19 أكتوبر 2023

لحظة العبور الكبير

لحظة العبور الكبير

كُنت نائماً، مثل كثيرين، لمّا بدأت مشاهد المقاتلين تتوالى وهم يتجوّلون في قلب مستوطنات "غلاف غزّة". جاءتني مكالمات كثيرة، أجبت في النهاية، فجاء الصوت سريعاً فرحاً: "افتح الأخبار بسرعة"، فوراً اتصلت بشبكة الإنترنت، وبدأت مشاهدة الفيديوهات، فلم أفهم ما يجري.

عن هذا الشعور، عن بداية طلوع الصباح في يوم 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر، عن لحظة العبور الكبير، تأتي هذه المادة، لتسأل بعضا من كتّاب "متراس" الأسئلة التالية:

  • كيف استقبلت اللحظات الأولى من هذا اليوم؟ 
  • كيف تفاعلت مع معركة "طوفان الأقصى؟ 
  • كيف أثرت بك وبمن حولك؟

سعد الوحيدي: ظننت أنها مشاهد من مسلسل "فوضى" الإسرائيلي

والله، أوّل ما سمعته عن المعركة، حين كنت بمكالمة هاتفيّة مع زوجتي صباح السابع من أكتوبر، بحدود الساعة السادسة والنصف، خرجت أصوات انفجارات، فقالت لي: هناك قصفٌ في غزة، من الصوت، قلت لها: والله تبدو هذه صواريخ المقاومة. بعد قليل، بدأ تطبيق الأخبار على هاتفي المحمول يُعطيني إشعارات، فتحت التطبيق ونظرت إلى الخريطة، وإذ بها من تل أبيب وحتّى بئر السبع تُضيء بالأحمر من الإنذارات، قلت في نفسي: يبدو أنّهم قد اغتالوا شخصيّة بارزة، ستقوم القيامة. 

بدأت متابعة الأخبار، كلّها تتكلّم عن إطلاق صواريخ، بعد قليل، بدأت ترد أخبار عن اشتباكات على "حدود غزّة"، بعدها، بدأت تصل صور لشباب المقاومة أول دخولهم مستوطنات "غلاف غزّة"، أخذت بالانتشار صورة سيّارة دفع رباعي بيضاء في "سديروت" على ما أعتقد، أحدهم قال: هذه الصورة من كواليس مسلسل فوضى الإسرائيلي، نزع مني هذا التعليق فرحتي بأنّ هناك عمليّة برية تنفذها المقاومة وها هي تُحرّر المساحات، إذ عدت بذاكرتي إلى المسلسل، فقلت يبدو أنّها صورة قديمة أعيد نشرها، لكن سرعان ما كذبت ذلك الفيديوهات التي أخذت تتوالى للمظليين والاشتباكات البريّة وتصوير المستوطنين و"لايفات التيكتوك" وكلمة أبو خالد الضيف، فقلت في نفسي: انتهى، لقد ثبت الهلال!

حتّى العصر، كان الواحد منّا يشعر أنه في حلم، الأخبار، أعداد القتلى والأسرى، احتفالات الناس فوق سيّارات "الهمر" التابعة للجيش الإسرائيلي وهي تدخل قطاع غزة، الناس وهي تعبر السياج الفاصل، الدبابة وهي مشتعلة في خانيونس، الجرّافة وهي تهدّ الجدار؛ كلّها لقطات تشير إلى أنّه كان يوماً ملحميّاً ولا يمكن لأحد أن ينساه حتّى آخر يوم في حياته.

بلال شلش: أقرب إلينا من حبل الوريد

7 أكتوبر 2023؛ "النقطة الحرجة" في حرب التحرير، خلال السنوات الماضية، بصفتي دارساً لتاريخ الحرب مع المشروع الاستعماري الصهيوني، كان من الممكن التقاط هشاشة الصهيونية المعاصرة، وجيشها، خصوصاً عند القراءة المقارنة بلحظاتها السابقة، تحديداً في حرب أهل البلاد الكبرى (1947-1949). فلسطينياً كنا بحاجة إلى مشهد حاسم قاطع، لمن لم يكن يسمع ويرى، فكانت هذه الحرب لتؤكد المؤكد بأن حرية فلسطين من بحرها إلى نهرها أقرب إلينا من حبل الوريد.

أسامة غاوجي: هذا ما بدأ الآن..

نعم، "إسرائيل" يمكن هزيمتها، الفكرة هي أن "إسرائيل" عقدة الشبكة، مربط ليس لفرس واحد، بل لجميع الخيول المُعطّلة، الحجر في هذا المنطقة، وفي هذا الوقت بالذات، له ثقل استراتيجي يتسع أثره في دوائر متتالية إلى الفرات والنيل وجاكرتا وبيونس آيرس وواشنطن وبكين.

القدس ميزان العالم بهذا المعنى الاستراتيجي وبالمعنى الروحي أيضاً، بوابة السماء، استعارة قلب صفحة في كتاب التاريخ حقيقتها هائلة، كلمات ستخرج من النص، جمل ستعيد ترتيب نفسها، حروف ستتفكك وتجتمع من جديد في كلمات ومعانٍ جديدة، هذا ما بدأ الآن..

محمود أبو عادي: كما لو أنّنا لم نُهزم قط!

