27 أكتوبر 2023

ما تحت البدلات الأنيقة والعودة إلى البديهيّات

ما تحت البدلات الأنيقة والعودة إلى البديهيّات

الدارس للعقلية الاستشراقية، التي تقوم عليها الذراعُ الفكرية لـ "إسرائيل"، يفهم ما الذي يرمون إليه من هذا التنكيل غير المفهوم. فهذا التنكيل ذو أهداف نفسية، وليستْ الأهدافُ العسكرية بغيتَه الأساسية. فغزة شبر أرضٍ  محاصر منذ 16 عاما، وكان محتلاً عقوداً قبل ذلك، فلا يستحق كل هذا التحالف الكوني بين دولٍ  نووية، ولا تتسع مساحته -منطقياً- لكل هذا البارود المصبوب على رؤوس ساكنيه. لكن من عايش الاستراتيجية الأميركية في تعاطيها مع أمتنا في العقدين الأخيرين، يفهم الأمر بسهولة. 

فبُعيد ضربات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، اجتمع أهمّ ملاك القرار الأميركي في بيت نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، للمشاركة في ورشة عن الإسلام والقرآن ونفسية المسلمين، يقدمها المستشرق الصهيوني برنارد لويس (1916-2018). أخذ القوم مجالسهم وتقدم العجوز ليشرح نظريته التي غدت سياسة معتمدة في إدارة بوش بعد ذلك. تحدّث الرجل -الذي بدأ حياته جاسوساً بريطانياً- عن أسباب هجمات المسلمين على الولايات المتحدة، والجذور الثقافية لعدم رفعهم الراية البيضاء للحضارة الغربية، مقارنة بغيرهم من الأمم. 

كانت فكرته الأساسية أن ما يقوم به المسلمون من مقاومة هو صوت "الزفير الأخير" من أنفاس حضارة تحتضر، وأن على الغرب أن يكسرَهم نفسياً ويذكّرهم بأن زمن النِديّة قد انتهى، لينهزموا نفسياً ويرفعوا الراية البيضاء. ثم اقترح غزو بغداد، باعتبارها أهم معقل حضاري نفسي، ليقتنعوا بأن عنصر القوة فيهم قد انتهى.

تحدث لويس خلال اللقاء بصراحة خلافاً لطريقته المتحفّظة في مقالاته وكتبه. ولذلك قال لديك تشيني: "اضربوا العربَ بالعصيّ بين أعينهم، فهم لا يفهمون إلا لغة القوة"! وقد اعترف بعض هؤلاء الساسة ممن حضر ذلك اللقاء، بأن أفكار لويس تلك تحولتْ إلى إنجيل يرشدهم لحظاتِ التفكير في ملفات المنطقة.

إنها حرب نفسية أولاً

هذه الفكرة، هي المحركة لكل ما يجري في غزة. فالضرب بين أعين الأطفال هدفٌ بحد ذاته، والإبادة والجثث هدف، وأنهار الدم الجارية هدف، واستعراض الجبروت دون مبرر هدف. وإلا لمَ تأتي الولايات المتحدة بحاملتيْ طائرات لمقارعة ثلّة من الشباب المؤمن المدافع عن أهله وذويه؟ لمَ تقوم واشنطن، وهي الدولة النووية التي تنفق 39% من الإنفاق العسكري العالمي لتدخل مباشرة في المعركة جنباً إلى جنب مع "إسرائيل" النووية؟

كان يمكن فهم التدخل العسكري الأميركي المباشر لصالح "إسرائيل" لو كانت الحرب مع دولة مثل الصين مثلاً. أما مع مجموعة من الشباب الفقراء المحاصرين بمنطقة لا يتجاوز عرضها 12 كيلو متراً وطولها 41 كيلو، فلا يُفهم استخدام كل هذه القوة معهم إلا في إطار الحرب النفسية.

إنّ هدف الإسرائيليين ورعاتِهم من هذا الجنون هو هزيمة المقاومين نفسياً، ومحوُ ثقافة المقاومة من قاموسهم، وإطفاءُ بريق العزّة المتلألئ دوماً في عيون الشباب المسلم. فهم يفهمون جيداً أن هؤلاء الشبّان الذين يقاومونهم أبناء "حضارة إسلامية ذات تقاليد عسكرية نبيلة"، كما يقول المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي (1889-1975).  

وبذا، فالهدف الأساسي من هذه المبالغات في التنكيل والتدمير والتقتيل، هو كسر نفسية الشباب الطامع في التحرير، الطامح لمجابهة الأعداء، الذابّ عن الحمى والحريم رغم غياب الوسائل. لكن تجربة العراق -التي نظّر لها لويس- أثبتت أن هذه الجرائم لا تقتل النفسيات بل تُحييها، وأن التنكيل لا يُنبت اليأسَ بين ضلوع الشبان المسلمين، بل يُمدهم بوقود من الوعي والاستعداد للنزال والقراع. 

ثمّ إنّ من الأهداف الواقفة وراء هذا التنكيل أيضاً، محو صورة يوم السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر من أذهان العالم. فتلك الصور المجيدة التي يظهر فيها شبان مندفعين مقبلين غير مدبرين وهم يسقون جنودَ الاحتلال الجبناء كأسَ الردى، ويأسرونهم كالعصافير بين دباباتهم، صورةٌ صادمة لابد للاحتلال من غسلها وإخفائها. بل لابد من صور أخرى أبقى منها في الذهن حتى تُمحى محوا. ولا صُورَ مرشحةً لمحو صور الفروسية المجيدة تلك، إلا إغراق الدنيا بملايين الصور لأشلاء الأطفال وأنين العجائز، ودموع الأمهات الثكالى. وهكذا تتراجع صور الاقتحام البطولي، واستخذاءِ الجنود الجبناء أمام فرسان القسام، لتحل محلها صور الشكوى من القصف والقتل.

