3 فبراير 2022

ليست كابول أقدسَ من الخليل: الارتحال في قافلة عبدالله عزّام

ليست كابول أقدسَ من الخليل: الارتحال في قافلة عبدالله عزّام

"وكنتُ أزور هذه القواعد1قواعد عسكرية أسسها الإخوان المسلمين بقرار من المكتب التنفيذي للإخوان المسلمين في الأقطار العربية، وبمشاركة إخوانية متنوعة، عملت تحت إطار حركة (فتح)، نفّذ كادرها عدداً من العمليات العسكريّة ضدّ قوات الاحتلال في الأرض المحتلة، وقدمت عدداً من الشهداء، كان من أبرز قادة التجربة الشيخ عبد الله عزام والدكتور أحمد نوفل. حُلّت تلك القواعد إثر أحداث أيلول/سبتمبر 1970، ويمكن مراجعة بعض تفاصيل هذه التجربة في: غسان دوعر، قواعد الشيوخ: مقاومة الإخوان المسلمين ضدّ المشروع الصهيوني 1968-1970 (بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2018وقدم القيادي الإخواني عبد الله أبو عزة نقداً لهذه التجربة في: عبد الله أبو عزة، مع الحركة الإسلامية في الدول العربية (الكويت: دار القلم للنشر والتوزيع، 1986)؛ وينظر أيضاً: عزام التميمي (محاور)، "مراجعات مع د. عبد الله أبو عزة"، قناة الحوار الفضائية، بتاريخ 31/5/2010. في أيام الجُمَع بشكلٍ دوريٍّ سنة 1968 - 1969 من أجل المتابعة الطبيّة. وأذكر الشهيد عبد الله عزّام وهو يحمل سلاحه الكلاشنكوف ذا الأخمص الخشبي، وكان يتكئ عليه في أثناء خطبته يوم الجمعة".2بلال محمد شلش (محرر)، إلى المواجهة ذكريات د. عدنان مسودي عن الإخوان المسلمين في الضفة الغربيّة وتأسيس حماس (بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2013)، ص 67-68.

 عزّام "المقاتل"؛ هذه هي الصورة الأبرز في مذكرات عدنان عبد الحافظ مسودي (1944-2011) عن عبد الله عزّام.3عبد الحافظ مسودي: ولد في مدينة الخليل، وانتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين في صيف 1956. شغل في العام 1980 عضوية المكتب الإداري العام للإخوان المسلمين في الضفة والقطاع وأسهم في تأسيس بنية تنظيمية جديدة للجماعة في المدينة. كان من قادة توجه الإخوان المسلمين للتحول نحو مواجهة الاحتلال، وأيد قرار المكتب الإداري العام في تشرين الأول/أكتوبر 1987 بتأسيس ما سيعرف لاحقاً بحركة "حماس"، شارك في صياغة وثائق الحركة الأساسية كميثاقها، اعتقل في حزيران/يونيو 1989 مع عدد من قياداتها، وأبعد إلى مرج الزهور وبعد عودته اعتقل عدة مرات من قبل قوات الاحتلال وأجهزة أمن السلطة الفلسطينية كان آخرها في كانون الأول/ديسمبر 2010 قبل وفاته بشهور قليلة. وهي كذلك في مذكرات قادة آخرين من إسلاميّي فلسطين، من الذين قادوا التحوّل نحو "المواجهة". فبعد سنين من محاولات مسودي، التي انتهت بإسهامه في تأسيس حركة "حماس"، وعندما أراد الشيخ محمد أبو طير تفعيل العمل العسكريّ في منطقة القدس أواخر الثمانينيّات، كان الشيخ عبد الله عزّام أحد أبرز الشخصيّات التي عوّل عليها. يقول أبو طير: "تطوّر العمل المقاوم خلال هذه الفترة كثيراً، وظهر العمل العسكريّ بعد هذه السنين من الانتفاضة الشعبية، وكنت أبحث عن مصادرٍ لدعم هذه المرحلة. وقد شغلت هذه الساحة عالمنا العربيّ والإسلاميّ، وكانت همّاً من هموم الشيخ الشهيد عبد الله عزّام".4بلال محمد شلش (محرر)، سيدي عمر.. ذكريات الشيخ محمد أبو طير (بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2017) ص 197.

