22 أكتوبر 2018

برسم "الاستعجال"

كيف مُنحت الباقورة والغمر لـ"إسرائيل"؟

كيف مُنحت الباقورة والغمر لـ"إسرائيل"؟

بدأ، في الأشهر الأخيرة، حراكٌ سياسيٌّ في الأردنّ، شارك فيه مستقلّون وأحزاب ونقابات ونوّاب، للمطالبة باستعادة أراضٍ أردنيّةٍ من يد الاحتلال الإسرائيلي، هي أراضي الباقورة (في الأغوار الشمالية، عند ملتقى نهري اليرموك والأردن)، والغمر (في وادي عربة جنوب البحر الميت).

كانت الأردن ودولة الاحتلال الإسرائيلي قد اتفقتا في ملاحق معاهدة "وادي عربة" عام 1994، على وضع هذه الأراضي في نظامٍ مؤقتٍ وخاصٍ لمدة 25 سنة. بحسب نصّ المعاهدة، فإنَّ لأيٍّ من الطرفين، أن يُخطِرَ الآخر، قبل انتهاء المدة (25 سنة، والتي تنتهي عام 2019) بعامٍ واحدٍ إذا ما أراد تغيير الوضع القائم فيها.

بذلك، يكون اليوم الأخير المُحدّد لهكذا إخطار صبيحة يوم الخميس 26 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري. يوم أمس الأحد، أي قبل الموعد بـ5 أيام، تدارك الملك الأردني عبد الله الثاني الأمر، وأعلن عن قرار الأردن إنهاء "ملحقي الباقورة والغمر".

مسيرة في عمان طالبت بإعادة الباقورة والغمر، الجمعة 19.10.2018. تصوير: عمار الشقيري.
مسيرة في عمان طالبت بإعادة الباقورة والغمر، الجمعة 19.10.2018. تصوير: عمار الشقيري.

نعود في هذا التقرير إلى الوراء قليلاً، محاولين عرض بعض تفاصيل الفترة التي وُقِّعت فيها معاهدة "وادي عربة"، وكيف تعامل النوّاب الأردنيّون تحديداً مع مُلْحَقَي الباقورة والغمر فيها.

"حُجّة" التنازل

الرواية التي كرّرها رئيس الوزراء الأردنيّ حينها عبد السّلام المجالي (1925) أكثر من مرّة، عن سبب وضع أرض الباقورة في نظام خاصٍ ومؤقتٍ في معاهدة السلام، هي الادّعاء بوجود ملكيّةٍ خاصّةٍ لإسرائيليين فيها، الأمر الذي دفع الأردنّ لـ"احترام" هذه الملكيّة على أمل أن تحترمَ "إسرائيل" ملكيّة فلسطينيّ الأردنّ في "إسرائيل"، بحسب تعبيره.

وفق ذلك الادعاء، قال المجالي، الذي وقّع على المعاهدة بصفته رئيس الوزراء، في مقابلة أجرتها معه قناة "الأردن اليوم" هذا الشهر: "نحن احترمنا الملكيّةَ الخاصّةَ من أجل منافع إخواننا الفلسطينيين إلي إلهم أراضي في "إسرائيل". هلأ الأردني الفلسطيني إلي إلو أرض يستطيع أن يذهب ويأخذ ثمنها (...) عشرات الفلسطينيين الذين استفادوا من هذه النقطة وأخذوا ثمن أراضيهم".

في مقابلة أخرى، قال المجالي ردّاً على سؤال فيما إذا كان اطلع أو تثبّت بالفعل من وجود الباقورة ضمن ملكيّات خاصّة لإسرائيليين: "لم تُعرض علينا أي وثيقة، وإنما الدولة الأردنيّة أعلمتنا بالحقيقة [أن فيها ملكية خاصة]، لكن الوثائق ما جابولنا إياها، أنا ما بدي أشكّ بحكومتي وأقول هاتي أعطينا الوثيقة".

