30 أبريل 2023

"لواء القدس".. ليس للقدس إلا الاسم

"لواء القدس".. ليس للقدس إلا الاسم

 بعد أيّام من إطلاق عشرات الصواريخ من الجنوب اللبناني باتجاه الأراضي المحتلّة، كردٍّ على عدوان الاحتلال المستمرّ على المسجد الأقصى، خرجت في الثامن من نيسان/ أبريل 2023 ثلاثة صواريخ من الجنوب السوري باتجاه هضبة الجولان المحتلّة.

فوراً برز "لواء القدس الفلسطينيّ" كعنوانٍ في نشرات الأخبار، بعد أن نقلت وسائل إعلام محسوبة على "محور المقاومة" إعلان اللواء مسؤوليته عن إطلاق القذائف الصاروخيّة إنطلاقاً من الأراضي السوريّة، الأمر الذي لم يؤكده اللواء ولم يعلق عليه ليومين كاملين. 

لاحقاً، نقلت وكالة "سبوتنيك" الروسية عن مصدر في اللواء، نفيه المسؤولية عن إطلاق الصواريخ باتجاه الجولان، قبل أن ينفي اللواء رسمياً عبر صفحته على "فيس بوك"، مؤكداً أن لا وجود لوحداته العسكرية في الجنوب السوريّ. تلا ذلك الإعلان عن فصل عدنان السيد، الذي شغل منصب نائب قائد "لواء القدس" منذ تأسيسه عام 2013، ومن ثم اعتقاله بقرار من "شعبة المخابرات العسكريّة" التابعة للنظام السوريّ. 

السؤال: من هو "لواء القدس الفلسطينيّ"؟ وما هو الدور الذي يلعبه؟ ولماذا يحمل اسم "القدس"؟

 كواليس التأسيس

 لم يكتفِ النظام السوريّ بإنزال الجيش والأجهزة الأمنيّة لمواجهة المتظاهرين عام 2011، فأوعز لشُعب "حزب البعث العربي الإشتراكي" وأحزاب "الجبهة الوطنية التقدمية" (ائتلاف يتزعمه حزب البعث يضم مجموعة أحزاب سورية متحالفة مع النظام) والتي تنتشر مكاتبها ومندوبيها في المدن والقرى والبلدات السورية، وإلى الفصائل الفلسطينيّة المُقرّبة من النظام في المخيمات، بفتح باب التطوّع للموالين للأسد من أجل المشاركة في مواجهة الاحتجاجات الآخذة بالتوسع، بذريعة حفظ الأمن والتصدي لـ"المؤامرة" التي تستهدف البلاد، وذلك تحت مسمى "اللجان الشعبيّة" والتي صارت تعرف بـ"الشبيحة".

مع اتساع رقعة التظاهر وتصاعد المواجهة بين النظام والثائرين عليه، تطوّرت هذه التشكيلات في مدينة حلب، حيث شاركت بدايةً في فضّ المظاهرات وحملات الاعتقال ومداهمة منازل المطلوبين للأجهزة الأمنيّة. ومع انتقال الثوار لحمل السلاح بسبب بطش النظام السوريّ واعتماده الحل الأمنيّ، بدأت الأجهزة الأمنيّة والتي كانت تقود وتوجه مجموعات الشبيحة، بإخضاع تلك المجموعات لتدريبٍ عسكريّ خاصّ في معسكرات الجيش والمخابرات بغية رفع جهوزيتها.

في مطلع العام 2013، دُمِجت كافة عناصر ومجموعات اللجان الشعبيّة (الشبيحة) في مخيم النيرب تحت مسمّى "لواء القدس"، وعُيّن محمد السعيد قائداً له بدعمٍ مفتوحٍ من فرع المخابرات الجويّة في مدينة حلب. ساهم ارتباطُ السعيد من قبل اندلاع الثورة برئيس فرع المخابرات الجوية في المنطقة الشمالية اللواء أديب سلامة، بشكل كبير، في تشكيل اللواء ودعمه من قبل المخابرات واعتماده كمليشيا رديفة ومساندة للجيش السوريّ. ويُتهم اللواء سلامة بالإشراف على عمليات قتلٍ واعتقالٍ عشوائيّ وتعذيب ممنهج وإخفاء قسري، وهي أمور كانت تجري بشكلٍ شبه يوميّ في فرع المخابرات الجويّة في مدينة حلب.  

