ليست نكبة فلسطين حدثاً تاريخيّاً تحرسه الذاكرة الجماعيّة للفلسطينيين فحسب، إنّما هي أيضاً وقائع راهنة ومُعاشة تُشيّدها الصهيونية وتطوّر عليها باستمرار، داخل فلسطين وخارجها. في الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة أحاور صالح عبد الجواد حول ما حدث وما يحدث، بحثاً عن إجاباتٍ جديدة لأسئلةٍ قديمة.
صالح عبد الجواد مؤرّخ فلسطيني وُلد في مدينة البيرة عام 1952. يعمل أستاذاً للعلوم السياسية، منذ أكثر من أربعين سنة، في جامعة بيرزيت في فلسطين. خاض تجربة الاعتقال ثلاث مرات في السجون الإسرائيلية، وكذلك ثلاث مرات في السجون المصرية أيّام انخراطه في الحركة الطلابية المصرية مطلع السبعينيات - أثناء دراسته الجامعية الأولى في جامعة القاهرة. أتمّ الدراسات العليا في جامعة باريس العاشرة بفرنسا، كما التحق بدائرة التاريخ في جامعة هارفرد بصفته باحثاً زائراً.
في أعماله البحثيّة والتوثيقيّة، يركّز عبد الجواد على التأريخ لمواضيع الصراع العربيّ مع الصهيونية، بما في ذلك: خصوصية النموذج الاستعماري الصهيوني، والقرى الفلسطينية المهجّرة خلال النكبة، والمقاومة الفلسطينية المسلّحة، والذاكرة الجماعية الفلسطينية، وتاريخ حركة "فتح" وملفيّ العملاء والاغتيالات.
إلى الحوار:
حول ما وقع في فلسطين عام 1948، يحضر قول قسطنطين زريق: "ليست هزيمة العرب في فلسطين مجرد إخفاق، أو شرٍ عابر. هذه نكبة بكامل معنى الكلمة وهي إحدى أصعب النكبات التي ألمت بالعرب خلال تاريخهم الطويل". بينما اعتبر إيلان بابيه، هذه النكبة: "واحدة من أكبر الهجرات القسرية في التاريخ الحديث، هجرة كانت ستسمى تطهيراً عرقياً لو حدثت في القرن الحادي والعشرين". أمّا عزمي بشارة فقد وصف الحدث على أنّه "أكبر عملية سطو مسلّح في وَضح نهار القرن العشرين". كيف تعبّر أنت عن الحدث؟
لا أرى أنّ "التطهير العرقي" و"الهجرة القسرية" لفظان يكفيان للتعبير عن فظاعة وهول ما جرى. كما أنّ النكبة لم تتوقف منذ وقعت يوماً واحداً، فهي ليست حدثاً انقضى، بل عملية تاريخية مُستمرة ومُمنهجة في محاولة تدمير مجتمع كامل، وإلغائه بشكلٍ شامل. والغاية تحويل الشعب الفلسطيني، كما قال ديفيد بن غوريون، إلى "غبار تحت أقدام الأمم". وبهذا المعنى، فإنّ النكبة تعبيرٌ عن خللٍ بُنيويّ قائم على صعيد المجتمع العربي والمنطقة والنظام العالمي.
لماذا تُحيى ذكرى النكبة كلّ سنة في الخامس عشر من أيّار/مايو؟
ثمة خطأ في اختيار الخامس عشر من أيّار/مايو يوماً لإحياء ذكرى النكبة، لأنّ هذا التاريخ هو موعد الجلاء البريطاني عن فلسطين، ولولا وجود الاستعمار الصهيوني لكانت نهاية الاستعمار البريطاني عيداً وطنياً فلسطينياً. أمّا الإعلان عن قيام "دولة إسرائيل" فقد تم يوم الجمعة في الرابع عشر من أيّار/مايو عام 1948، وهذا هو التاريخ الذي كان ينبغي اعتماده لإحياء الذكرى.
مع الانسحاب البريطاني، في الخامس عشر من أيّار/مايو، دخلت الجيوش العربية إلى فلسطين. ومع أنّ مئات القرى الفلسطينية سقطت قبل هذا التاريخ، ومعها مدن رئيسة: طبريا، حيفا، بيسان، صفد ويافا. إلا أنّ دخول هذه الجيوش، بعكس التصوّر الشائع، هو ما أبقى على شرق القدس والضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، وحال دون السيطرة الصهيونية على كامل فلسطين الانتدابية. ويبدو أنّ التصوّر الشائع ذاته هو المسؤول عن اختيار الخامس عشر من أيّار/مايو يوماً لإحياء ذكرى النكبة، انطلاقاً من الربط الخاطئ بدخول الجيوش العربية.
