3 ديسمبر 2019

للإيجار على Airbnb.. بيوتنا المسروقة في يافا

للإيجار على Airbnb.. بيوتنا المسروقة في يافا

يستطيع أيّ أجنبيّ يزور مدينة يافا اليوم أن يستأجر بيت عائلة السقّا مقابل 60 دولاراً للّيلة الواحدة، أو منزل عائلة أبو شوليّة لقاء مبلغٍ مشابهٍ. في البيت الأخير أُقيمت صالةُ عرضٍ فنيّة كذلك، تُقدّم أعمالاً عن "حياة القبائل الأفريقيّة". أما دار السقّا فإنّها "تحاذي برج السّاعة وتقعُ أمام الشاطئ، فيما تقع بعض من البنايات التاريخيّة في محيطها، كما أنّها تقع في زقاقٍ هادئٍ في البلدة القديمة".

هكذا صارت البيوتُ التي سُرقَت بعد أن طُرد أهلُها وتشرّدوا في أصقاع العالم، ممنوعين من العودة إلى وطنهم، "شقّة ستوديو مثاليّة للأزواج"... كما يكتب "المُستضيفون" في موقع Airbnb. والمذكور، هو الموقع الإلكترونيّ الأبرز عالميّاً لاستئجار أماكن الإقامة لفتراتٍ قصيرة، والذي يحمل -للمفارقة- الشّعار التسويقيّ التالي: "تخيّل عالماً يُمكِنك الانتماءُ فيه لأيّ مكان".

تُشكّل حالة Airbnb نموذجاً صارخاً للدور الذي تنتهجه الشّركات العالميّة والتي تنتفع من اقتلاع الشّعب الفلسطينيّ، ومن واقع الاستعمار، وتشارك في نهب الممتلكات الفلسطينيّة، وهو الدور الذي لم يعد حكراً على دولة الاحتلال ومؤسساتها وشركاتها.

وقد انطلقت في السّنوات الأخيرة حملاتٌ شعبيّةٌ وعالميّةٌ عديدةٌ تطالب شركة Airbnb بحذف البيوت المقامة في مستوطنات الضّفة الغربيّة والقدس والجولان السّوريّ، من قائمة البيوت التي تعرِضُها على موقعها الإلكترونيّ، والامتناع عن تطبيع هذه المستوطنات وتعزيزها. رضخت الشركة للضغوطات جزئيّاً، وأصدرت قراراً في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 بحذف شققٍ في مستوطنات الضفّة الغربيّة من قوائمها. لاحقاً، في أبريل/نيسان 2019، تراجعت الشّركة عن قرارها تحت ضغوطاتِ دعاوى قضائيّة إسرائيليّة ضدّها، وأعادت إدراج ذات الشقق.

لكن استعمار فلسطين لا ينحصر في المستوطنات المقامة على الأراضي المحتلّة عام 1967؛ مدينة يافا هي نموذج لحيّز حافظ على طابعه المعماريّ الفلسطينيّ، رغم تهجير أهله والاستيلاء على أملاكهم. فما الطريق التي تحوّلت فيها هذه البيوت من المصادرة العنيفة إلى شقق "ستوديو" فاخرة مطروحة للسياحة العالميّة على الإنترنت؟   

طريق النهب.. من العصابات إلى السّوق العالميّ

استولت العصابات الصهيونيّة، ومن بعدها دولة الاحتلال، على أملاك اللاجئين الفلسطينيّين بعد طردهم بقوّة السّلاح خلال حرب 1948. لاحقاً، استخدمت دولةُ الاحتلال آلياتٍ قانونيّةً "تُشرعن" نهب الممتلكات الفلسطينيّة وتنظّمه، وتمكّن من تحويل هذه الممتلكات إلى أصولٍ اقتصاديّة. لأجل ذلك، سنّت "إسرائيل" عام 1950 قانون "أملاك الغائبين"، وأسّست بموجبه هيئة "الوصيّ على أملاك الغائبين" التابعة لوزارة الماليّة الإسرائيليّة. بحسب القانون، فإنّ "الغائب" هو كلّ إنسانٍ يسكن في دولةٍ "معادية" لـ"إسرائيل" منذ تاريخ 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947. ما يعني أن كلّ اللاجئين الفلسطينيين الّذين طردوا من بيوتهم إلى لبنان والأردن وسوريا وغيرها، أصبحوا في عداد "الغائبين"، وتُنقل أملاكهم بموجب القانون إلى "الدولة".

