حين اجتاح الوباءُ بلادنا، تحسّس الناس جيوبهم وتفقّدوا حساباتهم البنكيّة. كان العمّالُ وأصحاب المصالح الاقتصاديّة الصغيرة والمتوسطة يترقّبون المؤتمرات الصحافيّة لرئيس الوزراء، على أمل الإعلان عن انتهاء الإغلاق. فقد انتهى "شهر العسل" ولم يعد أحد يرحم الآخر؛ لا البنوك ولا الناس ولا المحاكم.
كان الجميع مديناً أو دائناً، يُطاردون المال ويُطاردون أنفسهم معه. لا مُساعدات خارجيّة ولا مقاصّة، لا قدرة شرائيّة ولا إمكانيّة على سداد القروض. كانت الحقيقة التي تتراءى أمام أعين الناس ولا يجرؤون على النطق بها: أنّ السوق سينهار في أيّ لحظة، وسينزل الناس أفواجاً عن مستوى "أمانهم الاقتصاديّ".
لكن هناك من انفكّ جزئيّاً عن هذه المقصلة. منهم مجموعة من الشُبّان، كانوا في خضّم الإغلاق منغمسين بالعمل في تعاونيّةٍ زراعيّةٍ أسّسوها في قرية صفّا، غرب رام الله، وأطلقوا عليها اسم "أرض اليأس".1التعاونية هي جمعيّة مُستقلّة مُكوّنة من عدّة أعضاء. يقوم العمل فيها على مجموعة من مبادئ وقيم التعاون، وتتوزع الأرباح إما بتوزيعها كنسبة من رأس مال العضو في التعاونية، وإما كنسبة مُشتريات، وإما توظيف الفائض لأغراض تهمّ التعاونية. للمزيد، انظر: فتحي السروجي، إصلاح وتطوير القطاع التعاوني الفلسطيني، معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس)، 2012. لم تؤثّر "كورونا" على أداء التعاونيّة، بل على العكس، ساهم الإغلاقُ في ارتفاع مبيعاتِها. لم يتحسّس هؤلاء جيوبهم (الفقيرة) ولم يتفقدوا حساباتهم البنكيّة (غير الموجودة)، ليس لأنّهم في غنىً عن المال، بل ربّما لأنّهم حاولوا- قدرَ الإمكان- ألّا يكونوا جزءاً من قرارٍ حكوميّ، أو آخر إسرائيليّ، أو خارجيّ.2بلغ عدد التعاونيّات الزراعيّة الموجودة في الضفّة الغربيّة حتّى عام 2014 الـ230 تعاونيّة، تأسس كثيرٌ منها بعد موجات التمويل الخارجي. راجع: "تشخيص أوضاع التعاونيات الزراعية في الضفة الغربية: تحديات وفرص - أيار 2014، منظمة العمل الدولية".
أسرد قصّتهم هنا عسى أن يأتي زمنٌ نستغني فيه عن مفرداتٍ مثل: تجربة، ربّما، محاولة، قدر الإمكان. ولا يكونُ لأحدٍ علينا سُلطان في لقمة عيشنا.
تزرع بذرة تحصد فكرة
تأسّست تعاونيّة "أرض اليأس" عام 2017 بجهود أربعة شبّان، دون أيّ أهداف أو رؤى واضحة، وحتّى دون أن تكون في بالهم فكرة "التعاونية". كان التعلّق بالأرض هو الرغبة الأساسيّة، لكنّه كان كذلك ممزوجاً بالسعي نحو خلقِ عائدٍ ماليٍّ- مهما كان قدره- في ظلّ قلّة فُرص العمل. بدأ الشّبّان بزراعة أرضٍ مساحتها دونم ونصف، سمح لهم أحدُ سُكّان القرية بزراعتها والاستفادة منها. سأل أحدهم جدّتَه: ماذا نزرع في شهر تشرين الأوّل الذي نحن فيه؟ أجابته: بازيلاء. وبهذه البساطة، وحتى مع قلَّة خبرتهم، انطلقوا للزراعة.
حصد الأصحاب محصولهم الأوّل في مارس/ آذار 2018، وكانت الزراعة الأولى ناجحة على غير المُتوقّع، فالمحصول الذي كلّفهم 200 شيكل، كانت جودته ممتازة وعاد لهم بـ2000 شيكل، بعد أن باعوه لسُكّان القرية من خلال شبكةِ معارف أُمّهاتهم. تساءلوا بعدها: لماذا لا نطوّر هذه التجربة؟ وبالفعل، أخذت التجربة التي صار اسمها "أرض اليأس" بالتطوّر.