بحثاً عن الجذور التاريخيّة للنكبة، تنبغي العودة إلى البدايات الأولى للاستيطان الصهيوني في فلسطين، في ثمانينيات القرن التاسع عشر، ثمّ الإحاطة بالمحطات اللاحقة. في السؤال عن محطّة النكبة نفسها: متى بدأت الأحداث؟
بدأت الأحداث العنيفة للنكبة بعد ساعات من إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة "قرار تقسيم فلسطين" في نيويورك، في التاسع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1947. وبسبب الفرق في التوقيت بين الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأميركية وفلسطين، احتفل الصهاينة بصدور القرار فجر اليوم التالي، أي في الثلاثين من تشرين الثاني/نوفمبر. قصدت طريقة الاحتفال استفزاز الفلسطينيين. وفي الصباح، استخدم ديفيد بن غوريون مجموعة من العملاء الفلسطينيين، الذين تصرّفوا بصفتهم ثواراً، للهجوم على حافلة يهودية قرب مستوطنة "پيتـَح تيكـْڤا"، لإظهار أنّ الفلسطينيين الذين استُفزّوا هم من بدأ المواجهة. وهكذا بدأت الأحداث عام 1947 وليس في عام 1948 كما هو شائع.
تقول المصادر الصهيونية إنّه سقط قتلى في هذا الهجوم، وقد درجت الرواية الصهيونية على العودة لهذه الحادثة لتحميل الفلسطينيين مسؤولية تفجير أحداث النكبة. والحقيقة أنّ القيادة الصهيونية بدأت التخطيط مُبكراً لحرب واسعة تؤدّي لتهجير الفلسطينيين، منذ إصدار حكومة الاستعمار البريطاني وثيقة "الكتاب الأبيض"عام 1939 استجابة للظروف الدولية التي كانت تنذر باندلاع حرب عالمية ثانية. مثّلت الوثيقة في أحد جوانبها، من وجهة النظر الصهيونية، نكوصاً عما جاء في توصيات لجنة بيل (Peel) عام 1937؛ التوصيات التي ارتأت إقامة دولة يهودية وتنفيذ "ترانسفير جزئي" بحقّ الفلسطينيين في منطقة الجليل داخل حدود الدولة اليهودية المفترضة. وضمن هذا السياق، يُمكن فهم افتعال حادثة الحافلة لبدء مواجهة تغيّر الوقائع الجغرافيّة والديموغرافيّة بشكلٍ جذريّ. كما تعتبر الروايةُ الصهيونيّة رفضَ العرب والفلسطينيين لقرار التقسيم عام 1947 بمثابة إعلانِ حربٍ.
نتحدث عن النكبة بصفتها صيرورةً لا حدثاً (A Process, Not an Event) مُعتبرين ما جرى مشروعاً استعماريّاً لم يبلغ أهدافه النهائية. ولكن، من ناحية عملياتيّة: متى انتهت فصول النكبة؟
مكنني توثيق الأحداث الأخيرة للنكبة على النحو التالي: انتهت الاشتباكات العسكريّة بداية كانون الثاني/يناير عام 1949. وبعد ذلك، واصل الصهاينة التقدّم والاستيلاء على الأراضي، دون مواجهةٍ عسكريّة، حتى بلغوا شاطئ خليج العقبة جنوب فلسطين. وهكذا ارتسمت الحدود الراهنة لـ "دولة إسرائيل" في مارس/آذار عام 1949. لكنّ تهجير الفلسطينيين وراء هذه الحدود لم يتوقف عند هذه اللحظة، إذ امتدّت بعض مراحله حتّى الخمسينيات. إضافةً لقتل الفلسطينيين الذين حاولوا اجتياز الحدود والعودة لديارهم، وهي محاولات العودة التي يطلق عليها جزافاً "محاولات التسلّل" والتي استمرت حتّى عام 1956.