عام 1951، حوّلت "إسرائيل" الإشرافَ على الممتلكات الحضريّة إلى هيئة تُسمّى "سلطة التّطوير" وهي تتبع لوزارة الماليّة أيضاً. هدفت هذه العمليّة إلى بدء التجهيز لخصخصة الأملاك الفلسطينيّة، أي بيعها في القطاع الإسرائيليّ الخاصّ، بالإضافة إلى تنفيذ رغبة الحكومة الإسرائيليّة في "التخفيف من عبء" السّيطرة على الأملاك الكثيرة. بطبيعة الحال، حرصت "سلطة التطوير" على ضمان نقل كلّ الأملاك الفلسطينيّة إلى أيدٍ يهوديّة. لاحقاً، شاركت في إدارة هذه الأملاك جهاتٌ رسميّةٌ وشركاتٌ حكوميّة، منها "الشركة الوطنيّة للإسكان" والتي يُطلق عليها اسم "عميدار"، والتي لعبت دوراً أساسياً وتاريخيّاً في البناء والإسكان وفي توطين "القادمين الجدد"، وغيرها من الشركات. 

وفق قانون "سلطة التطوير"، فإنّ الأخيرة مخولةٌ بشراءِ، وتأجير، واستبدال وبيع ممتلكات. وهكذا انتفعت دولةُ الاحتلال من أملاك اللاجئين سياسيّاً واقتصاديّاً، فخلال السنوات 1948-1953، تمّ تأجير أكثر من 244 ألف ملك فلسطينيّ في "القطاع المدنيّ"، حققت منها مدخولاً فاق الـ11 مليون ليرة إسرائيلية.1بشارة، سهاد. "من نهب إلى نهب: إسرائيل وأملاك اللاجئين الفلسطينيين". مجلة عدالة الإلكترونية، العدد رقم 64، أيلول 2009 كذلك، في فترة لاحقة، باعت هذه الشركات الحكوميّة غالبية الأملاكَ الفلسطينيّةَ للمستأجرين اليهود بأسعارٍ "رمزيّة". وفي عام 1954، عرضت "سلطة التطوير" 300 ألف دونم من الأراضي الفلسطينيّة للبيع، و50 ألف شقة، و10 آلاف مصنعٍ وورشة، وادّعت حينها بأن قسماً من الإيرادات سيُستخدم لتعويض "الغائبين الحاضرين" (أي المّهجرين الفلسطينيّين الداخليّين)2"سلطة التطوير تعرض ملاعب وشققاً للبيع. قسم من الإيرادات سيستخدم لتعويض اللاجئين الذين تركوا ممتلكاتهم"، صحيفة معاريف، 16.02.1954. يمكن الرجوع إليه في موقع jpress.org.il

على مدار السنين، استمرت سياسة خصخصة أملاك اللاجئين الفلسطينيّين وأخذت بالتصاعد. وقد وصلت أوجها عام 2009، حين أعلنت حكومةُ الاحتلال عمّا أسمّته "الإصلاحات في الأراضي" والتي تتيح بيع المزيد من الأملاك الفلسطينيّة والأراضي في القطاع الخاصّ. عام 2007، نشرت "دائرة أراضي إسرائيل" 96  مناقصةً لبيع الأملاك التي تقع تحت سيطرة "سلطة التطوير" في مدن فلسطينيّة كالناصرة، واللد، وعكا وبيسان. في 2008، نشرت 106 مناقصة، وفي 2009 نشرت حوالي 80 مناقصة3 "Special summary report on the new Israel land reform law", Adalah’s Newsletter, Volume 63, August 2009..