لماذا مخيّم النيرب؟ 

منذ بداية المعارك في حلب، اكتسبت منطقة "مخيّم النيرب" أهميةً خاصّة، بسبب محاذاة المخيم لمطار "النيرب العسكريّ" ومطار "حلب الدوليّ". 

المخيم الذي تأسس بين الأعوام 1948-1950، يقيم فيه بحسب "وكالة الأونروا" 18 ألف لاجئ فلسطيني، وهو من أكثر المخيمات الفلسطينيّة اكتظاظاً بالسكان، إذ لا تتجاوز مساحته الـ 180 دونماً. يبعد عن مركز مدينة حلب 13 كيلومتراً. وينحدر أبناؤه من مناطق الجليل الأعلى الفلسطينيّ، من مدن: صفد، وعكا، وحيفا، وطبريا، ومن قرى: الطيرة، ولوبية، وترشيحا، وحطين، والكويكات، والصفصاف، والشجرة، وعين غزال، وذلك حسب "موسوعة المخيمات الفلسطينية".

الموقع الاستراتيجي للمخيم الذي يشكل حاجزاً بين القرى والبلدات المنتفضة ومناطق سيطرة النظام، دفع الأخير مبكراً للاعتماد على "شبيحة المخيم" في تأمين المنطقة وحمايتها من هجمات الثوّار، وتأمين الأطراف الجنوبيّة الشرقيّة لمطار النيرب، وكذلك مطار حلب الذي كانت تتطلّع فصائل "الجيش الحر" للسيطرة عليه، لما يمثله المطار من شريان حياة لقوات النظام.

التخويف أداة المليشيا

ثمة حادثتان كان لهما أثر كبير في تجييش الرأي العام الفلسطينيّ في مخيمي النيرب و"حندرات" ضدَّ الثورة والمعارضة السوريّة: الأولى، هي اختطاف 17 عنصراً من "جيش التحرير الفلسطينيّ" والتمثيل بجثثهم عام 2012، إذ اختُطفت حافلتهم في بلدة "مصياف" الموالية للنظام، وعُثر على جثثهم قرب محافظة "إدلب". دارت الشبهات حينها حول أجهزة أمن النظام، الذي بدوره حمّل الجريمة لـ "الأرهابيين" حسب الرواية الرسمية للإعلام السوري. وعند اقتحام الجيش الحرّ لفرع الأمن العسكريّ في مدينة إدلب في آذار/ مارس عام 2015، عُثر على صور ووثائق الضحايا وهم أحياء، فتبين أنهم كانوا موقوفين في الفرع قبل إعدامهم.

أما الحادثة الثانية، فكانت سيطرة الجيش الحرّ في نيسان/ أبريل عام 2013 على مخيم حندرات، والذي يقع شمال غرب مدينة حلب، إذ تحول المخيم لساحة معركة بين النظام وفصائل المعارضة، ما أدى لنزوح السكان وتدمير المخيم ومقتل وجرح العشرات من سكانه نتيجة القصف والاشتباكات.

قوات من "لواء القدس" التابعة للنظام السوري في مخيم حندرات للاجئين الفلسطينيين، شمال حلب، بعد سيطرتها على المنطقة في أيلول 2016. (جورج أورفليان/ وكالة الصحافة الفرنسية).