بدأت التعاونيّة باستقطاب العديد من شبّان القريّة، وشيئاً فشيئاً وصل عدد أعضائها إلى 16 عضواً، ووصل حجم الأراضي التي زرعوها في تلك السنة وحدها 40 دونماً، قد جعلها أهالي القريّة في عهدتهم دعماً للمشروع. زرعوا مختلف المحاصيل من قمحٍ وفقّوس وقرع وبازّلاء وفول وحمّص وخسّ وغيرها، ففشلت بعضها "فشلاً ذريعاً" كما يُعبّرون، ونجحت محاصيل أخرى كثيرة. صمد من صمد وخرج من خرج، حتّى استقرّ عددهم اليوم على 9 أعضاء.
في قرية صفّا التقيتُ أربعةً منهم: سامر، وأدهم، ومالك، وأسامة. تتراوح أعمارهم بين الـ21 والـ24، وجميعهم من عائلة كراجة. هؤلاء هم لجنة التعاونيّة التي انتخبها الأعضاء؛ سامر خرّيج إدارة أعمال وهو مسؤول الماليّة و"العلاقات الخارجيّة"، وأدهم يدرس الهندسة الزراعية ومسؤول عن متابعة المحاصيل الزراعية، ومالك يتخصّص في التجارة وهو مسؤول التعاونيّة، وأسامة يتخصّص في الهندسة ومهمّته إدارة الموارد البشريّة.
جلسنا بعد الظهر مُستعينيين بظلّ مبنى رومانيّ قديم ومتآكل يُدعى "حوريّة"، وذلك على تلّة جبلٍ مُطلٍّ في منطقة يُسميها سكّان المنطقة بـ"الخربة"، تبعد عن القرية بضعة كيلومترات. خلفنا بأمتارٍ قليلة، يقع السياج الإسرائيلي الفاصل، ومن خلفه البلاد التي نسمع عنها ولا نراها، وإسرائيليّون يسيحون في الأرض المُقابلة. على يميننا قرية بيت سيرا وحاجزٌ إسرائيليّ مُخصّص للعمّال الذين يعملون في أراضي الـ48. على يسارنا مُستوطنة كبيرة تُدعى "كريات سيفير"، لا يستغرقك الأمرُ طويلاً حتّى تعرف أنّها هجينة عن الطبيعة القرويّة هناك، وبجانبها قرية نعلين. أمّا على مرمى أعيننا، فهناك الجبل الذي تتربّع عليه قريّة صفا ومن خلفها بيت عور، وتحت ناظرينا مُباشرة "أرض اليأس".
إنّها أرضٌ يائسةٌ بكلّ المعايير. من الصعب زراعتها، فهي بعيدة عن مركز القرية، وبالتالي بعيدة عن الماء والكهرباء، ولا تنقطع عنها الخنازير البريَّة. كما أنّها قريبة من السياج الفاصل، وموجودة في مناطق "ج" التي تبتلعها "إسرائيل" على الدوام. أعطاهم إياها أحد أهالي القريّة، لأنّه لا ينتفع بها بسبب هذه الظروف التي تحيط بها.
"الساحر الذي سيعطيني 10 آلاف دولار"
بدأت التعاونيّة برأس مالٍ بسيط يُقدّر بـ1500 شيكل، بمعدّل 200 شيكل عن كلّ عضو. لكن منهم من لم يتمكّن من دفع المبلغ كلّه، ومنهم من قدّمه على دفعات، ومنهم من دفع أكثر من المبلغ المطلوب. بعد سنة من العمل، وجد الأعضاء أنّ التعاونية لم تربح فلساً واحداً، رغم نجاح المحصول الأول، وذلك بسبب سوء الإدارة وانعدام الخبرة الزراعيّة. لكن ذلك اختلف في نهاية السنة التي تلتها، إذ وزّع الشباب أرباحاً تراوحت من 2000- 2500 شيكل لكلّ شخص، وأبقوا على 5000 شيكل كرأس مال للتعاونيّة. "حسيت المبلغ بقيمة مليون شيكل"، يقول أحدهم.