أبرز ما أحدثته لحظة 7 أكتوبر برأيي، هي أنّها أرجعتنا إلى نقطة الصفر. شخصياً، شعرت كما لو أنّي وجدّي - رحمه الله - نقف على نفس العتبة من مقاومة الاحتلال لأوّل مرّة، نُخطّط، نُحلّل، نستخدم كلّ مجال حيوي ممكن، فالأرض أرضك، والسماء سماؤك، والبحر بحرك، وكلّ ما عليك هو أن تهجم بثقة من لا تخونه السماء ومَن لا يغدره بحر ومَن لا يهزّه التراب. شعرت كما لو أنّي استيقظت في عام 1948، أو بنقطة تاريخية عذراء لصراعنا مع المحتلّ، استيقظنا كما لو أنّنا لم نَعِش هزيمة قطّ.

هذا الوَعي لا أظن أنّه يخصّني فحسب، ولا يخصّنا كعرب ومسلمين أو فلسطينيين فقط، أقسم أنّه الوَعي الذي تفتّق في أذهان الإسرائيليين أنفسهم، لقد عدنا إلى نقطة الصفر مع هؤلاء، لقد تحوّل الخطاب الإسرائيلي فجأة من خطاب استقطابي لليهود في الخارج، إلى خطاب تثبيتي لليهود في الداخل؛ "لا تغادروا، رجاءً لا تغادروا! لا تخذلوا المشروع الصهيوني"، لقد رأيت مثل هذه الأخبار بعيني على صحيفة "هارتس"!

كما ترى، تحتاج إلى أن تُنفِقَ ما في الأرضِ جميعاً، وتحتاج إلى أكثر من سبعين سنة، وضخّ المليارات من الدولارات، كي تبني ثقة المستوطنين بالبقاء والإقامة في بُقعة جغرافية صغيرة، وفي مقابل ذلك، تحتاج إلى لحظة مقاومة واحدة كي تهدم هذه العلاقة الهشّة مرّة واحدة وللأبد. ما حصل هو أنّنا عدنا إلى البديهيات، لقد أعدناهم إلى القلق الوجوديّ الأوّل؛ احتمالية أن يفقدوا كلّ شيء في لحظة واحدة.

نقطة التحوّل الثانية، هي أنّها نقلتنا من موقعية الاستجابة إلى موقعية المبادرة؛ إنّه تحوّل نوعي وجديد لجيلنا الذي يبحث عن أفق ومشروع يبذل فيه طاقاته الكامنة.

لكن هل تعلم ما حدث هذه المرّة؟ إنّه التحوّل في دقائق معدودة، من أن تكون لُقمَة إلى أن تصير فَمًا، إنّه الانتقال من مستوى الفريسة إلى مستوى الصيّاد، والتحرّر من موقعية الاستجابة إلى موقعية الاستباق، ومن ذهنية الضحية إلى ذهنية الفارس.

هذا الانتقال السريع، أعاد سؤال الفاعلية للجموع الشابّة. وصلني شخصياً عدد لافت من الرسائل وبشكلٍ متزامن من الأصدقاء والشباب، ممّن لم ينتموا إلى حزبٍ سياسيّ قطّ ولا يحملون أيّ توجّهات أيديولوجية مُحدّدة، إنّهم مُجرّد شباب يشعرون بأنّهم جزء من نسيج هذه الأمّة الشابة والحيّة، معظمهم يعملون في شركات دولية وبتخصّصات تقنية متقدّمة، الجميع كان سؤاله: أشعر أنّي بالمكان الخاطئ، أريد أن أفعل شيئاً ما! أشعر أنّني بعيد عن الإسهام في هذا الطوفان العظيم الذي يحصل.

وهذا الشعور لَم يكن على مستوى أفراد الأمّة باعتبارهم جماعة داخلية فحسب، إذ مَن يرصد الخطاب الغربي لحظة 7 أكتوبر، يدرك تماماً أنّ الغرب انبثق عنده وَعي مماثل بأنّ هؤلاء أمّة من دون العالَم، ينظرون إلى أنفسهم ويفكّرون بصورة مُستقلّة بعيداً عن إملاءاتنا الغربية، ومَن ينظر في الخطاب الإعلامي الغربي منذ 7 أكتوبر يرى تماماً أنّ الغرب شعر بأنّ هؤلاء البشر قد صاروا فجأةً أنداداً وليسوا تَبَعاً وليسوا مُجرّد مُضّطهدين خاملين.

التحوّل الثالث برأيي، أرصده على مستوى السيكولوجيّ، وهو كسر حلقة العجز المُتعلّم، وهي الحالة التي تحصل عند قيام فرد أو جيل ما بمجموعة من المحاولات الفاشلة لتخليص نفسه من ظرف قاهر، حينها يجري استدخال العجز للدرجة التي تجعله عاجزاً عن الحراك حتّى حين يرى انفراجة أمامه أو حين تتاح فرصة حقيقية أمامه لتخليص نفسه، لَن يُحرّك ساكناً. ما أقوله أنّ فرضيتنا عن التباعد الجيليّ والتحرّر من عقلية الهزيمة قد تحقّقت فعلاً، لقد كُسِرَت حلقة العجز المُكتسَب مرّة واحدة وللأبد، وستكون جميع المواجهات القادمة، مواجهات المُبادأة والخيال الحرّ، والممكن غير المحدود، والله غالبٌ على أمره.