تجمّد الزمن الفلسطيني الجماعي عند النكبة، "لحظة الهزيمة" التي أسّست لكل ما تبعها. أسأل عن دور الفلسطينيين أنفسهم في هذه الهزيمة: هل كانوا ضحاياها فقط، أم كانوا كذلك أبطالها؟
دونما شكّ، كان الفلسطينيون ضحايا النكبة. لكنّهم لم يكونوا ضحايا سلبيين، بمعنى أنهم جلسوا خائفين في بيوتهم مع حقائب مُعدّة سلفاً للرحيل بمجرد وصول القوات الصهيونية. هذه الصورة غير صحيحة، وهي صورة تتمسّك بها الرواية الصهيونية كي لا تمنح الفلسطينيين فاعليّة في لحظتهم التاريخيّة الأبرز، للقول إنّ الفلسطيني لم يُقاتل لأنّه كان فاقداً للانتماء ولم يرتبط بأرضه ولم يحبّ وطنه.
في الواقع، منذ صدور قرار التقسيم عام 1947، هبّت غالبية قطاعات الشعب الفلسطيني استعداداً للمعركة. لقد باع الرجال أراضيهم الزراعيّة، والنساء مصاغهن الذهبية؛ أثمن ما يملكون، طلباً للمال الذي يُشترى به السلاح. لقد بحثوا عن السلاح في البلدان المحيطة بفلسطين، وهناك قصص عن بحث الفلسطينيين عن السلاح في أماكن بعيدة، مثل السعودية والعراق وصولاً للعلمين قرب الحدود الليبية. هذا بالطبع، إضافةً لتواصل القادة الفلسطينيين مع الحكومات العربيّة سعياً للدعم والمؤازرة.
عبر سنواتٍ طويلة، انتقدتُ جميعَ الكتابات الفلسطينيّة والعربيّة التي أهملت الجانب البطوليّ للمقاومة الفلسطينيّة، وركّزَت على البكائيات. لقد سقطت مدن وقرى فلسطينيّة كثيرة بعد قتال أهلها بشجاعة. ويمكن الرجوع إلى نماذج مقاومة منقطعة النظير، مثل المعارك الباسلة في مدن يافا، حيفا، اللدّ والقدس. وفي قرى: لوبيا، سلمة، طيرة حيفا، جبع، إجزم، عين غزال، أبو شوشة، برير، الفالوجة، عراق المنشية، وغيرها. والمناطق التي وُثّقت فيها مقاومة محدودة أو مقاومة منعدمة، سقط معظمها (وليس جميعها) في المراحل المتأخرة، حين أدرك الناس أن لا جدوى للمقاومة، بعدما حُسمت موازين القوى لصالح الصهاينة بشكلٍ جليّ.
لا يعني هذا أنّ الأداء الفلسطيني استنفذ إمكاناته، وأنّه علينا تجنب النقد الذاتي في دراستنا لما جرى. كما لا يعني هذا تغييب صفحات تاريخية سوداء مثل تعاون أهالي قرى قليلة جداً مع الصهاينة. لكنّ العنوان الرئيس هو دفاع غالبية الفلسطينيين آنذاك عن أراضيهم، وصمودهم في ديارهم، رغم قلّة الإمكانيات وشحّ الدعم العربي. وربما يكفي القول إنّه سقط من الصهاينة ما لا يقل عن ستة آلاف قتيل في أحداث النكبة، وما يقارب نصف هؤلاء قتلوا على يد الفلسطينيين (والباقي على يد الجيوش العربية). وأنّ أهمّ ثلاثة قادة عسكريين فلسطينيين سقطوا شهداء على رأس قواتهم: عبد القادر الحسيني، حسن سلامة، إبراهيم أبوديّة.
في الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة، لا يزال السؤال قائماً: "لماذا هُزمنا، لماذا لم ننتصر"؟
تحتاج الإجابة على هذا السؤال لتحليل ميزان القوّة بين الطرفين آنذاك. ودعني أبدأ من الجانب العسكري: بلغ عدد المقاتلين الصهاينة نهاية الأحداث مئة وأربعة آلاف مُقاتل. وهو عدد أعلى بكثير من مجموع الأفراد المقاتلين في جميع الجيوش العربية والتشكيلات الفلسطينية. ولا أرغب بتحديد العدد هنا بسبب التضارب بين مختلف المصادر التاريخية. هذا إضافةً لتفوّق المقاتل الصهيوني من ناحية التسليح والتدريب. وزيادةً على هذا، تطوّع أربعة آلاف خبير عسكريّ من يهود أوروبا وأميركا الشمالية، للانخراط في المعارك ضدّ الفلسطينيين. علماً أنّ هذا التفوق العسكري أكّدته الكتابات التاريخية الإسرائيلية في تيار التأريخ الجديد.