يحضر عزّام "المقاتل" أيضاً كفصلٍ من فصول كتاب "القافلة.. عبد الله عزّام وصعود الجهاد العالميّ"،5توماس هيغهامر، القافلة عبد الله عزام وصعود الجهاد العالمي، ترجمة: عبيدة عامر (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2021).لمؤلفه النرويجي توماس هيغهامر، الذي يحكي قصّة عبد الله عزّام، ومسيرة عالميّة الجهاد والعرب الأفغان. يقع الكتاب في 815 صفحة، في ستة عشر فصلاً رُتبت ترتيباً زمنيّاً وقُسِّمت موضوعيّاً بطريقةٍ بديعة، فغطّت الفصول الست الأولى: (فلسطيني، أخ، مقاتل، عالم، ابن سبيل، كاتب)؛ أي مرحلة عزام قبل تجربته الأفغانية، ووفقاً للمؤلف فإنَّ غاية هذه الفصول تغطية جوانب من خلفية عبد الله يوسف عزام المولود في بلدة السيلة الحارثية قضاء جنين في العام 1941، وذلك لفهم تأثيره اللاحق.

اقرؤوا المزيد: موجز سيرة "حماس".. من بدايات الدعوة إلى مأزق السلطة.

أما الفصول التالية فاعتنت بتجربة عزّام في أفغانستان لغاية اغتياله يوم 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989، وختمت بالفصل السادس عشر حول إرثه المتنازع عليه. وعلى الرغم من أنّ اهتمام هيغهامر، الذي هو أيضاً صاحب كتاب "الجهاد في السعودية: قصة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب" (2013)، مُتعلّق بتجربة عزّام الأفغانيّة، إلا أنّ هذه القراءة للكتاب انطلقت من اهتمامين بحثيين مغايرين: الأول متعلق بتاريخ مقاومة أهل فلسطين المُسلّحة، والثاني متعلقٌ بتاريخ الحركة السياسيّة الفلسطينيّة المعاصرة. ولذا فإنَّ هذه القراءة تُركَّزُ على سيرة عزام "الفلسطينيّ"، وصلة عزّام "الأفغانيّ" بفلسطين، والتي حضرت بشكلٍ جليٍّ في فصول الكتاب المختلفة.

كابول والخليل

شكّل الاحتلالُ مظلمةً شخصيّةً لعزّام، لم تستطع الدول الوطنيّة العربيّة معالجتها، فكان الجهد الوحدويّ الإسلاميّ هو الخيار المتاح، وجعله لجوئه ونزعُ جذوره أكثر قدرةً على الحركة. بهذا خلُص الكاتب في فصله الأول إلى أن خلفية عزام الفلسطينية "أقل تضارباً مع مشاركته في أفغانستان مما قد تبدو عليه، بل ربما جعلته أكثر ميلاً أو دفعته باتجاه النزعة عبر الحدود".6المصدر السابق، ص71. 

كما أنَّ فلسطينيّة عزّام ورمزية فلسطين، أعطته نفوذاً عاطفيّاً أكيداً، وزوّدته شبكةُ الشتات الفلسطينيّة بدعمٍ لوجستي.7المصدر السابق.وهي الشبكة التي تعزّزت بشبكة عزّام الإخوانيّة، إذ لم يقتصر دورُ الإخوان المسلمين الذين انتمى إليهم عزّام مُبكِراً في تشكيل قناعاته ومنظوره للعالم، وإنما أيضاً "قدّم له الإخوان تواصلاً دوليّاً ساعده ووجّهُه إلى مساراتٍ مُحددة في نقاط فارقة من حياته".8المصدر السابق، ص 99.

اقرؤوا المزيد: عبّاس السيّد: الرجل الذي سيعيش أكثر من "إسرائيل". 

