يُعيد تشييع الشهداء صياغة حُزننا وقهرنا الجمعيّ، وربما يُعيد صياغة غضبنا، يُرتبه ويُركِّبه، ليس لأنه غير كافٍ أو غير واضح، بل لكونه فعلاً دوريّاً يتمرّس في ذواتنا كلّ مرة، وكأنّه أول تشييعٍ لشهيد، وكأنّه سيكون الأخير، فيُعيد ترتيب سرديتنا التي نريد، ويُعيد كتابةَ تاريخ الانتصار للمُنخرطين في المعركة، بأجسادهم وسلاحهم، ومحاولاتهم المتراكمة، محاولةً تلو الأخرى من دون تراجعٍ أو استسلام.
يُعيد التشييع ترتيب اصطفافنا الفطريّ بين الخير والشرّ، بين الحقّ والباطل، ليس لأنّنا ضَللنا، وكيف يكون لنا ذلك ولا أوضح من فلسطين لدينا ولا أسمى، بل إنّ الخوف من الضلال أو النسيان بالغ من العمق ما هو كفيل بتنبيهنا دائماً إلى الطريق، إلى فلسطين التي نسعى، وفلسطين التي نريد.
كان التشييع وما زال دورة الحياة والموت الماثلة أمامنا، لم يكن مجرد لوحة لسنا شخوصاً فيها، بل هو فعلٌ ننخرط فيه ونكون جزءاً منه بأجسادنا الحاضرة وانفعالاتنا الخاصّة ومراجعاتنا الداخليّة، بِحُلمنا بالآتي وسعينا إليه، بخوفنا من الكابوس وهروبنا منه، فيُشكِّل حضورُنا فيه الـ "نحن"، ويكون تعريفنا بكوننا الآخر، ليس للعدو أو للعالم، وإنما لأنفسنا ذاتها، وهو ما يكفينا للاستمرار.
كلّ ما سبق شكّل حالة تشييع الشهداء (إبراهيم النابلسي وإسلام صبوح وحسين طه) في التاسع من آب الجاري، والذي لم يأتِ مختلفاً عن أي تشييع شهيد عشناه وكنا فيه، أو ما سنعيشه ونكون فيه، وربما نكون يوماً نحن المحمولين على النعش لا المُشيعين، ولكنّ رحيل المشتبكين ذكّرنا بحاجتنا الدائمة والمُلحة إلى البطل بيننا، البطل الحيّ الذي يُشكّل نموذج المقاومة والاشتباك، نموذج الاستمرار، فلا تنال آلة المستعمِر من البطل باعتقال أو بموت.
جاء رفضُنا جميعاً للنبأ الأول للاستشهاد، وبحثُنا المُلح عن خبر الحياة، كانت الصرخة داخلنا بأننا لا نريده شهيداً، لم يكن ذلك تحوّلاً في علاقتنا بالشهيد وفعل الشهادة، بل كان تعلقنا بالبطل الحيّ، فكان تعبيرنا الجمعيّ الجديد عن حاجتنا، وعن هذا النقص الموجع، فكثيرون هم أبطالنا الذين لا نعرفهم إلا باستشهادهم أو اعتقالهم.
الوجه الأبرز
في الحافلة بين رام الله ونابلس، كان إلحاحُ كلّ من يصعد: متى تنطلق الحافلة؟ كان الصراع مع الزمن والمسافة وأصبح التحدي، الكل يودُّ التحليق وصولاً إلى نابلس والمشاركة في التشييع، وعندما تحركت أخيراً، بات الركاب يتناوبون على توجيه الأسئلة: كم تبقى من الوقت؟ هل سندرك التشييع؟ أين وصلنا؟ كلنا في حالة توتر، كان واضحاً لمعظمنا أنها ليست تجربة الزيارة الأولى إلى نابلس، ولكننا كنا قد نسينا، وبات ما يشغل بالنا المشاركة في التشييع فحسب، والأهم رؤية جثامين الشهداء.
وما إن صارت الحافلة بالقرب من المستشفى الوطني تسابقنا كلنا على النزول، ودخلنا في سباق، كلنا يركض وكلنا يسأل: في أي اتجاه نذهب؟ أين التشييع؟ هل وصلت الجثامين؟ والجواب الوحيد الذي نتلقاه: اتبعوا صوت إطلاق النار.
وما إن وصلنا إلى قلب المدينة حتى التقينا جموع المشيعين، الآلاف الآلاف، وفجأة انهمرت الدموع بلا توقفٍ أمام هيبة الحشود التي تملأ المدينة صفوفاً وراء صفوف، كانت الوجوه متشابهة وتكاد تكون هي ذاتها لدى الجميع، الحزن ذاته والغضب ذاته، في لحظةٍ ما أظُنني تعرّفت وجهاً واحداً لا غير - ما زلت أذكره - كان شقيق الشهيد أحمد سناقرة، يتسلق واجهة أحد المحال التجارية ليتمكن ربما من رؤية وجوه الشهداء ومخاطبتهم بتحية سلامٍ يُريدها لأخيه.
