3 أبريل 2020

لماذا نلبس الكمّامات؟ "الوقاية" إجابة خاطئة

لماذا نلبس الكمّامات؟ "الوقاية" إجابة خاطئة

بينما يكون أحدُكم تائهاً في زحمة اختلاط المشاعر، أو هائماً في الشّارع الفارغ يبحثُ عن معقّمٍ يزيد احتمالَ نجاتِه، يكتبُ آخر من غرفته التي أصبحت حجراً صحيّاً عن خوفه من المرض، أو عن خطّتهِ في مواجهة الملل. تستعدُ عائلتك للتعرف على بعضها من جديد، والتحدث عن كل المواضيع المؤجلة، وإعادة شريط الذكريات لينتهي بمشكلةٍ صغيرة أو كبيرة، لن يهم. ربما تزداد الأمور توتراً، وترتفع وتيرة القلق فيتحول إلى هلعٍ يختفي بنكتة أو مزحة عن نهاية العالم. في هذا الوقت بالتحديد، سيكون هناك مراقبٌ صامتٌ يجلس على حافة العالم، يتابعك بكل اهتمامٍ وشغف، ويُطلِقُ على نفسهِ لقبَ "أنثروبولوجي"!

يرصد الأنثروبولوجي الظواهر الإنسانيّة بفضولٍ سيجعلُه يلاحِقُكَ في أي ملجأ كان، نفسيّاً أو اجتماعيّاً أو غيره من مخابئ السياسة أو الاقتصاد. كل ما يهم الأنثروبولوجيا هو هذا الإنسان وكل ما يتعلّق به. يحاول الأنثروبولوجيّ الحكيم أن يجد دوماً تفسيراتٍ للسلوك الفرديّ والجماعيّ. لذلك قد يُعجبك خيالُ الأنثروبولوجي عندما ترى أنّ باستطاعته ربطَ خيوطٍ وتفاصيل عجيبة ليصنعَ منها قصةً ظريفةً في النهاية. وعندما يُعمِلُ خياله لنسج قصصِه، معتمداً على الحقائق والظواهر المكرّرة، فإنّه يريدُ أن يدلّنا على ما لا نعيه وما لا نجد له تفسيراً.

منذ الأيام الأولى لتهديد فيروس "كورونا"، نلاحظ بروز بعض الظواهر الغريبة غير المفسّرة. بعضها يختصُّ بعاداتِنا الصحيّة، وبعضها بأنماط شراء غير معتادة. فهل يمكن للأنثروبولوجي الحكيم أن يساعدَنا في فهم بعض سلوكياتنا الغريبة في مثل هذه الأيام؟

كمّامات اجتماعيّة

بعد يومٍ واحدٍ فقط من الإعلان الرسميّ عن إصابة واحدة بفيروس "كورونا" في الفلبين، يستيقظ جيديون لاسكو (Gideon Lasco) ليجد نصف شعبه مرتدياً كمّاماتٍ طبّية. يشكُ لاسكو، وهو باحث في أنثروبولوجيا الطب، أنّ بإمكاننا فهم ظاهرة انتشار الأقنعة الطبيّة دون الكشف عن علاقتها بقيم ثقافيّة وتصوّرات عن القوّة والسّيطرة، بالإضافة إلى الضغوطات الاجتماعيّة والواجب الوطنيّ، مما سيجعل من الكمّامة رمزاً يتجاوز كونه أداة طبيّة.1ومع التأكيدات المتكررة للمصادر الطبيّة على عدم الحاجة لارتداء الكمامة الطبيّة إلا عند الاشتباه بالمرض، إلا أن كثيرين الآن لا يستطيعون مواجهة العالم الخارجيّ إلا وهم مقنعون.

عندما واجه العالم جائحة إنفلونزا 1918، والتي أوقعت ملايين القتلى، ألزمت بعض الدول شعوبها بارتداء الكمّامات الطبيّة والتي كانت تصنع يدويّاً، وفي بعض الأحيان صُنعت من مواد غير فعّالة بالضرورة. ولكن بدا تأثيرُ الكمّامة يظهر كأداة ضبطٍ جماعيٍّ تُعزِّزُ شعورَ الفرد بتحمل المسؤولية، ما جعل الفرد أكثر تصالحاً مع السّلطة لمواجهة خطرٍ خارجيٍّ يُهدِّدهُ. ومع دخول أزمة وباء السارس عام 2002 مثّلت الكمّامةُ الطبيّة في الصين وهونغ كونغ ومختلف المناطق في شرق آسيا وجنوبها رمزاً للتوعية الصحيّة والواجب الوطنيّ.