أكد هيغهامر على أنَّ فلسطين احتلت موقعاً مركزيّاً في ذهن عزّام ومنظوره الاستراتيجيّ، والذي أكدَّ على وجوب تحرير فلسطين دينيّاً. كما وتمنى المشاركة في تحرير بلاده، غير أنّ عدم مواتاة الفرصة قد أعجزه عن ذلك كما يُبرّر. اقتبس هيغهامر قول عزّام الذي يقول: "أنا فلسطيني، ولو وجدت طريقاً إلى فلسطين وإلى رحاب الأقصى كان أَحبَّ إليَّ أن أُقاتِل فيه".9المصدر السابق، ص 65.

عبد الله عزام، يسار الصورة، مع شيوخ آخرين لم تُذكر أسماؤهم في مصدر الصورة. أفغانستان نهاية الثمانينيات، API

كذلك، حضرت فلسطين في كتب عزّام المختلفة، وبقيت حاضرةً في مجالسه الخاصّة أثناء تجربته الأفغانيّة. وأبرز هيغهامر دفاعَ عزّام عن مشاركتِهِ في التجربة الأفغانيّة، والتي ظَهَرت في بعض نصوصِهِ (أي نصوص عزّام) وكأنّها مجردُ استغلال فرصة: "ليست أفغانستان عندي أعزّ من فلسطين، ولا كابول أقدسُ من الخليل، ولكنها فرصةٌ اغتنمتُها بعد أن طاردَني الظالمون [...] فخرجتُ إلى أرضٍ أَجِدُ فيها سبيلاً للدعوة وميداناً للحركة".10المصدر السابق، ص 68.

موسم الهجرة

فلسطينية عزّام، كانت قد قادتْهُ إلى خوض غمار أول تجربةٍ عسكريّة له، في ظلال "قواعد الشيوخ"؛ وهي الإرث الذي حضر في تذكرات مسودي كما في تذكرات عموم أبناء الإخوان المسلمين الفلسطينيّين، وسيتضاعف حضورُها بحضور "حماس". ووفقاً لهيغهامر، فإنَّ هذه التجربة عزَّزت حضورَ عزّام الإخوانيّ، و"أعطته طعمَ الحياة العسكريّة بكلِّ مشاعرِها: شعور المعنى، وإثارة المغامرة، والفخر باختراق المصاعب، وسرور الأخوة". ويُضيف: "لقد أقنعتْهُ كذلك أنَّ الحركةَ الإسلاميّةَ ما زالت ذات روحٍ قتاليّة، خصوصاً بين شبابها، وكلّ ما يتطلبه الأمر هو إيجاد السياق المناسب لإشعالها".11المصدر السابق، ص 128.  

انتهت تجربة "قواعد الشيوخ" مع أيلول الأسود عام 1970، وهو ما أدّى إلى إحباط عزّام من النظام السياسيّ الإقليميّ، وإلى تشاؤمه تجاه المساعي قصيرة الأمد للنضال الفلسطينيّ، وجعلته أكثرَ نقديّةً للحكومات في المنطقة،12المصدر السابق، ص 127. وسيكون لهذا الموقف أثرٌ كبيرٌ في قافلة عزّام لاحقاً كما يُخلص هيغهامر.13المصدر السابق، ص 751-769.

وكحال كثيرٍ من مقاتلي فلسطين الذين أدّى وأدُ تجربتِهم في أيلول الأسود إلى تحوّلهم نحو طلب العلم، صار مع عزّام الذي كان يملك رأسمال رمزيّ بوصفه عالماً إسلاميّاً، وهو ما أكسبه مزيداً من الحضور في الساحة الأردنيّة. ومثلما أبرز هيغهامر، وأكدّته عشراتُ الإعلانات والأخبار في الصحف اليوميّة الأردنيّة (التي غابت في جلّها عن مصادر هيغهامر)، فإنَّ عزّام المُحاضر في كلية الشريعة في الجامعة الأردنيّة كان أحد أبرز الوجوه الدعويّة في الأردن، وكان بعضُ تلامذته من خريجي الشريعة في الجامعة ممّن أصبحوا لاحقاً أبرز دعاة الإخوان المسلمين في الأرض المحتلّة. 

لكنّ نشاط عزّام في الأردن، سيدفعه إلى هجرته منها عام 1980 باتجاه مكّة وفقاً لهيغهامر، ليخطّ مساراً جديداً سيقوده إلى أفغانستان.

