11 سبتمبر 2019

القائمة المشتركة

هل نمنح القوّة لنهجٍ هدّام؟

هل نمنح القوّة لنهجٍ هدّام؟

لا يُصَوّت معظمُ الناس انطلاقاً من قناعةٍ تامّةٍ بدعم مرشّحهم. إنّما يختارون التصويت للمرشّح "الأقل شرّاً" في بعض الأحيان، أو الإدلاء بصوتٍ "استراتيجيٍّ" لمُرَشّحٍ قادر فعلاً على تحقيق انتصارٍ سياسيٍّ. يصوّت النّاس لأجل "ابن بلدهم"، أو لأنّ زوجة عمّهم تنشط في حزبٍ ما، أو لأنّ جارهم مقاول أصواتٍ. ويصوّت النّاس لأنّهم يرون بأن عدم التصويت معناه أن تكون "لا شيء". 

انطلاقاً من هذا كلّه، وعلاوةً عليه، نصل جميعاً إلى حالة إذعانٍ؛ نمتَـثِـل ونخضع للضغوطات التي تُمارس علينا لنخرج في يوم الانتخابات ونُدلي بأصواتنا؛ أيّ ببساطة: نُطيع. نُطيع إعلاناتٍ رغم أنّنا نعرف أنّ من ظهر فيها ومن صوّرها ومن وزّعها، جميعاً، تقاضوا أجوراً. نُطيع شخصيّاتٍ نحن نعرف أتم معرفةٍ بأن مصلحتَها الضيّقة، الشخصيّة والحزبيّة، تتفوّق على كلّ شيء. رأيناهم قبل أسابيع قليلة، وبالصوت والصورة، يشتمون بعضهم نزاعاً على المقاعد، ويكيدون مؤامرات لتخييط الميزانيّات لأحزابهم.

ومع هذا، وفي يوم الانتخابات القريبة للـ"كنيست"، سنُشاهد فيديوهات المرشّحين بحركة جسدٍ تبثّ توتّراً، ونسمع أصواتاً تتهدّج مناشدةً، ثم نسمع أصواتاً تستصرخ رعباً؛ تستحضر هدمَ البيوت والقوانين الفاشيّة، وتُعدِّد أسماءَ الإصدارات القديمة والجديدة لشخصيّة الغول المتوحّش (كاهانا، ليبرمان، سموتريتش الخ...). ثمّ سيرنّ الهاتف برسالةٍ مسجّلة، ثمّ رسالة نصيّة، ثم يتصل الوالد أو الخالة أو الجّد ليتأكّدوا من أنّك لا زلت تحبّهم وتعبّر عن حبّك لهم في صندوق الانتخابات، ثم تمرّ السيّارة، بمكبّرات الصوت، من تحت النافذة، وتؤكّد أن عدم خروجك للتصويت هو بالحقيقة تصويتٌ للصهاينة. 

في تلك اللحظة، وهي تتزامن عادةً مع المغيب الرومانسيّ للشمس، نضع جانباً كلّ الأمور التي لا تعود هامةً: معرفتَـنا بأننا نأكل ذات الأكاذيب مرةً كلّ أربعة أعوام على معدةٍ فارغةٍ، إيمانَـنا العميق بأن ظروف شعبنا تحتاج تغييراً جذريّاً بأدواتٍ جديّة، ثقتَـنا التامّة بأن المؤسسة الإسرائيليّة لا يُمكنها، بأيّ شكلٍ من الأشكال، أن توفّر أدواتٍ لنهضة مجتمعنا، وأموراً أخرى كثيرة لا تعود مهمّة حين يُطلب منّا أن نُطيع، ثم "نحكي بعد الانتخابات".

هكذا نُعيد، مرةً تلو الأخرى، منح الثقة والقوّة لمن فشلوا، مرةً تلو الأخرى، في أن يقودوا النّاس نحو حياةٍ أفضل. فشلوا في أن يخلقوا أطراً اجتماعيّةً تكافليّةً خارجةً عن السّلطة الإسرائيليّة العنيفة والمؤذية، أُطراً تحتوي وتدعم وتُنقذ ما يمكن إنقاذه في مجتمعٍ يطحنه الفقر والاكتظاظ السكانيّ وضعف التعليم، ولهذا السبب فشلوا أيضاً في وقف العنف والتعصّب والذكوريّة. فشلوا في أن ينظّموا الناس في العمل السياسيّ الاحتجاجيّ الذي يستطيع الضغط على الحياة المدنيّة في "إسرائيل" وحتّى تعطيلها من أجل منع سنّ قانونٍ عنصريّ أو منع هدم قريةٍ كاملةٍ وتهجير أهلها. فشلوا في تبنّي ورفع راية مقاطعة "إسرائيل" للضغط عليها دوليّاً.