السياسات الكثيرة التي انتهجتها "إسرائيل" في التعامل مع الممتلكات، والتي اتخذت أشكالاً مختلفة كالتأميم والخصخصة، هدفت جميعها إلى إحكام القبضة الإسرائيلية على أملاك اللاجئين، ففي جميع الحالات، كان أكبر المنتفعين من هذه السياسات هم إمّا "الدولة"، أو المستوطنين الإسرائيليين أو أصحاب الأموال الإسرائيليين، وكل ذلك يصب في هدفٍ واحد: عرقلة عمليات استرجاعها من قبل أصحابها الأصليّين في المستقبل. 

"دورة حياة" البيوت الفلسطينيّة المعروضة على Airbnb

كيف جَنَوا على يافا؟

كانت يافا أكبر المدن الفلسطينيّة، وبلغ تعداد سكانها قبيل النكبة أكثر من 70 ألف فلسطيني4بلديّة تل أبيب (1984). عرب يافا: استعراض الموقف، ملخّص وتوصيات في مجال الرعاية الاجتماعيّة. قسم الخدمات الاجتماعيّة.. هجّرت العصابات الصهيونيّة أكثر من 95% من أهالي المدينة، فيما بقي فيها 5% فقط بعد عام 1948. عام 1950، ضُمَّت يافا الى بلدية "تل ابيب"، وبهذا بات الفلسطينيون يشكّلون ما يقارب 2% من السكان من عدد السكّان في المدينة الكبرى، تل أبيب5هامش: محسن، صلاح، التهجير العصري. مجلة عدالة الالكترونيّة، العدد رقم 60، أيّار(مايو) 2009)..

بعد الاحتلال، هدمت "إسرائيل" أحياءً يافاويّة كاملة، كحيّ المنشية. أمّا يافا القديمة، فقد هُدم ما يقارب 70% من مساحتها، بينما سقطت ال30% المتبقية فريسة المطامع الاقتصاديّة الإسرائيليّة. لاحقاً أثيرت نقاشاتٌ طويلة حول هذه المساحة المتبقية من البلدة القديمة، فهناك من التقط "أهميتها الاقتصاديّة وقوّتها السياحيّة" منذ اللحظات الأولى لاحتلالها، كعدد من المؤرخين وخبراء الآثار والفنانين، وأراد توظيفها لخدمة مصالحه، وهناك من أراد أن يقضي عليها تماماً، لمنع عودة الفلسطينيّين إليها بشكل تام.6 Paz, Yair. (1998). Conservation of the Architectural Heritage of Abandoned Urban Neighborhoods following the War of Independence.

في عام 1951، اعتبرت سلطاتُ الاحتلال أن هناك حاجة للحفاظ على بعض المناطق في يافا لصالح السكان والفنانين والتجار اليهود، إذ بدأ فنانون إسرائيليون بالاستيطان في البلدة القديمة منذ بدايات الخمسينيات. كان الهدف هو تحويل البلدة القديمة الى حيز "ثقافيّ وفنّي". وبدأ في الستينيّات تأجير المباني الفلسطينيّة لصالح المصانع، والاستوديوهات الفنيّة، والمعارض والحوانيت والمطاعم، في صيرورة طويلة نحو تحويل يافا إلى منطقة سياحيّة تدعم الاقتصاد الإسرائيليّ.