الغائب الحاضر

لم يعن رحيل عزام لأفغانستان رحيلاً عن فلسطين، إذ أعاد عزام -بتعبير هيغهامر- "استثمار نفسه في النضال الفلسطينيّ"، لأنَّ الانتفاضة الأولى عام 1987 أعطته أملاً بأنَّ المقاومة قد يقودها الإسلاميّون أخيراً. ثمّ إنّه ساند الانتفاضةَ إعلاميّاً، واستخدم خطاباتِه عن أفغانستان لجمع التبرعاتِ لـ"حماس"، ودعا الفلسطينيّين إلى القدوم إلى أفغانستان للتدرّب العسكريّ.14المصدر السابق، ص 69-70.  

مع هذا، يُشير هيغهامر إلى أنَّ تأثيرَ عزّام في الانتفاضة بقي محدوداً، وأنّ الهجمات التي شنّها "المخضرمون الأفغان" الذين قاتلوا في أفغانستان وعادوا إلى البلاد، كانت جزءاً صغيراً جداً من العمليات الفلسطينيّة في تلك الفترة، وأنَّ المهارات العسكريّة المستوردة من أفغانستان لم تُغير المشهد في فلسطين. كذلك يُضيف، أنّ "حماس" لم تتبنى رؤيةَ عزّام الأُمميّة للعالم، مُفضِّلةً عليها استراتيجيةً محليّة.15المصدر السابق، ص 660-661.

ناقش هيغهامر في الفصل الأخير إرثَ عزّام وتحوّلِهِ إلى رمز، وتحدَّثَ عن وجود قاعدةِ دعمٍ رئيسية له في فلسطين، وهي "حماس". احتُفي بعزّام كبطلٍ من قبل "حماس" وداعميها، وتم تداول كتاباته بين هذه الأوساط بشكل كبير. حتّى أنّ التقارير الأمنيّة الإسرائيليّة التي تلت اجتياحاتِ الانتفاضة الثانيّة تحدثت عن العثور على أعدادٍ كبيرةٍ من الكتب والمقالات وأشرطة الفيديو والكاسيت والبيانات لعزّام في منازل ومساجد ومؤسسات "حماس".

ملصق للكتلة الإسلاميّة، الذراع الطلابي لحركة "حماس" ينعى شهداءها، ويحمل صورة الشيخين عزّ الدين القسام وعبد الله عزّام. أرشيف الباحث بلال شلش.

في خُلاصة "القافلة"، قدّم هيغهامر إجابةً لمجادلتِهِ الرئيسية المتعلقة بالجهاديّة العالميّة وحضور الأفغان العرب في أفغانستان. إذ أشار إلى أنَّه يمكن فهم ودراسة النزعة الجهاديّة عبر الحدوديّة في السياستين المحليّة والإقليميّة للشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية من خلال تتبع مسار عزّام الشخصي. 

بعضٌ ممّا وقع فيه

بُني كتابُ "القافلة"، على حدِّ تعبير مؤلِفِه، وفقاً لآليتي عمل، الأولى العمل كمؤرخٍ في ثُلثي الكتاب، والثانية العمل كعالم اجتماعٍ في الثلث المتبقي. أما أسئلة الكتاب المركزيّة فتتلخصُ في تقصّي ثلاثة خطوط: خطّ حول الحقائق الأساسية لسيرةِ عزّام، وخطّ معنيّ بمصادر تأثير عزّام، وخطّ ثالث متعلّق بمجموعة من الأسئلة ذات العلاقة بآليات حشد العرب إلى أفغانستان. 

وللإجابةِ عن خطوط الاستقصاء الثلاث، اعتمد الكاتبُ على كمٍ كبيرٍ من المصادر الأوليّة والأدبيات الثانويّة. لكن يظهر من تتبع مصادر الكتاب المختلفة، أنّه اعتنى بالأدبيّات التي توثّق التجربة الأفغانيّة، فَطَغَتْ هذه الأدبيات المحليّة المنبثقة عن التجربة وصناعها على مجمل الأدبيات الأخرى. لكن هذا لم ينطبق كثيراً على الأدبيات التي غطّت مرحلةَ عزّام "الفلسطينيّ".