تضافرت جهودٌ عديدة لتحقيق هذا المُنجز الخفيف، فأهالي القرية دعموا التعاونيّة بأن سمحوا لهم الزراعة في أراضيهم دون أيّ عائدٍ يُذكر. كما شكّل الأهالي الزبون الأوّل للتعاونيّة، فاستهلكوا من محاصيلها، هم وآخرون من خارج القرية، اهتدوا إليها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. إضافةً إلى ذلك، مدّ مُلتقى الشراكة الشبابيّ أصحابَ التعاونية بالخبرات عبر ورش العمل والندوات. مع ذلك، اتفق من قابلتهم أنّ أكثر ما يحتاجه المزارع هو الدعم الماليّ، وهذه الحاجة تورّط بعض المزارعين في دوّامة التمويل والقروض.
في المقابل، يُدرك الشبابُ أنّ التعاونيّات لا تَعِدُ بربحٍ عالٍ وسريع، فتوسّعها بطيء بقدر إعطائهم للأرض من وقتٍ ومال، وإلا فإنّ الجميع سيضع رقبته تحت رحمة "الساحر الي بده يعطيه 10 آلاف دولار"، حسب تعبير سامر. ثمّ يستفيض: "احنا مش شركة بدنا مراكمة مصاري، احنا بدنا نحل مشكلات بنواجهّا بحياتنا. احنا بيهمنا تجربة اجتماعية أكثر من المردود الاقتصادي. لهيك كان عندنا قناعة بأنه التجربة تنمو بشكل عضوي، منخليش اشي يجي يكسرها، خلي الاحتياجات تتطور بتطوّر التجربة نفسها، ليه نقفز من الصفر لـ90 واحنا معناش لا خبرة ولا سوق؟".
لذلك لم يكن التمويل وارداً لدى شباب التعاونيّة في بادئ الأمر، فالغاية هي أن "يعيشوا التجربة ويأسسوا لها". إن كان التمويل من بداية التجربة، فإنّه سيُفشلها حين تبني صمودها عليه. يعترض أدهم على المُسمّى، فيقول: "هو مش تمويل بقدر ما هو إسناد، لإنه المزارع محتاج إسناد". يُكمل الشرح: "ناخذ إسناد بـ1000 شيكل، بس مستحيل ناخذ 20 ألف شيكل". وهذا ما يتفق عليه جميع أعضاء التعاونيّة: أن يكون أي دعم ماليّ يقبلون به مخصصاً لتلبية احتياجاتهم الحقيقية، وليس لتحقيق أهداف المُموّل وغاياته، وإلا سيغرق المشروع. يضربون لذلك مثالاً: البئر التي تلقوا دعماً مالياً لحفرها، وكانت حقيقةً واحدة من احتياجاتهم، إذ أنّها تُوفّر لهم الماء، بدلاً من أن يقطعوا بضعة كيلومترات لجلبه من القرية.
يعرف أعضاء التعاونيّة ما يؤسسون له جيّداً. إنّهم يثبّتون مفاهيم كالتعاون والمصلحة الجمعيّة قبل أن يُفكّروا بالربح، ولديهم مجسّات تُحذّرهم من انزلاق أقدامهم في وحل المال الذي يُنسيهم الفكرة. يقول سامر: "لّما تحكي إنت تعاونية، انت بتحكي عكس شركة. الشركة فيها المدير والعمّال الي تحت ايديه، وهمي الي بشتغلوا وهو الي بوقّع آخر اليوم. لكن في التعاونية في مساواة بالجهد والرأسمال، ولكل حدا صوته".
"وإحنا كمان"
ومع مرور الوقت ومراكمة التجارب، عمل أصحاب التعاونيّة على تطوير قدراتهم الزراعيّة، وإدارة العمل لضمان استمراريّته. استفاد الأعضاء من أخطائهم جيّداً، واستعانوا بخبرات غيرهم في إدارة التعاونيّات. فلديهم اليوم لجنة للتعاونيّة، ونظام داخليّ لتيسير الأعمال؛ مثلاً تشترط التعاونيّة على أعضائها تقديم 7 ساعات من العمل أسبوعياً، باستثناء المواسم التي تحتاج إلى ساعات عمل أكثر كموسم الزيتون.