ومن الجانب السياسي: انصبّ الدعم الدوليّ كلّه في جهة الصهاينة، بما في ذلك الاتحاد السوفييتي الذي سهّل لهم عقد صفقة الأسلحة التشيكية. وينبغي التذكير أنّ التفوق العسكريّ الصهيونيّ يرتبط، ضمن جملة من الأسباب، بالدعم غير المحدود الذي وفّره الاستعمار البريطاني لمجتمع المهاجرين اليهود طوال سنوات احتلاله لفلسطين، ومحاربته الفلسطينيين والتنكيل بهم لصالح مشروع الاستعماري الصهيوني.
أمّا الحكومات العربية فلم تدخل المعارك إلى جانب الفلسطينيين في جبهةٍ مُوحّدة. بل امتلك كل طرف أجندته الخاصة في فلسطين، وهي أجندات مُتناقضة فيما بينها. ولا ننسى تبعية عدد من الحكومات العربية للقوى الغربية وتفاهماتها مع الجانب الصهيوني. على سبيل المثال، قرّرت القيادة الأردنية مُسبقاً عدم تجاوز حدود "قرار التقسيم"، والقتال فقط في القسم العربي من الخارطة التي رسمها القرار. إلّا أنّ الإشارة هنا واجبة إلى استبسال الضباط والجنود الأردنيين في المعارك ودفاعهم المُستميت عن القدس والضفة الغربية.
وفيما يخصّ الجبهة الفلسطينية الداخلية، فقد كانت مُنهكة إثر تداعيات ثورة عام 1936. ويمكن القول، دون مبالغة، إنّ أداء الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة (على رأسها الحاج أمين الحسيني) كان كارثيّاً في العقود السابقة للنكبة. وهو ما ينقلنا للحديث عن تفوّق الجانب الصهيوني من ناحية "نوعيّة القيادة"، أي طبيعة الشخصيات التي تحكّمت بسير الأمور، ومن ناحية "الثقافة السياسيّة"، أي الوعي السياسي والقدرة على التنظيم والانضباط.
كما نعرف، تقوم السردية الصهيونيّة على عدد هائل من الأساطير، بما يشمل النكبة وباقي محطات الصراع. فيما يخصّ النكبة: ماذا عن الجانب الأسطوري للسردية العربية / الفلسطينية؟
للأسف الشديد، غرق الباحثون الفلسطينيون خلال العقود الأخيرة في تبيان ودحض الأساطير التي خلقتها الرواية الصهيونية حول النكبة. لكنّهم تجاهلوا الحديث عن أساطير كثيرة تضمّها الرواية العربية / الفلسطينية. علماً أنّ بعض هذه الأساطير تسرّب من الرواية الصهيونية إلينا. مثل الأسطورة التي حدّثتك عنها في سؤالك عن ثنائية الضحية والبطل، إذ تحتفظ تصوّراتٌ عربيّة شائعة بصورةٍ تراجيدية تجعل الفلسطينيين ضحايا سلبيين سيقوا إلى الخيام دون مقاومة. وهي صورة تزيّف الحقيقة: لقد دافع الشعب الفلسطيني بضراوة عن حقوقه الوطنيّة في غمار مشهدٍ مُعقّد.
لا يسعفني الوقت الآن لتفصيل جميع الأساطير العربيّة والفلسطينيّة، ولا أحبّذ الإشارة إليها دون تفصيل. ولكن، سأتناول مثالاً واحداً، وهو تكرار القول إنّ الجيوش العربية مُنيت بالهزيمة في فلسطين بسبب استخدامها أسلحة فاسدة. والأمر في الحقيقة لم يكن كذلك.