هل من سبيل إلى حمل الجثامين
كانت الجموع تتزاحم وصولاً إلى جثامين الشهداء، التزاحم ذاته في كل تشييع، التزاحم الذي حرم هدى أن تحتكر حمل نعش ابنها سوى لحظات قليلة، قبل أن تعاود الجموع خطفه منها، فهو ابن هذي الجموع كذلك، هي ربما محاولة للتبرّك بحمل جثمان الشهيد لعل حمى الشهادة تتسرب إلى حامله. وقد تكون مجرد محاولة للمس جثمان الشهيد ومواساة أنفسنا باللجوء إلى فكرنا الصوفي عنه، وبدء اكتشاف كراماته، والحديث عن رائحة المسك العالقة باليدين بعد لمسه، والاستعادة المستمرة لحرارة جسده في اليدين، عن ذكريات نريد صناعتها وتشكيل ذاكرتنا بها، يكون أساسها الشهيد وسعينا أن نكون من يحمله ومن يجري خلفه، أو هي محاولة للهروب بجثمان الشهيد بعيداً عن المقبرة، صوب الحياة، وكأننا نتمنى أن يصبح ذلك خياراً لنا يوماً ما.
وكم توارث حاملو النعش الشهادة وأصبحوا المحمولين بعد حين! وقد اتبعوا طريق الشهيد ولم يضلوا، فكان نورهم وقدوتهم، هل كنا سنعرف النابلسي لو أنه لم يكن يحمل نعوش أصدقائه الشهداء؟ هل كنا سنعرف غضبه وحزنه، وثأره، قبل أن يصبح اليوم هو الثأر والوعد.
عمّت الفوضى التشييع فالآلاف قد شاركوا فيه، وراح كل جثمانٍ في طريق قبل أن تلتقي الجثامين الثلاثة في المقبرة، كلهم يريد التناوب على حمل الجثمان، كلهم يحاول الوصول إليه وإن تضاءلت الفرص مع الاقتراب من المقبرة، وبعد فشل الكثيرين سارعوا إلى أبواب المقبرة لعلهم يرجعون بنظرة خاطفة فحسب، كلنا نريد المشاركة في الوداع الأخير وإن كان ذلك بنظرة، لا ندري ما الذي نريد التأكد منه الآن، ربما هو التأكد من فكرة الموت والحياة! أو ربما التأكد من رحيل البطل، وكم كان فقدان البطل عزيزاً وصعباً علينا جميعاً، وكم كان مؤلماً لأصحابه الذين التفوا حوله وشكّلوا الخلايا واقتدوا بفعله، ووجوده، فكانت دموعهم وحزنهم مشهداً من مشاهد التشييع الأساسية، في حين لم يقوَ أحدهم على كم هذا الحزن الذي وقع على قلبه، فلم يعد قادراً على الوقوف، وأغمي عليه وما يزال يحاول التمسك بالنعش وعدم تركه.
عن حلم طفل الرشاش البلاستيكي
بين آلاف المشيعين أطلّ حاملاً رشاشه البلاستيكي، طفل صامت لا يتجاوز من عمره الثانية عشرة، بعيون غاضبة وحزينة، يرفع لعبته بيد واحدة واضعاً سبابته على الزناد، لا تُميّزه عن المسلّحين للوهلة الأولى وكأنّه أحدهم، إلا أنه يحتفظ برصاصه، ليس في هذا الرشاش ربما، وإنما في تلك البارودة التي أوصى بها النابلسي قائلاً: "بحياة عرضكم ما تتركوا البارودة"، فكان الفتى يسرح طويلاً مرتحلاً بفكره من الجنازة إلى عالم آخر، إلى حلم أن يصبح البطل وأن يواصل المعركة.
وكم كان يشبه الفتى إبراهيم في هذا العمر! ابراهيم الذي كانت لعبته الوحيدة "لعبة المطارد" وكان لقبه فيها "أبو فتحي" تيمناً بالشهيد نايف أبو شرخ، قبل أن يكبر سريعاً وتتحول لعبة الاختفاء بين أبو فتحي وأصحابه الذين يلعبون دور الجيش إلى مطاردةٍ حقيقيةٍ وصعبة بين المقاوم وجيش حقيقي، ستنتهي بمعركة يخوضها إبراهيم رافضاً الاستسلام أو الانسحاب، مقبلاً على معركته وحيداً برشاشه، وكم كان وحيداً!
العصبة، القلائد وخزان الذخيرة
من مخيم جنين إلى نابلس، أصبحت خزائن الرصاص تتزين بصور جثامين الشهداء، كل يلصق صورة صديقه أو صورة قدوته، ليس فعلاً بلا معنى، وليس مجرد استعراض، بل هو تأكيد أن هذا الرصاص سيصب لأجل هذا الثأر.
