3 نوفمبر 2023

ماذا يقول لنا السابع من أكتوبر؟

ماذا يقول لنا السابع من أكتوبر؟

صباح السبت، السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، انتشر نحو ثلاثة آلاف مقاتل فلسطيني في الفضاء التاريخيّ لمدينتيّ غزّة وبئر السبع، حيث تقوم المستوطنات الإسرائيلية منذ عام 1948، وما إن انتصف النهار، حتّى اتّخذّ "السابع من أكتوبر" موقعه التاريخيّ الفارق في التقويم الفلسطيني.

يُقدم هذا المقال ثمانية أمور يُمكن للسابع من أكتوبر قولها، بوصفه فاتحة لفصل جديد في التاريخ الفلسطيني، بغضّ النظر عن المآلات النهائية للأحداث الدائرة.  

تحرير المُخيّلة الفلسطينية

لا يتقدم الفعل السياسيّ دون مُخيلة تستشرف المُمكن والمأمول فوق تلّة الوقائع الصلبة، لم يتحرّر شيء من فلسطين في السابع من أكتوبر، بمعنى التحرير المقصود في الشعار الوطني الفلسطيني منذ عام 1948، لكنّ السابع من أكتوبر حرّر المُخيّلة الفلسطينية من وهم التفوّق الإسرائيلي المطلق، إذ انفكّت اللغة السياسية للفلسطينيين عن مقولة "الجيش الذي لا يُقهر"، والتي كرّسها النظام الرسمي العربي بعد عام 1967، مُستفيداً منها لتعليل تقاعسه واستبداده، كما انفكّت اللغة ذاتها عن مقولة "الواقعيّة السياسية"، التي كرّسها مسار التسوية العرفاتيّ، مُصيّراً الثورة الفلسطينية دولةً بلا سيادة. بالطبع، لن يتبنى الجميع اللغة الفلسطينية الجديدة وسيعتصم كثيرون بسابقتها، لكنّ سقفها العالي سيظل مُتاحاً أمام كل نقاش يتناول "مستقبل إسرائيل" بجدّية، في فلسطين والوطن العربي. 

الجيش الذي لم يُقاتَل

بتفكيك السرديات العسكرية لتاريخ الصراع العربيّ الإسرائيلي، منذ النشأة الجنينية للمشروع الصهيوني في رحم الاستعمار الإنجليزي، يتضح أن العرب لم يستنفروا طاقاتهم الحربية جدّياً في أيّ مواجهة تخصّ  فلسطين1توقّف الإضراب الكبير في الثورة الفلسطينية عام 1936، بضغط من الزعماء العرب على القيادة الفلسطينية، تلبيةً لرغبة بريطانية. وفي نكبة عام 1948، لم تتدخّل الجيوش العربية ضمن جبهة موحدة، إنّما ضمن محاور مُتناقضة، فضلاً عن قلّة أعدادها مقارنة بعدد المقاتلين الصهاينة، والأهمّ امتناعها عن القتال في عدد من مناطق فلسطين ووجود شبهات بالخيانة (ماكو أوامر). وفي نكسة عام 1967، لم يكن الجيش المصري جاهزاً للقتال، ولم يجر الدفاع عن القدس والضفة الغربية، باستثناء معارك محدودة. أمّا حرب عام 1973، والتي تحقّق بها نصر عربي عسكري، فقد نتج عنها خروج مصر من الصراع، إثر توقيع "اتّفاق السلام" بين الحكومتين المصرية والإسرائيلية‍. ومنذ تلك اللحظة، أي منذ خمسين سنة، لم تواجَه "إسرائيل" بأيّ جيش نظاميّ.. لقد تحقّق في السابع من أكتوبر، أعظم انتصار عسكري عربي على "إسرائيل"، طوال تاريخ الصراع، رغم استناد "طوفان الأقصى" إلى مقاتلين غير نظاميين، جرى تدريبهم وتجهيزهم في بقعة مُحاصرة. ولو سوند هذا "الطوفان" بعمليات عسكرية متزامنة، عبر الجبهات العربية الأخرى، لشهدت "إسرائيل" هزّة وجودية لكيانها. يُعيد السابع من أكتوبر التأكيد أنّ الجيش الإسرائيلي "الذي لا يُقهر" هو "جيش لم يُقاتَل" ولم يُختَبَر على نطاق واسع، وأنّ القوّة الرئيسة لـ "إسرائيل" ليست مستمدّة من قوّتها العسكرية، إنّما من علاقاتها الوثيقة بالأنظمة العربية، ومن حلفائها الغربيين.

