8 نوفمبر 2022

كاد "الانقلاب" ينجح.. ما الذي جرى مع الأطباء؟

كاد "الانقلاب" ينجح.. ما الذي جرى مع الأطباء؟

لم يمضِ  وقت طويل على آخر قرارات بقانون أصدرها محمود عبّاس، حتّى أصدر آخر في 23 تشرين الأوّل/ أكتوبر من العام الجاري، يقضي بإنشاء نقابة أطباء فلسطينية "تتولى حصراً تنظيم مهنة الطب في الأراضي الفلسطينية"، وعلى ما في القرار من تسلّط تتيحه أداة أبو مازن "الاستثنائيّة" (قرار بقانون)، فإنّه يأتي على الرغم من وجود مجلس نقابة أطباء مُنتخب. 

برّرت السلطة محاولة الانقلاب هذه على لسان رئيس المجلس التأسيسي لنقابة الأطباء - الذي ولد مع القرار بقانون - نظام نجيب، بأنّ النقابة الجديدة "تهدف إلى الحفاظ على حقوق الأطباء وتنظيمهم في جسم نقابي واحد"، في حين لم يلبث أن ووجه القرار بموجة احتجاج واسعة قادتها مؤسسات المجتمع المدني والنقابات المهنية والمؤسسات الحقوقية ونقابة الأطباء الأردنية، وسخط من فرعها نقابة الأطباء - مركز القدس، التي أعلنت عن قرار بـ"العصيان الطبي الشامل"، الأمر الذي أدى إلى إسقاط القرار بقانون وتعديله خلال أيام فقط.

على إثر الاحتجاجات تراجعت السلطة عن موقفها باستبدال نقابة أخرى بالنقابة الحالية، وتوصّل الطرفان إلى اتفاق ينص على إنشاء نقابة أطباء فلسطينية من دون تحديد موعد ولا جسم معين، وأن تكون النقابة الحالية المنتخبة هي المجلس التأسيسي والمخولة بصياغة قانون النقابة الفلسطينية، وأن يكون مقرها في القدس، وأن تُحافظ على مستحقات الأطباء السابقة. 

"عندما تسمح الظروف"

لم يكن الصراع بين نقابة الأطباء - مركز القدس 1يعود تأسيس نقابة الأطباء - مركز القدس إلى العام 1954، عندما تأسست نقابة الأطباء الأردنيين بفرعين في القدس وعمّان، حيث كانت الضفة الغربية تتبع حكم الأردن ويسري على النقابة القانون الأردني. والسلطة الفلسطينية وليد إصدار أبو مازن القرار بقانون الأخير، بل هو صراع منذ سنوات عديدة، بشأن جملة من المطالب أهمها زيادة علاوة طبيعة العمل لأطباء تخصّص الطب العام من 150% لتصير 200% أسوة ببقية الأطباء العاملين في وزارة الصحة.

يُشير نقيب الأطباء شوقي صبحة إلى أنّ النقابة اتفقت مع الحكومة عام 2013 على رفع علاوة طبيعة العمل للأطباء لتصبح بنسبة 100%، وفي عام 2015 صدر قرار عن وزير الصحة برفع علاوة طبيعة العمل لكل موظفي وزارة الصحة بنسبة 100%. وبناء على اتفاق 2013 وقرار 2015، يجب أن تصبح علاوة طبيعة العمل لفئات الأطباء كافة 200%، وهو ما طبّق فعلاً للأطباء المتخصصين (جراحة، باطني، قلب، كلى، عيون...)، واستُثنيت منه فئة تخصّص الطب العام، الذين اكتفوا برفع علاوتهم إلى 150%.

ومنذ عام 2015 وحتى اليوم تطالب نقابة الأطباء بزيادة 50% على علاوة طبيعة العمل لرواتب الطب العام، إذ خاضت صراعاً طويلاً ينتهي كلّ مرة باتفاق مع الحكومة على رفع العلاوة، كان آخر اتفاق في الأوّل من أيّار/ مايو 2021، الذي بحسب مدير "الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان" عمّار الدويك، من المفترض أن يبدأ تنفيذه في الأوّل من كانون الثاني/ يناير لهذا العام، لكنّ حجّة السلطة الدائمة "عندما تسمح الظروف المالية بذلك"، عنت عدم تطبيق البند الأهم من الاتفاق الخاص بعلاوة طبيعة العمل حتى اليوم. 