لكن هل بالفعل "احترمت" دولةُ الاحتلال الإسرائيلي حقوق الملكيّة الخاصة بالأردنيين من أصلٍ فلسطينيّ في الأرض المحتلّة عام 1948؟، خاصةً في ظلّ القانون الإسرائيلي المعروف "قانون أملاك الغائبين 1950"، والذي يصادر أملاك اللاجئين الفلسطينيين لصالح الاحتلال؟ وهل بالفعل قبض بعض هؤلاء بسبب اتفاق الباقورة ثمن أراضٍ لهم بعد التوقيع، كما يدعّي المجالي؟

في ذات السياق، بحسب الباحث خالد الحباشنة1، فإنَّ الأردن عندما باع روتنبرغ أرضاً من الباقورة لإنشاء محطة توليد كهرباء، اشترطت عليه في عقد البيع بأن تعود ملكيّة هذه الأرض للأردنّ في حال انتقال ملكيّة هذه الأراضي من روتنبرغ لأي جهة كانت.

أيَّ أنَّه، حتى وإن باع روتنبرغ بعض الأراضي ليهود تدعي "إسرائيل" أن لهم ملكيّة خاصة فيها، فإنَّ ملكيّتها تعود للأردنّ حكماً. وهو ما يُمكّن الحكومة -إن صح ادعاء الحباشنة- من استملاك هذه الأرض، أو كان يُمكنها أن تستملكها وأن لا تدخل في المفاوضات أصلاً.

استعجال النقاش البرلماني

كان على الحكومة الأردنيّة، وفقًا للدستور، صياغة مشروع قانون لمعاهدة السّلام مع دولة الاحتلال، ومن ثمّ عرضه على مجلس النوّاب الذي بدوره يرفضُ أو يوافق على القانون بالتصويت2.

خارج البرلمان، أثناء جلسات مجلس النوّاب بين 30 أكتوبر/ تشرين الأوّل و5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1994 التي ناقشَ وصوّتَ فيها على مشروع قانون المعاهدة، كانت الحشودُ الأمنيّةُ غير المعتادة تُثير الريبةَ في نفوس بعض النوّاب. سأل النائبُ بسام البطوش الحكومة داخل المجلس عن سرّ تلك الحشود: "أودّ في بداية الجلسة أن أسأل الحكومة (...) إذا كان هناك مبرّر موضوعيّ للحشود الأمنيّة خارج مبنى المجلس". يردّ المجالي حينها بأنَّ الحشود: "اجتهاد، وسيكون الأمر [السبب] جليّاً قريباً".

عدا عن الحشود الأمنيّة خارج البرلمان، تواجد داخله بالقرب من قاعة المناقشة الملكُ الأردنيّ حسين، ومعه وزراء من الحكومة، إضافةً للرئيس الأميركيّ بيل كلينتون، في خطوة غير معتادة تُدلل على نيّة الضغط لتعجيل التصويت على القانون. قبل البدء بمناقشة القانون، ألقى كلينتون خطاباً أمام النوّاب، وكانت أجواء الاستعجال حاضرة، لتسليم الرئيس الأميركيّ نصّ المعاهدة بعد موافقة النوّاب عليها ليطير بها إلى نيويورك.

"بدي المعاهدة الليلة"

إضافة لذلك، حاول الملك التدخّل في سير عمليّة مناقشة المعاهدة في مجلس النوّاب خلافاً لصلاحياته. يكشف رئيس البرلمان الأردني سعد هايل السرور تفاصيل أيّام مُناقشة المجلس على المعاهدة: "ناداني [الملك حسين] وقلي كيف الوضع في المجلس، فقلت والله إن شاء الله سيدي الأمور كلها جيدة، إخوانا وزملائنا متفهمين للوضع، من رغب الحضور حضر، ومن رأى أن عنده موقف سياسي يعبر عنه مش رح يكون موجود. قلي جلالة سيدنا: بدي المعاهدة الليلة".

حسب المعمول به في الأردنّ، يمرّ تشريع القوانين بعدّة مراحل. يُحال مشروع القانون من الحكومة إلى مجلس النواب، ليناقشه الأخير، ومن ثم يصوّت عليه بالموافقة أو الرفض، ثم يُحال إلى مجلس الأعيان، وبعدها يوقّع الملك عليه.