تملك التعاونية اليوم موارد عدّة، حصّلوها بمجهودهم وبعض المُساعدات التي كانت تأتيهم: سيّارة "مشطوبة"، بئر ماء، سياج للأرض، مقص ربيع، آلتان لقطف الزيتون، طواري (جمع طوريّة- مجرفة)، شوادر، سلّم، حصّادة، شبكة ري، بذور قمح وفول، تبن. يشرد مالك بعد أن عدّد كلّ تلك الموارد، ويقول مُتبسّماً: "وإحنا كمان".
لماذا نذهب إلى الأرض؟
أدهم، وهو من الأوائل الذين التحقوا بالتعاونيّة، ترك جامعة بيرزيت حيث كان يدرس التجارة وذهَبَ إلى طولكرم ليلتحق بكليّة الزراعة التابعة لجامعة النجاح الوطنيّة. "مرّات بنسى ليش دخلت زراعة عنجد، التعاونية بتذكرني"، يقول لي، ولنفسه رُبّما. فبعد كلّ فكرة، كان يتوقّف قليلاً يتأملها، وبعدها يُكمل. كنت أشعر بأنّه يستمع إلى قوله كما أستمعُ أنا، كأنّه يتعجّب من شدّة تعلّقه بالأرض والمشروع الذي يحاولون بناءَه. يُكمل وعيناه تلمعان: "التعاونيّة هي الإيد إلي بتشدني من داني، لمّا بكرا بدي أرسب بامتحان، في شباب بدها تسألني أدهم إنت صارلك سنتين بالجامعة، ما فدتناش ولا مرة بتخصصك".
أمّا مالك الذي تعني له التعاونية "منهج حياة"، فهو شاب يغلب عليه الخجل، يتحدّث عنه الآخرون أكثر ممّا يتحدّث عن نفسه. يقول صديقه سامر: "مالك مرّات بكون برنامج يومه كالتالي: بشتغل ع الساعة سبعة قصارة، بروّح ع الساعة خمسة وبيجي ع الحصاد للساعة سبعة، وبعدها بروح يلعب مباراة كرة قدم". ثمّ يتساءل: "شو الي بخليه يجي ع الحصاد، طيب ميرتاح قبل اللعب؟ بس فيه إيمان، مش بس لنزعة عاطفية تجاه الأرض، بقدر ما هو شايف لقدام أنه حتى في منها جدوى اقتصادية، اللي ممكن تحميه من الجوع ببساطة".
فيما أسامة، الشاب الذي بالكاد تحدّث، تلعثم حين سألته فجأة: "ماذا تعني لك أرض اليأس؟"، قال لي: "صعب أقلك شو بتعنيلي أرض اليأس". فحثثته على وصفها بكلمة واحدة، فعدّد بما أسعفه قاموسه اللغويّ: "مستقبل، مشروع حياة، مدرسة، عيلة ثانية".
يتحدّث سامر، الشاب الذي يقول عنه الآخرون بأنّه "حَمَلَ همَّ التعاونيّة على ظهره"، عن هدف التعاونيّة، فيقول: "العمل بالأرض هو تأكيد لوجودك عليها، والصّراع مع المُحتل جوهره الأرض". ما يلبث يتوقّف، حتّى يشحذ بصره بتخيّل حالم عن المُستقبل: "طول الوقت بشوف التعاونيّة بتكبر؛ كيف كان في حلم بن جوريون بتحقيق الدولة؟ مرات بشوف التعاونية حلم لإشي أكبر".
قاطعته مُعترضاً: أليس ذلك رومانسيّاً؟، فقال: "لأ، الأرض مش رومانسية. احنا مش ناس شغّالة شغل واحد، احنا نكافح بالحياة. بالإضافة في عنّا معطيات بتحكيلنا إنه في تطوّر بالتعاونية، وهاد بخلينا نحكي إنه مش إيفنت (فعالية) الي منقوم فيه"، ثمّ يتدارك كلامه الغاضب: "بعدين الرومانسيّة شيء مُهم".
ستفاض سامر بالشرح عن أهميّة الرومانسيّة لأي عمل، وأنّها مسألة لا يجب الخجل منها. خلال حديثه هذا، كان ذهني شارداً بالتساؤل الذي طرحه الشّهيد باسل الأعرج قبل رحيله: لماذا نذهب إلى الحرب؟ كان جوابه الوحيد هو "الرومانسيّة". وبقليلٍ من التحوير فكّرت، هل "الرومانسيّة" هي الإجابة على السؤال: لماذا نذهب إلى الأرض؟