سقطت أملاك اللاجئين المسلوبة ضحية سياسات استعماريّة عديدة، منها ما أدّى إلى محوها تماماً ومنها ما أدّى إلى هدمها واستبدالها بمبانٍ أخرى. أمّا في بعض الحالات، فقد تم الحفاظ على الطابع العربيّ لبعض الممتلكات، بالشكل الذي يخدم أهدافاً اقتصاديّةً وتوسعيّة، وتشكّل يافا القديمة نموذجاً حيّاً على ذلك. واليوم تُعتبر يافا القديمة من أشهر المناطق السياحيّة في البلاد، إذ بلغت المرتبة الثالثة بين المناطق "المطلوبة للسياحة في إسرائيل"7التقرير السنوي، المسح السياحيّ 2018. وزارة السّياحة الإسرائيليّة (بالعبريّة) منشور في يونيو/ حزيران 2019. حيث يشكل الطابع العربيّ لبيوتها وشوارعها مصدر اجتذابٍ سياحيّ.

كما أنّ هوس الحفاظ على "الأصالة" كطابعٍ يرفع قيمة الملك في منطقة سياحيّة، يجعل المُضيفين والمُضيفات ممن يعرضون بيوت اللاجئين، التي أصبحت "بيوتهم"، على موقع Airbnb، يستخدمون ذلك الطابع العربيّ والتاريخيّ في التسويق للبيت. إذ تحوّلت "أصالة" البيوت الفلسطينيّة إلى ثيمة هي الأكثر تكراراً في المواصفات التي تُصنّف وفقها البيوت المعروضة للإيجار، وهو ما يمكن رؤيته من التصفح السريع في الموقع، حيث تتكرر مصطلحات مثل: "أصيلة"، و"قديمة"، و"عتيقة"، و"تاريخيّة"، و"ساحرة"، و"مُميّزة"، إضافة إلى الإشارة إلى النمط المعماريّ كالقناطر والقباب. أحدهم مثلاً، كتب مطولاً عن الأنشطة التي يمكن أن يقوم بها السيّاح في محيط البيت الذي يعرضه للإيجار، وأشار إلى "الأزقة الصغيرة التي تحبس الأنفاس"، و"صالات العرض الفنيّة"، و"أفضل حمص في إسرائيل".

تحقّق هذه السياسات الرغبات التوسعيّة لسلطات الاحتلال، لكنها تُحقِّقُ أيضاً أهدافاً اقتصاديّة تعود بالفائدة على الطبقات الغنيّة في المجتمع الإسرائيليّ وشركات العقارات الخاصّة التي تجني الملايين من مشاريعها "التطويريّة"، بينما يتم باستمرار التجريد الماديّ للفلسطيني. اليوم، بلغت سياساتُ التهويد مرحلةً متقدّمةً بموازاة تطوّر سوق العقارات الإسرائيليّ نحو الخصخصة. وبدأت بذلك عملية استطباق (gentrification) صارخة وتوحش رأسماليّ8الاستطباق هو عملية استيلاء/شراء أملاك في مناطق فقيرة، ومن ثم ترميم المنطقة بحيث تجتذب فئات اجتماعية أقوى من الفئات الاجتماعية التي تسكن في المنطقة منذ سنوات، وتدريجياً تحلّ محلها، يتم ذلك غالباً من خلال طرد الفئات الفقيرة بوسائل مختلفة للضواحي أو لمناطق أشدّ فقراً.، تُعرض فيها العديد من البيوت "الخالية" في مناقصات يمكن للشركات أن تتنافس عليها وتشتريها، ثمّ تحولّها إلى مقرّات أو إلى أحياء سكنيّة فاخرة تتّسم برفاهيّة مستشرقة للإسرائيليين وللأجانب الباحثين عن تجربة سياحيّة "أصيلة".

وهكذا، من سيطرة العصابات الصهيونيّة، إلى "تأميم" أملاك اللاجئين ومن ثم خصخصتها، أصبحت هذه البيوت جزءاً من عمل شركات الإنترنت المعولمة، التي تستفيد من الاقتصاد الاستعماريّ وتفيده، وكذلك تكرّس عمليّة المحو المستمرّة للإنسان الفلسطينيّ.