مركبات عسكرية لجيش الاحتلال دمرتها المقاومة خلال معركة طوفان الأقصى.

جيل جديد للحركة الوطنية الفلسطينية

في الخمسينيات، ومع رسوخ النكبة باعتبارها عملية تاريخية مستمرة، اندثر الجيل الأول من الحركة الوطنية الفلسطينية، مُمَّثلاً بأمين الحسيني ومعارضيه، وانبثق جيل جديد؛ فدائيو المخيمات و"حركة فتح" وتشكيلات اليسار، وقد انضوت غالبيّة هؤلاء في إطار "منظّمة التحرير" التي سيطر عليها ياسر عرفات في المحصّلة، وخلال الثمانينيات والتسعينيات دخلت على الخطّ حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلاميّ"، اللتان ستظلان خارج إطار المنظمة، ومع رحيل ياسر عرفات وانتهاء الانتفاضة الثانية، اكتمل المسار الذي حوّل المنظمّة إلى سُلطة فلسطينية تشتغل بنيوياً ضدّ المسار التحرّري، وبالتالي لصالح الاستعمار نفسه (Quisling Government)2يُشير مصطلح كويسلنغ الشهير إلى الحكومات المحلية العميلة، والتي تشتغل لصالح قوات احتلال/ استعمار خارجية، ويعود أصل المصطلح إلى الحكومة النرويجية العميلة للاحتلال النازي (1942 – 1945).

في عام 2006، كسبت حماس أغلبية مقاعد "البرلمان الفلسطيني"3يؤدّي "المجلس التشريعي الفلسطيني" وظيفة البرلمان في النظام السياسي الفلسطيني الذي تشكّل بعد تفاهمات منظمّة التحرير بقيادة عرفات مع "إسرائيل"، جرت الانتخابات التشريعية في الضفة الغربية وقطاع غزّة. في انتخابات جرت تحت رقابة دولية، وهو ما خلق نزاعاً داخلياً انتهى بحكم حماس لقطاع غزّة وتمركز ثقلها العسكري فيه، مع حركة الجهاد الإسلامي وباقي تنظيمات المقاومَة، ومنذ تلك اللحظة، تخوض "إسرائيل" مواجهاتٍ متتالية ضدّ سكّان القطاع وتنظيماته. وبينما بدت حماس محض حركة دينية متطرفة، في المنظار الغربيّ الاستشراقيّ، بدت عنواناً رئيساً للجيل الثالث من الحركة الوطنية الفلسطينية، في المنظار الوطنيّ المحليّ، وما سيتّضح قريباً أنّ السابع من أكتوبر قام بإظهار هذه القراءة بصورة نهائيّة.

مقاتلو القسام يتحركون نحو معبر إيريز شمال قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023. (تصوير محمد عابد / وكالة الصحافة الفرنسية)

إيران والمجال العربي المهجور

ترتبط المسألة الفلسطينية عضوياً بالمسألة العربية؛ فشل الدولة وشيوع الاستبداد وغياب التعاون القوميّ، إذ تُعدّ ديمومة الحالة الاستعمارية في فلسطين تعبيراً عن خلل بنيوي عميق ومزمن يصيب الحياة السياسية العربية. ولم تكن الحاجة قائمة إلى السابع من أكتوبر لبسط هذه الحقيقة التي يؤمن بها غالبية العرب، لكنّ السابع من أكتوبر قدّم قصة تدعم هذا السياق بشكل استثنائي. 