يفيد السرور إنَّه ردَّ على طلبِ الملك تسليمَ القانون "الليلة"، بالقول: "المعاهدة تُعامل كما يُعامل أي قانون، وفي التشريعات لدينا آلية، تأتي مسودة القانون من الحكومة، تعرض على المجلس، إذا قبل المجلس بحثها، تُحال إلى لجنة من اللجان، تُناقش في اللجان، ثم يعود تقرير اللجنة بعد فترة إلى المجلس ثم يوزع جدول الأعمال بفترة زمنية. قال الملك لرئيس البرلمان: يعني قديش بدها؟ قلت: سيدي بدها أسبوعين".

داخل البرلمان، استشعر النوّاب خلال الجلسات المخصصّة لمناقشة مشروع قانون تصديق معاهدة السلام في 30 أكتوبر/ تشرين الأوّل 1994، أنَّ هناك استعجالاً، ونقصاً في المواد المعروضة عليهم، ومن بينها الملاحق. طالب بعض النوّاب بتزويدهم بملاحق المعاهدة التي تحتوي على نظام الباقورة والغمر، قائلين إنها "تستدعي أن تُعرض عرضاً لائقاً"، أو معترضين على عرض "نصوص بالإنكليزية تختلف عن العربيّة"، أو مفيدين بنقص في المعروض عليهم، يقول أحدهم: "ما يُسمّى بالذيول لا أعرف ما هو، لم نتسلّمه حتى ننظر فيه"3.

أُحيل قانون المعاهدة إلى لجنة مختصّة4 مكوّنة من عدّد محدود من أعضاء مجلس النواب، والتي يبدو أنَّها اطلعت على الملاحق. تناقشت اللجنة بحضور الحكومة وخبراء مياه ومهندسين وأعضاء في فريق المفاوضات مع دولة الاحتلال، واستطاعت الحكومة وبعض المفاوضين إقناع اللجنة بمشروع قانون المعاهدة.

مع ذلك، وفيما يتعلّق بالباقورة، أوصت لجنة النواب "الحكومة باتخاذ كلّ الإجراءات المُمكنة من أجل استملاك الأرض وإنهاء الترتيبات الاستثماريّة المُتاحة للأفراد الإسرائيليين فيها، أو السعي وبالسرعة الفائقة لتفعيل البند رقم (5) من المُلحق (1) والذي ينصّ على إقامة مشروع مشترك في المنطقة"5.

وافقت الحكومة على مقترح اللجنة النيابيّة المختصّة بشأن الباقورة، ومع ذلك فإنّه لم يُطبق، بمعنى لم يتم العمل على استملاك الأرض واستعادتها. ولا شكّ أنه كانت هناك بدائل أخرى، لم يؤخذ بها، بسبب الاستعجال.

وباعتراف أحد أفراد طاقم المفاوضات حينها: عون الخصاونة أمام المجلس: "لا يوجد في المفاوضات الثنائيّة صيغة تحكيم، وحتّى لو وُجدت فإنَّ ذلك كان سيأخذ وقتاً طويلاً كما حدث في "اتفاقيّة طابا"، وحتّى لو كانت نتائج التحكيم لصالحنا وهو أمرٌ كان مُتوقعاً إلّا أنَّه لا يوجد آلية لتنفيذ التحكيم"6.

هكذا، جرى الاتفاق بين الأردنّ و"إسرائيل" على معاهدة السلام، وذهبت الباقورة في التفاصيل الصغيرة التي كان يُمكن أن يكون لها مصيرٌ آخرٌ لو تثبَّت طاقم المفاوضات من حقيقة وجود أملاكٍ إسرائيليّة بالفعل؛ الحجّة المعلنة التي وضعت فيها الباقورة في نظام خاصٍ بالمعاهدة.

أما أراضي الغمر، فلم يكن هناك "حجج" واضحة تُقدّم كتبريرات للتوقيع على تأجيرها لمدة 25 عاماً، سوى أنَّ المفاوض الإسرائيليّ تعنّت لعدم التخلي عنها. ربّما خضع الأمر لمبدأ الربح والخسارة، وهو ما قاله المجالي قبل أيام  على إحدى الفضائيّات الأردنيّة ما نصّه: "المبدأ الأساسيّ عندما تذهب لمفاوضات السلام مع طرف آخر ما بجوز تروح وتقول أنا بدي أنتصر والآخر يخسر، يجب أن يكون لدى الطرفين أرباح مادية، ومعنوية، يجب أن تأخذ وتعطي".