أخذت الكمّامات أبعاداً اجتماعيّة ونفسيّة بعد تكرار الكوارث الصحيّة وأزمة المناخ في دول العالم. وأصبحت تمثّل لدى الشعب اليابانيّ حمايةً نفسيّةً تتمثل للأفراد كـ"بطانية أمان" شاركتهم حتى في علاقاتهم الحميمية.2يُقصد بـ"بطّانيّة الأمان" أي غرض يُستخدم لتوفير راحة نفسيّة وإحساس بالأمان لمستخدمه، خاصةً في أوضاع غير مألوفة. ولعل استخدامها الأبرز لدى الأطفال، وهي ما يُسمّى بالغرض الانتقاليّ (transitional object) بل وشاركت الكمّامات في عروض الأزياء والموضة لتصبح تعبيراً جماليّاً أيضاً. 

الآن، وبعضنا يجرب ارتداء الكمّامة لأول مرة، ربما نجدُ أنّ ما للكمّامة من وظائف تتجاوز حرصَنا على الوقاية من المرض: قد تلاحظ مشهداً لأمِّ تضع كمامةً لولدها الصغير بينما لا ترتدي هي واحدة. لقد حوّل الإنسانُ تلك القطعة القطنيّة إلى أداة دفاعيّة عن الجماعة والعائلة، لتصبح رمزاً للتعبير عن الحب والحرص على الآخر. وبذلك نستطيع فهم لماذا ستصبح الكمّامة الأداة المفضلة للتعامل مع الوباء رغم أن نجاعتها لا تزال غير مؤكّدة، ولماذا ستصبح أداة قوّة لضبط الصّحة العامة وتعزيز شعور الفرد بالسيطرة والتحكّم.

 ورق "تواليت" متعدّد الطبقات

تذكّرنا قصّة الكمّامات كذلك بالهوس بشراء لفافات ورق الـ"تواليت". وقيل إنّ التشابه بين المواد المركّبة للكمّامات ومركّبات ورق الـ"تواليت" تفسّر التدفّق الهائل لشراء الورق في ظلّ هذه الأزمة. لكنّه تفسيرٌ لا يرضي خيالَ الأنثروبولوجيّ الذي يصرُّ دائماً على إيجاد قصةٍ أعرق لتفسير سلوكيّاتنا المفاجئة وغير الواعية تماماً.

في مقال بعنوان "!Shit is getting real" يقدّم الأنثروبولوجي الياباني كجرانت أوتسوكي (Grant Jun Otsuki) وجهة نظره في هذه القصة، والتي تؤكد أنّ لورق الـ"تواليت" قصة بطبقات متعددة. يتعاطف أوتوسكي مع لفافة تشارك الإنسان أقذر صنائعه. يهوي هذا الصنيعُ برتبة ورق الـ"تواليت" ليجعلها في قاع سلّم الأوراق، بعد أن تفوّقت عليها الأوراق المعطّرة، والمناديل على الموائد الفخمة، وصولاً إلى أوراق الكتب، فما بالك بأوراق الكتب المقدّسة التي تحتل أعلى مراتب السلّم.

لوحة لـ Lucy Dyson - TP Paris, 2019

ولكن لتلك المكانة الوضيعة لورق الـ"تواليت" فائدة، يقول أوتسكي، حيث أن وضاعتها تمكّنها من القيام بأدوار لا تستطيع أحياناً ورقة عادية القيام بها. فقد تُستخدمُ لمسح الأسطح في المطبخ أو لتنظيف أنوف الأطفال أو في إشعال الحرائق. يبدِّلُ ورق الـ"تواليت" أدوارَه فقط في وقت الطوارئ، عندما يُمكِّنُكَ حتى من كتابة رسالة وإرسالها بالخفاء. يُذكّرنا أوتوسكي بقصة نتالي بورتمان في فلم V for Vendetta عندما وجدت رسالة مخبأة في زنزانتها من فتاةٍ كتبت سرّها، رسالة تبدأ بتعجبٍ: "يا إلهي إنني أكتب سيرتي الذاتيّة على ورقة تواليت!". لكنّ هذه الرسالة ستعيد بثّ الروح في إيڤي هاموند (التي تؤدي دورها بورتمان)، وتزيل الخوف من قلبها، لتكمل مسيرتها النضاليّة والثوريّة وتحوّلها بطلة.

