonial Moment in Security Studies. Review of International Studies, 32(2), 2006, pp. 329–352..  في ضوء الهيمنة المعرفيّة الغربيّة، استطاع الغرب فرض معاييره الأخلاقية والسلوكيات المرفوضة وأسس مفهوم "الإنسانية"، فتشكّل لدنيا مفهوم للأخلاق من منطلق أوروبيّ غربيّ (Eurocentric). وهكذا على الرغم من أنّ المحرقة ليست حدثاً طارئاً في التاريخ، إذ يعجّ التاريخ الاستعماري لنفس تلك الدول الغربيّة بالإبادات الجماعية والمجاعات والمجازر بحقّ الشعوب المستعمرَة، إلا أنّها - أي المحرقة - أصبحت نقطة مرجعيّةً للحدث الذي يجب ألّا يقع مرةً أخرى. 

اقرؤوا المزيد: "معركة الطوفان الغائبة.. من يملأ الفراغ الفكريّ والسياسيّ؟"

في المقابل، فإنّ استخدامَ مصطلح "الهولوكوست" كنموذج مقارنة يعكس أمرين: الأوّل أنّ الفلسطيني لا يَرَى مأساته قائمةً بذاتها، بل من خلال مأساة غيره، وليس أي مأساة، بل هي المأساة التي اختارت القوى الغربيّة أن تجعلها نموذجاً "للمأساة" وكأنَّ غيرها لم يحدث. هذا بدوره يُعزَِّز سلطة النظام الأخلاقي الذي يصمّ آذانه عمداً عن صوت الألم الفلسطينيّ ويُعطي بالضرورة الأفضلية الأخلاقيّة للتراوما الغربيّة. 

بمعنى آخر، إن استخدام المحرقة نموذجاً يقول للغربيين: "صدقونا لأن ما يحدث لنا يشبه تاريخكم أنتم". وهذا يعزّز فكرة أنّ الألم الغربي هو مرجع الآلام وأنّ أي ألم آخر يجب أن يُقاس به حتى يحصل على المصداقية اللازمة لتصديقه وتقديره. يقوّض هذا الأمر، في جوهره، شرعية التجربة التاريخيّة الفلسطينيّة ويضعها في خانة الخضوع للنظام الأخلاقي الغربيّ الذي من المفروض أنّها تُناضل للتحرّر منه قولاً وفعلاً. 

أما الأمر الثاني، فإنّ استخدام المحرقة والنازيّة للتدليل على فظاعة ما يجري في غزّة وجرائم جيش الاحتلال يعني تلقائياً وضع الإبادة في غزّة في مرتبةٍ خاسرةٍ، ذلك لأنّ المقارنة مبنية على مقياسٍ صُمِّم مُسبَقاً لضمان تفوّق المحرقة على أي مأساة أخرى. لقد غفِلَت المقاومة بخطابها هذا عن القدسية التي بُنيت للمحرقة في الخيال الجمعيّ الغربيّ، والتي استُثمرت مئات ملايين الدولارات لصالح حمايتها وتمثيلها من خلال المتاحف والقصص والروايات والأفلام وغيرها3على سبيل المثال فإنّ تكلفة بناء متحف الهولوكوست في العاصمة الأميركية تجاوز 160 مليون دولار أميركي. للمزيد عن مكانة الهولوكوست في الفكر الغربي راجع: The Holocaust in the American Life, Peter Novick. Remembering Holocaust: A Debate Jeffery Alexander.. وقد جعل ذلك المحرقة النازيّة حدثاً يستحيل أن يوازيه أيّ حدثٍ آخر. وهكذا فإنّ استخدام المحرقة كنموذج مقارنة يعني ضمنيّاً الموافقة على الشرط غير المعلن، وهو أن لا شيء أسوأ من أفعال النازيّة، بما في ذلك ما يحصل في غزّة، وبالتالي فإنّ ما يحصل فيها ليس "إبادة".

اللعب على ملعب العدو

وفي السياق ذاته، فإنّ مصطلح "الصهيو-نازية" الذي دأبت المقاومة على استخدامه منذ بداية الحرب ليس سليماً، فالصهيونيّة حركة استعماريّة أما النازيّة ليست كذلك. وإن كان المقصود تشبيه جرائم الصهيونية بالنازيّة إلا أن جرائم الحركتين ليست متشابهة لا بالمضمون ولا بالغايات، فالجرائم الإسرائيلية هي استكمال لسلسلة جرائم الأنظمة الاستعمارية التي سعت تاريخيّاً للهيمنة على الشعوب. 