في مقابل "ميزان الربح والخسارة"، أبدى المفاوض الإسرائيليّ تعنتاً كبيراً بشأن تلك الأراضي. تقول إحدى أبرز وجوه المعارضة في تلك الفترة والنائب في المجلس الذي صوّت على قانون المعاهدة توجان فيصل: "سألنا رئيس الوزراء، كيف جرى التنازل عنهما [الباقورة والغمر]، فأجاب: "لأنهما مواقع استراتيجيّة [لإسرائيل]".

كيف يجري إلغاء الاتفاق؟

بحسب ملحق الباقورة والغمر في معاهدة وادي عربة، فإنّ مدّة "الوضع الخاصّ" فيها هي 25 عاماً، وفي حال رغب أحد الطرفين إنهاء العمل به، فعليه إخطار الطرف الآخر قبل سنة من انتهائه. لاحقاً، وبحسب الملحق، يدخل الطرفان في مشاورات حيالها. إذن لا يقتصر الأمر على الإخطار إنما هو الخطوة الأولى، ومن ثم تأتي المفاوضات حول هذه المناطق.

بإعلان الملك الأردني يوم أمس، تجاوز الأردن المرحلة الأولى، وتبقى أمامه المرحلة الثانية الموسومة بـ"المفاوضات"، وكان ذلك فحوى ردّ بينيامين نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال، إذ قال: "سنجري مفاوضات مع الأردن حول تلك الأراضي".

أنجز الأردنّ إذن الخطوة الأولى للمطالبة بأراضي الباقورة والغمر، كمقدمة للدخول في مفاوضات بشأنهما مع دولة الاحتلال، بعدما أمضى ربع قرن يرى فيه الأردنيون أرضاً لهم دون أن يتمكنوا من دخولها أو استثمارها. وسيسمح لهم وجود بندٍ في المعاهدة لحسن الحظّ إعادة التفاوض عليها.

لكن ستظلّ أرضٌ أردنيّةٌ أخرى مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وليس لها بندٌ في المعاهدة يسمح بإعادة التفاوض عليها، وهي أرضٌ في العقبة، احتلّتها "إسرائيل" عام 1949 وأقامت عليها ميناء "إيلات".

رغم أن الإنجاز الذي حصل هو خطوة أولى نحو استعادة الأراضي الأردنية، تبقى تجربة الحراك لاستعادة الأراضي الأردنيّة، وما صاحبه من مظاهرات وفعاليات وجهد إعلاميّ وبحثي رصين، مساحة للتفاؤل بجدوى العمل السياسي والصحافيّ وقدرته على دفع القضايا المنسية إلى ساحة النقاش، وإثارتها حتى لا تغيب.

  1. حبر، نقلاً عن كتاب العلاقات الأردنية-الإسرائيلية في ظل معاهدة السلام/ بيسان للنشر والتوزيع، 1999، ص 86-84.
  2. بحسب الدستور الأردنيّ، بعد تصويت النوّاب على مشروع القرار بالموافقة، يُرفع إلى مجلس الأعيان المعيّن من قبل الملك لإقراره ثم يوقّع الملك على القانون، ويصير نافذاً حين يُنشر في الجريدة الرسميّة.
  3. من مداخلات النواب محمد داودية وبسام البطوش في جلسة النواب يوم 30/10/1994 المخصصة في جزءٍ منها لمناقشة مشروع قانون المعاهدة.
  4. ينصّ القانون: يُمكن لمجلس النوّاب أن يُحيل أي مشروع قانون إلى اللجنة المختصّة داخل البرلمان، وتكون مكونة من نوّاب لتبدي رأيها. ولأن المعاهدة شأن بين دولة وأخرى، كانت اللجنة التي اجتمعت بالحكومة هي لجنة الخارجيّة. ينتخب المجلس لجانه في بداية الدورة البرلمانية، أي أن اللجنة نيابية.
  5. الصفحة 17 من محضر جلسة مجلس النواب يوم 5/11/1994.
  6. الصفحة  48 من محضر اجتماع جلسة مجلس النوّاب يوم 5/11/1944 التي جرى فيها مناقشة مشروع قانون معاهدة السلام.