النيران تندلع في مبنى وزارة دفاع الأمريكية "البنتاغون إثر استهدافه في 11 سبتمبر 2001.

و"إسرائيل" في هذا تتبع نفس الاستراتيجية النفسية والإعلامية التي اتبعتها واشنطن بعيد هجمات الحادي عشر من سبتمبر أيضاً. فقد نجحتْ واشنطن في جعل العالم ينسى صورة الدخان المتصاعد من قلعة "البنتاغون"، لترسخ في ذهنه صورة الطائرتين وهما تضربان البرجين المدنيين. 

و"إسرائيل" تكاد تكون الدولة الوحيدة في العالم، التي تفهم جيداً محورية الصورة، وأن وجودها يستحيل دون آلة دعائية ضخمة. ولذا فهي تكاد تكون الدولة الوحيدة التي أسست وزارة للدعاية (המשרד לנושאים אסטרטגיים) لما للجانب النفسي من محورية في معركتها الوجودية، وهي الدولة الأقدر على تجنيد خوارزميّات أكبر منصات التواصل الاجتماعي لطمس الرواية الفلسطينيّة، وهي الدُّويْلة اللقطية في محيطها، القائمة على صرح من خيال قوامه الدعاية وعمالة القادة المحيطين بها. تستطيع دولة الاحتلال مواصلة دعايتها وتنكيلها بالمدنيين، لكن خلاصات أخرى لن تخفى على أي متأمل فيما يجري.

فقد كشفت هذه الحرب -وسابقاتها بدرجات أقل- الهشاشة المريعة للأخلاق الغربية، التي لا تكاد تصمد لأي اختبار. فلا يكادون يفقدون مئات الأشخاص في أي معركة حتى يتراجعوا فوراً عن كل شعاراتهم الأخلاقية. فقد وقف قادتهم وأعلنوا أن المدنيين الفلسطينيين يجب قتلهم، وأن مبدأ استثناء المدنيين من القتل فكرة غير صحيحة. وكان آخر من صرّح بذلك الرئيس الإسرائيلي المصنّف -عجباً- يسارياً معتدلاً. فقد قال حرفياً: "إن فكرة كون الأمة الغزيّة لا صلة لها بالأمر محض افتراء، فكلهم مسؤولون لأنهم لم يثوروا ويسقطوا النظام في غزة". وقد نسي -ومن ورائه الغرب- أن هذا يعني تبريراً واضحاً للهجمات في الباصات العامة، ولهجمات 11 سبتمبر، ونسفاً لكل ما اتفق عليه البشر طيلة تاريخهم القديم والحديث. وهذا المنطق المتهافت، يجعل المدني في الغرب أقل حرمةً لكونه يستطيع انتخاب قادته، والاحتجاج عليهم، وعليه فهو مسؤول عن كل أفعال حكوماته، ويُحلّ دمه في كل الظروف، حسب منطق الرئيس الإسرائيلي. 

العودة إلى الأسُس

إنّ تنكيل الاحتلال بغزة -دون سبب منطقي- يُذكّرنا بجواهر الأشياء التي ننساها -كثيراً- ونحن غارقون في ترفنا الفكري. يذكرنا بأن الحرب حرب أبدية بين الحق والباطل، بين الغزاة الصليبيين وبين المؤمنين المحاصرين في ديارهم. يذكرنا بأنها حرب فكرية ثقافية يحاول فيها العدو كسرَ نفسياتنا وحقننا بمبادئه عن الكون والحياة، ليسهُلَ اصطيادنا وتطويعنا. إنها أيام العودة إلى خلاصات القرآن، وقراءةِ تاريخ إمارات الصليبيين في الشام، وتجديد البناء النفسي الصلب، المتكئ على تاريخ مجيد لا يستسلم أصحابه... بل ينتصرون أو يموتون.   

مقاتلون كتائب القسام يتجولون في حاجز إيرز خلال اقتحامه في معركة طوفان الأقصى، في 7 أكتوبر 2023.

هذه أيام من تلك الأيام، التي يُفرَق فيها كثير من الأمور. أيامٌ تحمل عنفوان التاريخ لتهتزَّ فيها قناعات، ويستيقظ فيها أقوامٌ من سُباتهم، ويعودَ فيها آخرون إلى تراثهم المهجور باحثين عن أجوبة ومعنى. فهذه الأيام منعرجٌ من منعرجات التاريخ، وسيأتيكم نبأها بعد حين.

إنّ كل ما يجري تذكار بأن الصليبي لم يخلع عباءته بعدُ، فما زال يلبسها تحت بدلته الأنيقة. وأن الكليات الفكرية التي يتحدث عنها القرآن، ينبغي أن تظل دوماً حاضرةً في الأذهان. فهذا أوان عودة الطيور الفكرية المغتربة إلى محاضنها، وتوقفِ تلك الأجنحة المرهقة عن الطيران الحائر في أفلاك الأغراب الأعداء.

فالصدمات تخلق الوعي، والدمُ المراقُ ظلماً قبسٌ من أنوار الوعي واليقظة. فالحرب -كما يقول سيغموند فرويد- تُخلِّف أمريْن لا شك فيهما: اختلاف النظرة إلى الموت، وتُحرّر الناسَ من أوهام السِّلم.



1 يناير 2021
في وداع حاتم علي..

من عادتي أثناء مشاهدة المُسلسلات العربيّة، أن أضغط زر الفأرة على دقيقة مُتقدّمة من الحلقة، كي أقفز عن المُقدّمة التي…