فمع التورّط الإسرائيلي في سلسلة متواصلة من الجرائم في حق المدنيين بغزّة، بما في ذلك جرائم حرب من العيار الثقيل وجرائم ضدّ الإنسانية وجرائم إبادة جماعية، وسط حصار مطبق اضطر الأهالي إلى شرب مياه ملوثة واضطر الأطباء إلى إجراء عمليات بتر من دون تخدير، لم تستطع الدول العربيّة كافة إغاثة القطاع بحاوية واحدة تضمّ عبوات مياه شرب ولصقات جروح. هذا رغم أن معبر رفح تحت السيطرة العربية، ورغم امتلاك ستّ دول عربية سفارات في "تل أبيب"، ورغم العلاقات الوثيقة، تاريخاً وراهناً، بين الممالك العربية والولايات المتحدة الأميركية، ورغم كثير ممّا هو مفهوم ضمناً. هذه القصة القصيرة ستكون حاضرة بقوّة عندما يُشار خلال السنوات القادمة إلى النفوذ الإيراني في المجال العربي. 

مُستعمرة على مفترق طرق العالم القديم

طوال العقود الماضية، وُصِفت "إسرائيل" في الأدبيات السياسية العربية بقاعدة الغرب المتقدّمة على مفترق طرق العالم القديم، وكذلك رأس حربة الاستعمار الجديد وبرج مراقبة المصالح الغربية في المنطقة العربية. وقد بدت هذه الأوصاف أحياناً، بالنّسبة إلى فاعلين عرب في مجالَي السياسة والثقافة، شعارات قوميّة بائدة تنقضها الحقائق الراهنة للعلاقات الدولية، غير أنّ السابع من أكتوبر أكسب هذه الأوصاف، من جديد، مكانة مرتفعة في الوعي السياسي العربي، وهي مكانة يصعب التشكيك فيها بعد اليوم، فقد هرعت الحكومات الغربية لمساندة "إسرائيل" عسكرياً واقتصادياً باعتبارها امتداداً للبرّ الأوروبي ومستعمراته وراء البحار، دون أدنى اعتبار للعلاقات الغربية مع دول المنطقة الأخرى، ودون أدنى التفاتة إلى قراءة شعوب المنطقة للحدث، فضلاً عن أدنى مسؤولية تجاه حقوق الفلسطينيين أنفسهم. ومن ناحية عملية، فإنّ الولايات المتحدة الأميركية، صاحبة النظام الدوليّ وراعية المصالح الغربية، تشرف اليوم بنفسها على الحرب الجارية على قطاع غزّة (أصغر من مدينة ديترويت).  

الشرق شرق تماماً والغرب غرب تماماً4هذا العنوان الفرعيّ هو تحوير مقصود لمقطع محمود درويش الشعريّ "لا الشرق شرق تماماً، ولا الغرب غرب تماماً"، في رثائه لإدوارد سعيد (قصيدة طباق عن إدوارد سعيد).

أوضحت الأيام اللاحقة للسابع من أكتوبر، أكثر من أيّ وقت قريب مضى، ازدواجية المعايير الغربية حينما يتعلق الأمر بما هو "غير أبيض"، فقد مُنِحَت "إسرائيل"، من قبل القوى الرئيسة في المجتمعات الغربية، مظلتَي السياسة والإعلام اللازمتين دولياً لشنّ حرب على قطاع غزّة، وهي حرب انتقامية لم تراع منذ لحظتها الأولى أبسط الشروط الإنسانية، ولم تلتزم إطلاقاً بالقواعد التي تُحدّد ما لا يمكن فعله في النزاعات المسلّحة، بحسب القانون الدولي.

ولن يكفي القول بأنّ القصف الجوّي يقتل في قطاع غزّة طفلاً واحداً كلّ عشر دقائق، بينما تتناثر الأشلاء البشرية في مشهد ديستوبيّ، وأنّ المشافي والمراكز الصحيّة وسيارات الإسعاف وملاجئ النازحين والمخابز والمساجد والكنائس والمقار الأممية؛ كلّها أهداف يومية لأطنان من المتفجّرات، وأنّ خطوط الماء والكهرباء وشبكات الاتّصال قطعت ضمن خطّة مُعلنة لعقاب جماعيّ يشمل نحو مليوني إنسان، علاوة على قطع إمدادات الغذاء والدواء والوقود. هذا، وتُكرّر "إسرائيل" تصريحها بأنّ الحرب في بدايتها، وأنّها ستدعم الهجوم الجوّي باقتحام برّي شامل وتُشدِّد الحصار وتنفّذ تهجيراً قسرياً.