اقرؤوا المزيد: قمعُ حراك المحامين بـ"المُبادرة" لا بالهراوة

لقد حدّدت السلطة شرط توفّر المال بـ"انتظام صرف الرواتب 100% لمدّة شهرين متتاليين"، كما يشير دويك، غير أنّ السلطة لا تزال تصرف الرواتب على نسبة 80% منذ زمن، ولا أفق لغير ذلك. بيد أنّ الزيادة التي تطالب بها النقابة هي كما يشير صبحة لا تتجاوز كلفتها المالية على الحكومة 2.5 مليون دولار سنويّاً؛ أي ما يعادل كلفة حوالة علاج واحدة خارج مستشفيات الحكومة. 

وبحسب دويك فإنّ النقابة قدّمت للسلطة اقتراحاً لتجاوز هذا الإشكال يقضي باعتماد العلاوة على قسيمة الراتب وصرفها عند توفر الأموال، لكن وزارة المالية رفضت ذلك إطلاقا. 

القرار بقانون هو الحلّ!

تنظّم نقابة الأطباء انتخاباتها بشكل دوري، كان آخرها في 4 حزيران/ يونيو الماضي، إذ أفرزت النتائج فوز القوائم المحسوبة على المعارضة في 7 محافظات من الضفّة الغربيّة، مقابل فوز قائمة واحدة محسوبة على حركة "فتح"، في خسارة مدويّة للتنظيم الرسمي للسلطة.

هذا الصراع المحتدم بين نقابة الأطباء والحكومة، المتمثّل في الإضرابات والاحتجاجات والتنصّل من الاتفاقات وخسارة التنظيم الرسمي للسلطة، دفع بالأخيرة للبحث عن سبلٍ للخلاص من نقابة الأطباء بمجلسها الحالي، فجاء "الحلّ السحري" باستخدام أداة القرار بقانون لإنشاء نقابة أطباء فلسطينية تقضي على النقابة المُنتخبة.

يتفق عمار دويك مع ذلك في أن التوتر بين النقابة والحكومة دفعها للعمل على إصدار القرار بقانون الأخير، في محاولة للهروب من الاستحقاقات المترتبة، والانزعاج من استمرار النقابة بالإضرابات. كما يرى مدير "الهيئة الأهلية لاستقلال القضاء وسيادة القانون" ماجد العاروري، أنّ القرار الأخير لم يُتخذ لتطوير عمل النقابة الحالية وخلق نقابة فلسطينية تضم كل الأطباء الفلسطينيين مثلما روّجت السلطة، بقدر ما كان طريقة للسيطرة والقضاء عليها عبر التخلص من المجلس المنتخب وتعيين مجلس جديد باسم نقابة أطباء فلسطينية.

اقرؤوا المزيد: القضاء الفلسطينيّ.. كيف يؤمن عبّاس نفسه؟

يعود طرح تأسيس نقابة أطباء فلسطينية إلى العام 1996، عندما طالبت نقابة الأطباء بإنشاء نقابة فلسطينية، إلا أنّه تقرر حينها أن يظل الأمر على ما هو عليه حتى "الحل النهائي" للقضية الفلسطينية، وأن يستمرّ العمل من خلال المؤسسات التي أنشئت قبل عام 1967. نائب رئيس المجلس التشريعي السابق حسن خريشة، وهو أيضاً طبيب منتسب للنقابة الحالية، كان من النواب الذين عاصروا تلك الفترة، يوضّح فيقول: "في بداية المجلس التشريعي طُرح مشروع قانون لإنشاء نقابة أطباء فلسطينية، ورفضنا ذلك وأهم سبب للرفض أن مقر النقابة الحالية في القدس ونحن نريد تعزيز الوجود العربي في القدس".