يفتقد الباحثُ في دراستِهِ لمراحل عزّام الأولى، وهي مراحل مهمة ومركزيّة تساعد في تحليل دور عزّام لاحقاً، لمواد أولية مختلفة، وقد أشارَ إلى بعضِها عندما تحدَّثَ عن عدم استغلاله للأردن كميدان بحثٍ بشكلٍ كامل. ولعلّ حقلَ فلسطين لا يقلُّ أهميةً عن الحقول الأخرى، فحضور فلسطين المركزيّ الممتد في مسيرة عزّام، كان بحاجةٍ لمزيد من التعمق فيها. وهو تعمقٌ يجدر به أن لا يكتفي  بالمقابلات مع تلاميذ عزّام والمتأثرين بتجربته من مؤسسي "حماس" وأبنائها16ومن قبل تجربة حماس، تجربة الجماعة الإسلامية في السجون؛ أحد روافد الجهاد الإسلامي و"حماس" لاحقًا. فمثلا كان كتاب عبد الله عزام الإسلام ومستقبل البشرية أحد المصادر الأساسية للشباب المؤسسين للجماعة، ينظر: محسن ثابت، نشأة الجماعة الإسلامية في سجون الاحتلال الإسرائيلي ([فلسطين:] [المؤلف]، د. ت.)، ص 54.، وأن يحرص على الإجابة عن الأسئلة والاستفسارات التي قدّمها في مطلع الكتاب، ويضيء على تجارب أغفلها تأثرّت بشكلٍ مباشرٍ بتجربة عزّام الأفغانيّة. 

كما تنقص الكتاب قراءة لحضور عزّام الماديّ والرمزيّ في فلسطين، حضوره كمقاتلٍ وحضوره كـ"أفغانيّ"، إذ يمكن ملاحظة أثر التجربة الأفغانيّة وتفاعل الإخوان المسلمين الفلسطينيّين معها، على تحوّل الإخوان نحو "حماس". ويمكن رصد مظاهر هذا الحضور في سير ومذكرات عددٍ من كوادر ومؤسسي "حماس"، ويمكن أيضاً ملاحظته في مناهج أُسرِ الجماعة، وفي أدبيات الكتل الإسلاميّة (المُنطلق نموذجاً) ووسائل إعلامها، وهي الإطار العلنيّ الفاعل للإخوان المسلمين في الأرض المحتلّة أثناء التجربة الأفغانيّة.

مصدرٌ آخر كان يمكن أن يُغني القسم الأول من "القافلة" هو الصحافة المحليّة، فالصحافة الأردنيّة طافحة بإعلانات لمحاضرات عزّام وأخبارٍ تُلخّص أبرزَ ما جاء فيها، ويُمكن لتلك المصادر أن تُعزّز القسم من الكتاب المُتعلِق بعزّام كـ"عالِم". كذلك يمكن من خلالها قراءةُ أثر تجربةِ عزّام "الخطيب"، في الأزهر خصوصاً، ومصر عموماً، على خطابه الدعويّ في الأردن وفلسطين.

بعيدًا عن المصادر الغائبة، يُلحظ أنَّ هيغهامر عموماً لم يُقدِّم قراءةً نقديّةً لمصادرِهِ المختلفة، وتساوت لديه في كثيرٍ من الأحيان الأدبياتُ المتناقضة، رغم وجود ملاحظاتٍ نقديّة لبعض مُعطيات مصادره، إلا أنَّ هذا النقد كان في أحيانٍ إشكاليّاً، خصوصاً في القسم الأول المُتعلق بتجربة "عزّام فلسطينيّاً".

كما أنَّ عنايةَ هيغهامر في تدقيق تفاصيل تأريخ تجربة عزّام الأفغانيّة، لم تنعكس في أحيانٍ على تأريخ مرحلة فلسطين، وهذا أوقعه في أخطاءٍ عديدة، فمثلاً علّق بعد أن نُقِل عن عزّام وصفُه لإعدام الاحتلال الإسرائيلي مجموعةٍ من الشباب والتمثيل بجثثهم ممن توجهوا لحصد القمح المزروع في الأراضي المحتلة، بالقول: "من الصعب إيجاد تأكيد مستقل لهذه القصة؛ تأريخات حرب 1948 تحتوي قصصاً عن مجازر بالسلاح وتعذيب واغتصاب، ولكنها لا تحتوي ذبحاً بهذه الطريقة التي وصفها عزام".17القافلة، ص 51.  