وتقنياً، فإنَّ هذه المقارنة تُخفي هيكلية العنف الحقيقية التي تستخدمها "إسرائيل" في غزّة، فهي لا تستخدم أساليب نازية، بل تستخدم أساليب استعمار إحلالي ما يجعل من النازية نموذجاً خاطئاً للمقارنةـ ويمكّن الاحتلال الإسرائيلي من درء التهم عن نفسه بكل سهولة أمام الغرب. وإن كان الواقع الفلسطيني يعكس جرائم بشعة في الوعي الفلسطيني والعربي، بالنسبة للغربي فإن غياب صور غرف الغاز التي ارتبطت في مخيلته بالمحرقة أمرٌ كافٍ لإنكار الإبادة جمعيّاً. 

لا تكمن مشكلة هذا الخطاب فقط في أثره على أذن المتلقي، بل أيضاً في الكيفية التي يعيد بها تشكيل صورة المُتحدِث في ذهن ذلك المتلقي. إنّ الكلمات والتعابير المختارة في خطابٍ ما ليست بريئةً ومحايدة، بل يُمكن تشبيهها باللعبة. لكل منها قواعدها وخطوطها وحدودها التي تُحدّد كيف تبدأ الجولة وكيف تنتهي. والأمر مشابه حين نختار كلمة ما، فنحن فعليّاً نوافق على الدخول في ميدان تلك اللعبة. وإذا لم تكن الكلمة من صنعنا أو من بيئتنا المعرفيّة، فنحن بذلك نكون قد دخلنا لعبة صُمّمت قواعدها قبل أن نصل إلى الملعب أصلاً. قد نتمكن من المناورة داخلها، لكننا لن نستطيع قلب النتيجة، لأن القواعد لم توضع لصالحنا من الأساس. 

وهكذا، فإن استعارة المحرقة أشبه بخوض لعبة على ملعب العدو ووفقاً لشروطه، مهما بدا للوهلة الأولى أن النصر ممكن فسيكون من حليف العدو في النهاية. وهذا يكشف لنا أن اختيار الكلمات ليس مجرد تفصيل لغوي، بل نافذة على البنية المعرفيّة التي تتحكم في الخطاب. 

ومن المهم أن نذكر أنّ التاريخ الاستعماري للمنطقة ليس قاصراً عن تقديم نماذج مقارنة للحديث عن الفظائع التي اقترفتها كل تلك الدول الكبرى والتي تتحكم بمصيرنا حتى الآن. كما أنّه من غير المفيد تعزيز نظم أخلاقية أثبتت أنها تعود بنفعٍ قليلٍ جداً على مسارنا التحرري على الصعيد الدبلوماسي والسياسي والاجتماعي.

"الموضوع مش سوء فهم"

كان واضحاً عندما بدأت حركة "حماس" باستخدام المقارنة بالنازية والمحرقة أنّ جمهور هذه الرسالة هو المجتمع الدوليّ الغربيّ. وفي هذا إشكالية: هي أنّ المقاومة تظنّ أن التواطؤ الغربي على الجرائم الإسرائيلية ناجمٌ عن الجهل، وأنّ أمننة الفلسطيني والتعامل مع المقاومة على أنّها حالة إرهابية سيختلف حين يرى الرأي العام الغربيّ الأمرَ من منظار مختلف، في هذه الحالة من منظار الهولوكوست. 

يؤدي ذلك إلى توقعاتٍ خاطئة فيما يخصّ ما يمكن انتظاره من دول الغرب، وكأنّنا نقول إن تعامل الغرب معنا بهذا الشكل هو نتاج سوء فهم، وفي الحقيقة هو ليس كذلك. إنّ نظرة الغرب ليست نتاج جهلٍ، بل هي انعكاسٌ مباشر لإرثه الاستعماريّ الممتد في منطقتنا وللموقف البُنيويّ والاستراتيجيّ للمؤسسة السياسيّة الغربيّة تجاه الكيان الإسرائيلي والمشروع الوظيفي الذي يُمثّله هذا الوجود على أرضٍ عربيّة.

إذاً، تضع الاستعارة من الذاكرة الأخلاقيّة الغربيّة المقاومةَ بالضرورة في موقع التابع الذي يحتاج إلى مرجعية الآخر ليؤكد شرعيته، وهو ما يُقيّد قدرتها المستقبلية على صياغة خطاب مستقل أولاً، وثانياً، يكشف طريقة إنتاج المعرفة داخل الحركة ما يُحدّد ملامح العقلية الأمنيّة لها. هذا الاعتماد على مرجعيات أخلاقيّة غربيّة هو شكل من أشكال التبعية المعرفيّة، فتصبح مقاييس العدو هي المعيار النهائي لشرعنة الألم الفلسطيني. وحين يتأسس النظام المعرفي للمقاومة على مقاييس مستعارة من العدو ذاته، فإنه يعكس محدودية قدرتها على قراءة العدو قراءة مستقلة، ويسهم في تقييد خيالها الاستراتيجي. 