تعرف "إسرائيل" أنّها ستنجو من أيّ "عقاب دوليّ"، مستفيدة من الدعم الغربي غير المحدود، وهو ما يُعزّز "صورة الغرب الهمجية والبربرية" في الوعي الجمعي للشعوب العربية، وما يدفع التنافر في "ثنائية الشرق والغرب" إلى حدودها القصوى.    

الأبارتهايد: تشخيص خاطئ

تشير مساحة واسعة في الحراك العالمي المناصر للفلسطينيين إلى الصراع باعتباره نموذج فصل عنصري مقتبس من الحالة الاستعمارية لجنوب إفريقيا (الأبارتهايد Apartheid)، وهو ما أعلنته منظمة العفو الدولية صراحةً مطلع عام 2022. ورغم ما يقدّمه هذا الطرح من خدمة إعلامية ودبلوماسية للحقّ الفلسطيني المُنتهك، فإنّه يظلّ قاصراً بشدّة عن فهم خصوصية الحالة الاستعمارية لفلسطين، فهو يفسّر شطراً من آليات الضبط الإسرائيلي للسكّان على جانبَي الخطّ الأخضر، وينصرف عن تفسير الآليات الكبرى التي تطوّر المبنى الاستيطاني الصهيوني يومياً على حساب الوجود الفلسطيني البيولوجي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والحضري والثقافي والرمزي، في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزّة وأراضي عام 1948 والشتات (يُسمّي صالح عبد الجواد هذه العملية الشاملة بالسوسيوسايد Sociocide)5المؤرخ الفلسطيني صالح عبد الجواد معروف بمواجهته لخطاب "الأبارتهايد" وتنظيره لنموذج "السوسيوسايد"، ويعني به عملية مستمرة لشطب وإلغاء المجتمع الفلسطيني كلّياً لصالح الاستيطان الصهيوني.. 

سياج كيبوتس "كفار عزة" إحدى مستوطنات غلاف غزة التي اجتازها المقاومون خلال معركة طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023.

إضافة إلى دلائل سابقة كثيرة وكثيفة، يُرينا "ردّ الفعل" الإسرائيلي على السابع من أكتوبر فشل الأبارتهايد في أن يكون نموذجا تفسيريا للحالة الاستعمارية لفلسطين، فلا علاقة بين المعنى الجوهريّ للفصل العنصري، وما يجري من تحويل أحياء سكنية بأكملها إلى أكوام خرسانية تختلط باللحم والدم، ومن عمليات ميدانية وخطابيّة غايتها الترحيل والتطهير العرقيّ، بالتوازي مع إعدام عشرات الفلسطينيين وانتشار ميليشيات المستوطنين في الضفة الغربية، ومع قمع أبسط الاحتجاجات الرمزية لدى فلسطينيي الداخل على طريقة الأنظمة الشمولية. 

استحالة القفز عن فلسطين 

يُمكن اعتبار السابع من أكتوبر انقلاباً على مسار "التطبيع" المُتسارع في المنطقة العربية، إذ أعاد الفلسطينيون أنفسهم إلى بؤرة المشهد، وبات من الصعوبة ترويج إقليم "يزدهر" على حساب قضيتهم التاريخية وحقوقهم الراهنة. وقد أثبتَ ما جرى قدرة الحركة الوطنية الفلسطينية، حين تتحلّى بالإرادة، على بعثرة الأوراق السياسية والاقتصادية التي تعمل "إسرائيل" جاهدةً، مع أنظمة عربية، على توضيبها في نسق تاريخيّ يقطع مع ما قبله. وسواء جرت مراقبة المشهد من أرضيّة منحازة إلى الحقّ الفلسطيني أو من أرضيّة مُناهضة له، فمن الواضح أنّ محاولة "توزيع الموت بعدالة" ستظل قائمة في فلسطين، ما لم تتوزّع الحياة بالعدالة ذاتها.



4 أغسطس 2018
لُعبة "Call of Duty" فوق سماء غزّة

أشهر قليلة قبل احتلال العراق، واجهت الجيشَ الأمريكيّ صدمةُ: "لُعبةِ حربٍ" هي الأكبر في التاريخ، استمرت 20 يوماً، واشترك فيها…