ومن لا سلاح له يلصق عليه ثأره، علقه قلادة في رقبته، فترى في رقاب كثيرين قلائد تحمل صور الشهداء، تتدلى وصولاً إلى منتصف الصدر، فتكون بهذا الوضوح لنا، وبهذا الالتصاق لهم. في حين أطلقت بعض المجموعات على نفسها اسم شهيد من شهداء المدينة، وربطوه بفخر عُصبةً بيضاء على رؤوسهم، فكانت "كتائب الشهيد محمد الدخيل".
الهتافات بين زخات الرصاص
لم تعد لزخات الرصاص في تشييع الشهداء هيبتها ولم تعد مرغوبة، هذا لو كانت كذلك أساساً، فتسمع خلال التشييع الإجماع الرافض لإهدار الرصاص والدعوة المستمرة إلى تصويب السلاح، وتتكرر دائماً دعوات أهالي الشهداء إلى عدم إطلاق النار في تشييع أبنائهم، في حين كان السؤال الذي يتردد: أين كان هذا كله وإبراهيم ورفاقه محاصرون؟
وبينما واصل المسلحون إطلاق زخات الرصاص هدراً في السماء، تجمهرت مجموعة من الشبان بالقرب من المقبرة بانتظار وصول جثامين الشهداء، وعلا هتافهم: "يا شهيد لا تعبس .. بدك أحزمة بنبلس"، فكان تحويلاً جديداً للهتاف الأكثر ترديداً: "يا شهيد لا تعبس .. بدك عسكر بنلبس"، حمل الهتاف دعوة لاستعادة انتفاضة الأقصى بالأحزمة الناسفة والعمليات الاستشهادية، وقد أكد كذلك تشديد الدعوة إلى عدم التفريط في السلاح، واستخدام الأجساد سلاحاً إن شحت الذخيرة، فحملت أيضاً الاستعداد العالي للتضحية، روحاً وجسداً متحررَين من أي سطوة.
المسبحة التي مزقت القلب
كانت هدى تبحث عن حبات المسبحة في ساحة الديوان الكبيرة حيث استقبلت النساء المعزيات، كانت تُلملمها حبةً حبةً وكأنها تُعيد لملمة روح إبراهيم، كيف لا وهي ذكرى منه تركها لشقيقته الوحيدة التي صرخت باكيةً وكأنها فقدت أخاها الآن عندما انفرطت المسبحة وتبعثرت حباتها في الساحة، هي التي كانت تضبط دموعها وتضبط صرختها، وتحاول جاهدةً حفظ وصية شقيقها، ولكن أي حزن هذا الذي نستطيع ضبطه على فقدان العزيز!
جُمعت معظم حبات المسبحة وقد انضمّ عدد من الأطفال والنسوة إلى البحث عنها ومحاولة جمعها، وجلست إحدى النساء تعيد ترتيب الحبات بالخيط، واحدة تلو الأخرى، وشقيقة إبراهيم تراقبها وتعد الحبات مرة تلو الأخرى، بينما تواصل والدتها البحث في الخارج عن حبات أفلتت منها.
لم تكن المسابح التي تحمل صور إبراهيم الهدية الوحيدة لعائلته، فقد أوصى رفاقَه بإعطاء خاتمه المحفور عليه (لا تحزن) لوالدته حين يستشهد، فكلما حزنت ونظرت إلى يدها تذكرت حرصه على رضاها، وحاجته إلى دعائها، أما خاتمه الثاني الذي يحمل كنيته (أبو فتحي) فهو لوالده، ليتذكر الدرب الذي شقّه نجله والشهداء الذين اقتدى بهم.
مكان في زحمة البوسترات
بعدما انتهى التشييع خيّم صمتٌ ثقيل على البلدة القديمة، لا شيء يُقال في وداع أبطالها ولا كلام يفِيهم الرثاء، جلس الشبان مجموعات مجموعات يرتدون السواد، يعيدون سرد لحظات الاشتباك، ويعيدون نسج الحكايا المتداولة خلال التشييع، وفي شرفات المنازل جلست النساء يراقبن المشهد ويفكرن، هل يكون ابن أحدهن الشهيد القادم؟
وعلى جدران وأبواب المحال ابتهجت بوسترات سوداء تحمل صور الشهداء الثلاثة وتنعاهم، وأُلصِقَت بالمتبقَى من الفراغ بوسترات قديمة تعود إلى انتفاضة الأقصى لشهداء البلدة القديمة.
وبين الحين والآخر تمرّ مجموعة تحاول اكتشاف طريقها بين الأزقة القديمة، ويُعاد السؤال ذاته: أين مكان الاشتباك؟ إذ تحوّل المنزل الذي حوصر واشتبك فيه إبراهيم ورفيقه إسلام إلى مزارٍ يبحثون فيه عن آثار الشهيد، عن طعامه البسيط المتبقي ورغيف خبزِه المعلّق، عن فوارغ رصاص اشتباكه وعن رائحته العالقة في المكان.
*اللوحات من تصميم الفنانة إسراء الصمادي.