تركّز هذه الأسطورة على الجيش المصريّ بشكلٍ خاص. وقد عُقدت المحاكمات المتعلقة بهذا الشأن في مصر، بعد ثورة يوليو عام 1956 بهدف إدانة النظام الملكي البائد، وتبين أنّه لا صحة لهذه التُهم. ومع ذلك، ظلّت هذه الأسطورة حيّةً في مصر والعالم العربي. واستناداً عليها، استنفذ جمال عبد الناصر جهده العسكريّ في اقتناء الأسلحة الحديثة، مُهملاً الجوانب المرتبطة بالتدريب والتنظيم والتعبئة. وهو ما شكّل سبباً رئيساً لهزيمتيّ الجيش المصري في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وفي "حرب حزيران" عام 1967.
لقد أعفت هذه الأسطورة الجيوشَ العربيّة من مسؤولياتها العسكرية، وألقت الإدانةَ فقط على الحكومات العربية. وهو ما أدّى إلى جملة الانقلابات العسكرية التي وأدت تجارب الحكم المدنيّ، وأدخلت دولاً عربيّة في نفق الاستبداد العسكري؛ الأمر الذي لا زالت الشعوب العربيّة تدفع ثمنه حتى اليوم. تخيّل ماذا بوسع أسطورة واحدة أن تفعل من مآسي وأخطاء!
هل يمكن القول إنّ "النكسة" مثلّت فصلاً مُتأخراً من فصول "النكبة"؟
بداية، أسجّل تحفظّي على مصطلح "النكسة" لأنّه لا يُعبّر عن الزلزال الذي ضرب العالم العربي عام 1967. إذ تعني النكسة لغوياً حالة تراجع مؤقتة، أو أزمة عابرة. بينما خلقت "حرب حزيران" وقائع وتداعيات كارثية وثقيلة لا زلنا نرزح تحت وطأتها حتّى اليوم، فلسطينيّاً وعربيّاً.
بالطبع، مثّلت "حرب حزيران" استكمالاً لمراحل النكبة الأولى. فما حدث عام 1948، أنّ الجيش الأردني لعب الدور الأساسي في الحفاظ على شرق القدس والضفّة الغربيّة، مثلما هو الحال مع الجيش المصريّ في قطاع غزّة. وفي النهاية، ارتسمت "الحدود القانونية" للسيطرة الصهيونية ضمن ما بات يعرف بـ "دولة إسرائيل"، وذلك في اتفاقيات الهدنة التي وُقّعت في جزيرة رودوس اليونانية بإشرافٍ أمميّ عام 1949. وعليه، سيطرت الصهيونية على حوالي 78% من مساحة فلسطين الانتدابية، ومُنحت اعترافاً واقعيّاً بهذه السيطرة.
لكنّ الطموح الجيوسياسي الصهيوني أراد توسعةَ الحدود وضمّ الضفّة الغربية الواقعة في قلب "دولة إسرائيل"، بما في ذلك شرق القدس ذات الأهمية الدينيّة والتاريخيّة بالنسبة للمُتخيل الاستعماري. لم تكن "حرب حزيران" عام 1967 حرباً خاضتها "إسرائيل" لـ"الدفاع عن نفسها من أجل البقاء"، كما هو في الرواية الصهيونية وفي تصورات عربية. إنّما حرب عدوانية توسعية سعت إليها القيادة الصهيونية بوعي تام، بهدف احتلال ما تبقى من فلسطين.
نتيجة لمُجريات النكبة ثمّ "النكسة"، تسيطر الصهيونية اليوم على جميع مساحة فلسطين، وهي تتحكّم في السكّان الفلسطينيين على جانبيّ الخط الأخضر، وتُحاصر حياتهم الطبيعية باستخدام وسائل مُتباينة، مُستفيدة من فلسطينيين تحولوا إلى وكلاء للاستعمار كإفرازٍ نهائيٍّ لكارثة "تفاهمات أوسلو"، بينما لا تزال العائلات الفلسطينيّة اللاجئة نتيجة النكبة، والنازحة نتيجة النكسة، بعيدةً عن ديارها (حوالي نصف الشعب الفلسطيني في الشتات).
كما تحوّلت "إسرائيل" إلى قوّةٍ إقليمية ذات نفوذ في المنطقة، بعدما ساهمت تداعيات الصراع في فلسطين، بشكل أساسي، في تدمير المشروع السياسي للدولة العربية بعد الاستقلال. وضمن هذه الصورة الواسعة، فإنّ النكبة بعد خمسة وسبعين عاماًً، لا تزال اليوم وفي هذه اللحظة قائمةً ومُستمرةً في فلسطين والعالم العربي.