اقرؤوا المزيد: "الإعلام العسكري للقسّام.. سيرة ذاتية".

لا شك أنّ المقاومة قادرة على تحقيق إنجازات تكتيكية مؤثرة، لكن التفوق على الأرض لا يكتمل ما لم يكن مدعوماً برؤية استراتيجية مستقلة. والنظام المعرفي التابع ينتج ذهنيةً محدودةً في ترجمة المكاسب الميدانيّة إلى مكاسب بعيدة الأمد.  

لذا، فإن مشكلة استعارة المحرقة لا تكمن في رمزيتها فحسب، بل في كونها عرضاً لمشكلة أعمق: مرض إنتاج معرفة ترسّخ التبعية وتُضعِف السيادة الخطابية، ما يؤدّي في النهاية إلى إضعاف الأمن الاستراتيجي للمقاومة نفسها. وهذه التبعية المعرفية ليست بالضرورة خياراً واعياً أو قراراً متعمداً من قبل المقاومة، بل هي نتيجة طبيعية لمسار طويل من الاستعمار، الذي يسمح بتسرّب أطر التفكير والقيم المهيمنة إلى وعي المستعمَر من دون أن يدركها أحياناً. كما أشار فرانز فانون، فإنّ الاستعمار لا يسيطر على الأرض فحسب، بل يتسلّل خفية دون وعي المستعمَر إلى اللغة والخيال وصولاً إلى المعايير التي يقيس بها المستعمَر واقعه4 راجع معذبو الأرض الفصل الرابع: الثقافة الوطنية. وكتاب بشرة سوداء أقنعة بيضاء، فرانز فانون. وفي حالة المقاومة الفلسطينية، فإنّ الاستعارة من الذاكرة الأخلاقيّة الغربيّة قد تكون انعكاساً لهذه البنية العميقة، أكثر مما هي استراتيجية مقصودة.

طوفان الوعي يبدأ من الكلمة

المقاومة والتحرير ليست للأرض فقط، بل للمخيلة والعقول والوعي والكلمة. قد يبدو الحديث عن تحرير الأطر المعرفيّة في ظلّ الإبادة أمراً هامشيّاً، لكنه يصبح مُلحاً عندما يُكون إحدى الطرق الأساسية لإيقاف الإبادة. ما عاشته غزّة خلال عامين وما زالت تعانيه إلى اليوم ليس حالةً فريدة من الاستثنائية ولا تشبه حالة الهولوكوست، بل هي استكمال لسلسلة تاريخية من الإرث الاستعماري ليس بحق الشعب الفلسطيني فقط بل كل الشعوب التي استُعمِرت، ورؤية ما يجري للفلسطيني اليوم كاستكمال للحالة الاستعمارية ضرورة يبنى عليها لإنشاء تحالفات جديدة في ظلِّ وضعٍ جيوسياسي متغير. 

الطريقة التي نُسمّي بها ما يحدث ليست فعلاً رمزيّاً، بل هي ما تُحدِّد حقيقة مسار أفعالنا على المستوى البنيوي للفكر الاستراتيجي. هذه الكلمات هي التي تُحدِّد الأصوات التي تُسمَع والصمت الذي يعم والتاريخ الذي يكتب والآلام التي يُعترف بها. اللغة والكلمات ليست لاحقةً للعنف، بل هي جزءٌ أساسيّ من ميدان المعركة. والسيادة على الكلمة جزءٌ لا يتجزأ من السيادة على الأرض. وهكذا لا يكون تحرير الأطر المعرفيّة هدفاً رمزيّاً فحسب، بل يصبح مدخلاً لممارسةٍ سياسيّةٍ ودبلوماسيّة أكثر قدرة على ترجمة الإنجازات الميدانيّة إلى مكاسب استراتيجية طويلة الأمد، بكلماتٍ نختارها نحن لا يفرضها الآخر.



4 أغسطس 2018
لُعبة "Call of Duty" فوق سماء غزّة

أشهر قليلة قبل احتلال العراق، واجهت الجيشَ الأمريكيّ صدمةُ: "لُعبةِ حربٍ" هي الأكبر في التاريخ، استمرت 20 يوماً، واشترك فيها…