اقرؤوا المزيد: كتابة التاريخ لا تتوقف.. عن السرديّات الصهيونيّة لحرب الـ 48.

وما فات هيغهامر أن عزّام لم يكن يتحدث عن حوادث الحرب، وإنما عن حوادث تالية عُرِفَت بحوادث "حرب الحدود" أو "النزلات" أو "التسلل"، إلخ. والمشهد الذي تحدث عنه عزام توجد عشرات المشاهد المشابهة له في مجمل المناطق الحدودية، ووُثّق جزء أساسي من هذه الحوادث بصور حُفظت في أراشيف الأمم المتحدة، إذ توفر هذه الأراشيف، كما بعض الأراشيف الأخرى كالأرشيف البريطاني وأراشيف الاحتلال، ملفاتٍ تفصيليّةً عن حوادث قتل من اتُهِموا بـ "التسلل" وأُلقيت جثثُهم على الحدود.

كذلك، عجز هيغهامر عن نقد كتاب أمنون كوهين،18Political Parties in the West Bank under the Jordanian Regime, 1949-1967. إذ يقول عن كتابه: "بيانات كوهين موثوقة لأنها معتمدة على وثائق استخباراتية أصلية أصدرتها أجهزة الأمن الأردنية، استولت إسرائيل على سجلاتها الموجودة في القدس عام 1967، ونشرتها للعامة ضمن أرشيف دولة إسرائيل".19المصدر السابق، ص 77. فقوله هذا ليس دقيقاً، فلم يكن الكتاب جزءاً من البحث الأكاديميّ العام، ولم تنشر مجمل وثائقه وتُتح يوماً للعامة، وإنّما هو جزءٌ من بحثٍ أمنيّ نفّذته الأكاديميا الإسرائيليّة لصالح المؤسسة الأمنيّة ومنظومة الحكم العسكريّ التي عمل فيها كوهين. كما أنَّ طبيعة المادة الأوليّة التي تأسّس عليها ذلك الكتاب، ولكونها وثائق مخابراتيّة، تدفعُ لمزيدٍ من الحذر والنقد. وقد كان هذا النقدُ بعينهِ مدخلاً لكتاباتٍ أكاديميّة أخرى (بعضها إسرائيليّ أيضاً)، تجاوزت كوهين وقدَّمت تأريخاً مُغايراً لتجربة الإخوان المُسلمين أثناء الحكم الأردنيّ لبقية فلسطين.

أجوبةٌ تفتح على أسئلة

مع ذلك، يبقى كتابُ "القافلة" نصّاً استثنائيّاً، ونموذجاً لسيرةٍ مُغايرةٍ للأدبيات السائدة، خصوصاً في حقل الدراسات الفلسطينيّة. وربّما تكون القراءةُ المُقدّمة قاصرة، فتركيزها على الجانب الفلسطينيّ من سيرة عزّام قد أغفل قراءة المداخلة الأساسيّة للكتاب. غير أنّ ما قدمتُهُ هنا من تفصيلاتٍ وتحليلاتٍ يُمكن أن يفتح الباب لكثير من الأسئلة والنقاشات، لعلّ أبرزها فلسطينيّاً السؤال حول العلاقة بين تأسيس سرايا الجهاد وعبد الله عزّام،20وردت إشارات على مثل هذه الصلة في مذكرات أحد قادة السرايا: معين الطاهر، تبغ وزيتون، حكايات وصور من زمن مقاوم (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017)، ص 312. وكذلك السؤال حول تجربة "حماس" العسكريّة وعلاقته بالخارج، وأثر تجربة عزّام ونصّوصه، ومن قبله نصوص سيّد قطب، في تثوير الإخوان الفلسطينيين وتوجههم للمواجهة عبر "حماس".



23 ديسمبر 2019
المقبرة

يحتشد المشيّعون في انتظار أن يُلقي أهلُ الفقيد نظرةَ الوداع على فقيدهم عبد الوهاب. وفيما عويل النساء ينبعث من فوق…