فيما أدت الانتهاكات التي ارتكبها شبيحة النيرب منذ الأيام الأولى للمظاهرات في مدينة حلب ومحيطها، من عمليات اعتقال وتعذيب وإعدام ميداني وسلب للمارين على الحواجز وخطف للمدنيين والتفاوض مع ذويهم لإطلاقهم مقابل فدية ماليّة، إلى تأليب سكان القرى المجاورة على سكان مخيّم النيرب. الأمر الذي كان يصبّ عملياً في مصلحة النظام الذي لعب على هذا التناقض، ليخيف الفلسطينيين من محيطهم ويدفع المزيد منهم للانضمام إلى مليشياته، مستغلاً في الوقت ذاته صمتَ بعض المرجعيات الفلسطينية وتواطؤ بعضها الآخر وانكشاف الوضع الفلسطينيّ في سوريا من الناحية السياسيّة والأمنيّة. 

ولقد كانت نوعيّة الذين التحقوا باللواء من أصحاب السوابق والزعران والعاطلين عن العمل من الموالين للنظام، من سوريين وفلسطينيين في مدينة حلب ومخيمي النيرب وحندرات. وممّا يغري بالالتحاق في صفوف اللواء، الصلاحيات الواسعة التي تقدّمها مخابرات النظام للمتطوعين الجدد، إذ يُسلّمون أسلحةً وبطاقاتٍ أمنيّةٍ خاصّة تصدرها شعبة المخابرات الجويّة، ويجري إغراؤهم بمصدر دخلٍ ثابتٍ ومعقولٍ في ظلِّ توقف العجلة الاقتصاديّة في البلاد وتفشي الفقر والبطالة، إضافةً لما يحصّلوه من سرقات على الحواجز وأثناء مداهمة منازل المطلوبين للنظام.

قوام اللواء ومعاركه

يُقدّر عدد عناصر اللواء بسبعة آلاف مقاتل، معظمهم من المواطنين السوريين، فيما عدد المقاتلين الفلسطينيين في صفوفه حوالي 600 فلسطيني، وذلك بحسب "مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا". يتشكّل اللواء من ثلاث كتائب رئيسية، وهي: كتيبة "أسود القدس"، ويتمركز عناصرها في مخيم النيرب ومحيطه والريف الجنوبيّ والشرقيّ لمدينة حلب. كتيبة "الردع"، وتنتشر في مناطق ريف حلب الشماليّ. كتيبة "أسود الشهباء"، وتتمركز داخل مدينة حلب. ويدير اللواء في هذه المناطق عدداً من الحواجز العسكريّة ونقاط التفتيش، ولديه مراكز احتجاز مؤقتة للمعتقلين قبل تسليمهم للأجهزة الأمنية السورية، أو نقلهم لسجن خاص يديره اللواء داخل مخيم النيرب.

افتتح لواء القدس فرعاً له في مخيم "الرمل" للاجئين الفلسطينيين في مدينة "اللاذقية"، وقد حاول محمد السعيد افتتاح فروعٍ عسكريّة أخرى له في مخيمات "دمشق" إلا أنّ وجود مجموعات فلسطينية موالية للنظام هناك كمليشيات "الجبهة الشعبية القيادة العامة"، و"فتح الانتفاضة" و"حركة فلسطين حرة" حال دون ذلك.

شارك اللواء في العمليات العسكريّة حول مطار النيرب، وفي معارك فك الحصار عن سجن حلب المركزي، ومعارك منطقة الليرمون، والشيخ نجار، والراموسة، ومخيم حندرات، وفي العمليات التي أدّت لفك الحصار عن بلدتي نبل والزهراء الشيعيتين في بداية عام 2016. وساهم في أواخر عام 2016 في قطع طريق "الكاستيلو" الذي كان يمثل طريق الإمداد الوحيد للأحياء الشرقية في مدينة حلب، الأمر الذي أدى إلى وقوع آلاف المدنيين تحت الحصار. كما ساهم في عملية اقتحام حلب الشرقيّة في الفترة الممتدة ما بين 15 تشرين الثاني/ نوفمبر و23 كانون الأول/ ديسمبر من العام 2016، حينها ارتكبت قوات النظام جرائم فظيعة. وانتهى ذلك بقبول فصائل المعارضة الانسحاب وتسليم المنطقة.