إنّ لنقابة الأطباء - مركز القدس مقرّا مسجلا باسم نقابة الأطباء الأردنية في بلدة بيت حنينا في القدس المحتلة، ويعد الحفاظ على المقر أحد أهم الأسباب التي دفعت لرفض جهات عديدة مرسوم تأسيس النقابة الجديدة. يقول النقيب صبحة، إنّ المقر محميّ، وإذا رفع الستار عنه سوف يصادر إسرائيلياً، كما جرى مع الكثير من المؤسسات الفلسطينية في القدس.

بالتالي، فإنّ أوّل من طالب بإنشاء نقابة فلسطينيّة للأطباء هو نقابة الأطباء - مركز القدس كما يؤكد صبحة، بل وعبّر عن استغرابه من لجوء أبو مازن إلى قرار بقانون بشأن إنشاء نقابة فلسطينية، وهو نفسه في 15 كانون الثاني/ يناير من العام الماضي قدم له مسودة لنقابة فلسطينية. يجعله ذلك متأكداً من أنّ ما جرى كان محاولة "انقلاب" على النقابة الحالية، لأن تأسيس النقابة يجرى من خلال الهيئة العامة، لا من دون علمها وعبر مجلس معيّن من شخصيّات غير مسجّلة أساساً في النقابة، وجزء منها سقط في الانتخابات الأخيرة.

إذاً، وعلى ما يبدو فإنّ الأمر لا يتعدّى كون النقابة الحالية، وعلى رأسها نقيب الأطباء شوقي صبحة، تشكّل مصدر إزعاج للسلطة، "لا يريدون المجلس الموجود وعلى رأسهم أنا، وليس الهدف إنشاء نقابة فلسطينية"، كما يقول صبحة. يتصل مع ذلك وصف خريشة للذي جرى بأنّه "شكل من أشكال المناكفات الشخصية". كذلك، وتعليقاً على القرارات بقانون عموما، والقرار بقانون القاضي بتأسيس نقابة فلسطينية بشكل خاص، يُشير العاروري إلى أنّ ذلك لا يأتي لخدمة الصالح العام، بقدر ما جاء لخدمة مصالح أفراد لهم مصالح شخصية من إقرار مثل هذه التشريعات، وهذا أقرب ما يكون إلى حالة العبث القانوني.

اقرؤوا المزيد: تعديلاتٌ في القانون.. السلطة تلتهم الجمعيّات الأهلية

النقابات متساوية كـ"أسنان المشط"

إنّ محاولة السلطة الخلاص من مجلس نقابة الأطباء، لم يكن إلا للقضاء على مجلس فاعل غير منضوٍ تحت جناحها، ومصدر إزعاج متكرّر لها بمطالبه المشروعة. كما يأتي ذلك في سياق عام تنتهجه السلطة لإجهاض كل الأصوات الحراكية والنقابية التي تُغرّد خارج سربها، باللجوء إلى أدوات عديدة، من بينها: تعيين مجلس جديد ليحلّ محل المجلس المنتخب لنقابة الأطباء، والتجريم المستمر لأي ممارسة احتجاجيّة في محاولة تصويرها بأنّها تضرّ بمصالح الناس، واللجوء إلى القضاء لإصدار قرار بوقف إضراب نقابة المهندسين، وتحشيد الرأي العام ضد إضراب حراك المعلمين الموحد، ومحاولة إحداث شرخ داخل جسم مجلس نقابة المحامين في صراعهم النقابي الأخير مع مجلس القضاء، وانحياز وزارة العمل إلى إدارة جامعة بيرزيت في صراعها مع نقابة العاملين في الجامعة. 

الأمثلة على ذلك كثيرة، والأجواء مناسبة جداً لتكرار ضرب النقابات والحراكات بالأداة الأبرز؛ القرار بقانون، إذ ما فتئ أبو مازن منذ أن غيّب المجلس التشريعي وحلّه يُصدر التشريعات لدرجة الإسراف، حتى تجاوزت تلك التشريعات 300 قراراً بقانون.