ينقلُـنا تعاطفُ أوتسكي لنرى كيف لورقةٍ مكانها المرحاض أن تحملَ وظيفةً رمزيّةً تتجاوزُ وظيفتَها المعتادة، والتي لديها بدورها رمزية طقوسيّة. يبدأ هذا الطقس بورقة نظيفة تنتهي بالقذارة لتعبّر عن طقسٍ عبوريٍّ لنظافتنا الشخصيّة. "نحن نقدّر ورق التواليت بدرجةٍ عالية لأننا نضحي بنظافتها في كلّ يوم لنضمن نظافتنا نحن". داخل معبدٍ كنا أم مرحاض، يبدو أنه من الصعب على الأنثروبولوجيا تفسير عاداتنا دون التمعّن بأبعادها الطقوسية والرمزية. 

 أن ترى ولا تبصر

وبينما تفكر أنت بلفافات بيضاء ناعمة وتحاول تفسير اهتمام الناس بها، تفكر الأنثروبولوجيا بالبراز. هذه مهنة تأخذ الخراء على محمل الجدّ. لطالما تصالحَ هذا المجالُ البحثيّ مع القذارة باعتبارها مصدراً لفهم كثير من المسائل المرتبطة بحضارة الإنسان وثقافته ونظامه الصحيّ. تقول الأنثروبولوجيّة البريطانية ماري دوغلاس "أينما تكون القذارة، هناك نظام". بمعنى أن كل ما يتعلق بجسد الإنسان، حتّى لو انفصل عنه كالفضلات أو المايكروبات، فإنه يدلّنا على النظام الاجتماعيّ الذي يحكم هذا الفرد، ويعلّمنا الكثير عن عاداته وبيئته وحياته والجماعة التي ينتمي إليها.

يحتاج الأنثروبولوجي لأن يبصرَ لا أن يرى فقط، أن يأخذَ وقته في الاستماع، الملاحظة، التحليل وفي التفكير بكل المعلومات والملاحظات ليحصل في النهاية على قصةٍ معقولة. ما يميّز هذا الحقل أنه يعمل ببطء، ولذلك فإنّ أي شكلٍ من أشكال التحليل العلميّ أو الفكريّ أو الفلسفيّ حول أزمة فيروس "كورونا" سيكون ناقصاً. وإن اتفقنا مع الشاعر والمفكر الفرنسيّ أنطونين أرتو، والذي يعتقد بأن معظمنا يقضي حياته بنصف وعي، فإنّنا لا ندري اليوم ما الذي بقي من هذا النصف. لذلك فإن أي أنثروبولوجي يدّعي أنّه استطاع تفسير ما لا نعيه في ظلّ هذه الأزمة، فهو ليس أكثر من حكّاءٍ جيّدٍ ذي خيالٍ جامحٍ.

ربما يتعجب البعض من هذا التأمل في قصة بدء الورقة وطقوس تبرّز الإنسان، ولكن هناك ما يدعونا للتبصّر والتفكّر فيما وراء الأشياء التي نشعر بأهميتها حالياً. ولأنها أشياء من صنع الإنسان فإنها متأصلة بثقافته. قصة الأشياء هي قصتنا نحن. 

نحن اليوم قلقون جداً وبعضنا لا يستطيع التفكير بشكل عقلانيّ، هناك كثير من الغضب على أنظمة الصّحة وقليل من الثقة بالحكومات، ولأنّ كلّ كلام هو خداج قبل اكتمال الظاهرة، فربما ما نحتاجه هو الضحك، وقليل من القصص، وبعضاً من الخيال الأنثروبولوجي.