من يدعم اللواء؟ 

قبل الإعلان عن تشكيل لواء القدس، كان تسليح عناصر اللجان الشعبيّة (الشبيحة) يقتصر على السلاح الخفيف، كالبنادق الروسية والمسدسات. ثمّ مع تصاعد المواجهات، جهّز النظام عناصر اللواء بسيارات دفعٍ رباعيّ ورشاشاتٍ ثقيلة ومتوسطة ومدافع هاون وراجمات صواريخ، وذلك بدعم وتمويل إيرانيّ.

لاحقاً، وبسبب الجاهزية والكفاءة التي أظهرها اللواء في معارك حلب، بالرغم من سقوط المئات من عناصره بين قتيلٍ وجريح، وارتباطه الوثيق بالمخابرات الجويّة، لفت إليه أنظارَ الاستخبارات العسكريّة الروسيّة التي كانت تسعى للاعتماد على مليشياتٍ محليّة غير مرتبطة أيديولوجياً بإيران. استغلت روسيا تراجع دعم إيران للواء بسبب الأزمة المالية التي تعاني منها الأخيرة، وأخذت على عاتقها تقديم الدعم اللوجستي والمالي والفني لعناصر اللواء.

صور من تدريب القوات الروسية لقوات "لواء القدس".

أدّى وضع روسيا للواء القدس تحت جناحها إلى توتر العلاقة مع المليشيات الإيرانية، إذ سُجلت احتكاكات بين عناصر اللواء وعناصر تلك المليشيات في عدة مناطق، لعلّ أبرزها الاشتباكات التي وقعت بين الجانبين في منطقة "الحمدانية" في حلب عام 2019، واستُخدِمت خلالها الأسلحة الثقيلة والمتوسطة وأدّت لسقوط قتلى وجرحى من الجانبين. كما لم تسمح المليشيات الإيرانية للّواء بالتمركز في بعض المناطق الاستراتيجية كمدينة البوكمال ومناطق حقول النفط شرق مدينة دير الزور.

سعت روسيا لإشراك اللواء في معارك البادية ضدّ تنظيم "داعش"، والتي لا يزال يقاتل فيها حتّى الآن، وقد شكّل خلال المرحلة الماضية رأس الحربة في العمليات العسكريّة والأمنيّة التي تقودها القوات الروسيّة في قتال التنظيم في البادية السورية. كما أشركته أيضاً إلى جانب "الفيلق الخامس" في الجيش السوريّ في حماية حدود المنطقة العازلة التي اتفق عليها الروس والأتراك ضمن اتفاق "سوتشي"، والتي تمتد إلى أجزاء من محافظات حلب وإدلب وحماة واللاذقية.

ليس للقدس إلا الاسم

 يُفترض أن تبيّن سيرة لواء القدس، والظروف التي رافقت تأسيسه، والأهداف التي أُسِّس من أجلها، ونوعية العناصر التي يضمها، وتبعيته للنظام السوري، والانتهاكات التي ارتكبها بحقّ المدنيين، والتي شملت: القتل، والاعتقال التعسفي، والتعذيب، والإخفاء القسري، وحصار المدنيين، والخطف لطلب الفدية، وتجنيد الأطفال، ومصادرة منازل المطلوبين للنظام، وتسليم العشرات من أبناء المخيم ومحيطه للأجهزة الأمنيّة، وتجارة وترويج المخدرات، فضلاً عن زجّه بالمئات من أبناء الشعب الفلسطيني في معركة آثمة ضدّ الشعب السوري… 

كلّ ذلك، يُفترض، أن يُبين للمتحمسين للواء القدس واسمه، أنّ علاقته بالقدس لا تختلف عن علاقة "فرع فلسطين" سيئ الصيت بقضية فلسطين.