فشلوا في كلّ ذلك وأكثر. لكنّ فشلهم الأساسيّ، والذي يلخّص كل هذا، يكمن في نقطةٍ واحدةٍ؛ هذه القيادة السّياسيّة فشلت في أن تجعل المجتمع الفلسطينيّ في الداخل فاعلاً سياسيّاً قادراً على حماية نفسه بنفسه، بواسطة التضامن الاجتماعيّ أولاً، والاحتجاج السياسيّ ضد "إسرائيل" ثانياً. 

راهنت هذه القيادة، بكل ما تملك، على مؤسسات "إسرائيل" الرسميّة وغير الرسميّة؛ حين يصدر أمر هدمٍ بحقِّ بيتٍ يُبرِقون إلى وزير الداخليّة، وعندما تُقتل امرأةٍ يطالبون الوزارة بميزانيّة للملاجئ، وحين يُسنّ قانون عنصريّ يهرعون إلى المحكمة العليا بسيّارة الإسعاف التابعة لمركز "عدالة". ثم يجنّدون باقةً من الإسرائيليين الأشكناز لتلاوة "وثيقة الاستقلال" في ساحة رابين لعلّها تطرد جنّ "اليمين" عنّا وتُعيد "إسرائيل" الديمقراطيّة الجميلة كمان كانت في خمسينيّات كفر قاسم، أو ستينيّات الحكم العسكريّ، أو سبعينيّات يوم الأرض، أو ثمانينيّات صبرا وشاتيلا، أو تسعينيّات أوسلو التي لا زلنا نتنزّه في بساتينها. وعندما تقع جريمةٌ في بلدةٍ جليليّة، يطالبون بالمزيد والمزيد مما يحتاجه الإنسانُ الفلسطينيّ ويشتاق إليه... "شرطة إسرائيل".

إقرأ أيضاً: "التجمع".. المرحلة انتهت

نعيش واقعاً مركباً، هذا صحيح. يُفرَض علينا حكم "إسرائيل" ونحتاج التعامل مع سلطتها، نعم. حقوق النّاس وهمومهم اليوميّة يجب أن تكون أولويّة، لا ذرّة شكٍ في ذلك. لكنّ القيادة السياسيّة أخذت هذا الاضطرار المعيشيّ وحوّلته من قضيّة يجب التعامل معها بتفهّمٍ ووعيّ وحساسيّة، إلى قدرٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ ترتمي فيه، فتروّج في كلّ مكانٍ للاندماج في المؤسسة الإسرائيليّة "والتأثير في كلّ مكان". هذه قيادة سياسيّة تضع كلّ بيضاتها في سلّة المؤسسات الإسرائيليّة التي أثبتت وتُثبت وستُثبت أنّها سلّة مثقوب قاعها، وفي الوقت ذاته، تحرق هذه القيادة السياسيّة كلّ قشّةٍ أخرى يُمكن أن تُنسج منها سلّة خارجة عن السّلطة الإسرائيليّة.

إنّ الإشكاليّة المركزيّة مع "القائمة المشتركة" ليست مشكلة موقف سياسيّ، إنما مشكلة في فهم ماهيّة السياسية. تُلخص هذه المشكلةَ جُملةٌ واحدةٌ استخدمها رئيسُ القائمة المشتركة، أيمن عودة، أكثر من مرّة تعليقاً منه على مظاهرات نظّمتها حركاتٌ شبابيّة، وانتهت بمواجهةٍ مع الأمن الإسرائيليّ. في تلك المناسبات، اعترض عودة على هذه الصدامات قائلاً: "نحن قيادة تحمي الناس ولا تحتمي بالناس". عمليّاً، تتعامل القائمة المشتركة مع ذاتها على أنّها "راعي" الفلسطينيّين في الداخل، أو أنّها "الأبّ" الذي يحميهم. والكلمة اللاتينيّة التي تجمع الأبّ والراعي معاّ هي "Patron"، وبعلوم السّياسة، حيثما وُجد البطرون وُجد الزبون. 

القائمة المشتركة تفهم السّياسة على أنّ فئة من النّاس تُدلي بأصواتها مرةً كل أربع سنوات، أو أقلّ، وتنتخب بعض الأفراد الذين يتقاضون أجراّ وصلاحيّات ليحموا مصالح تلك الفئة. أيّ أن الناس زبائن يدفعون بأصواتهم اشتراكاً سنويّاً لحماية مصالحهم. نحن نعطي القائمة المشتركة أصواتنا، والقائمة المشتركة تأخذ هذا الرصيد وتفاوض أمام حزبٍ صهيونيٍّ كبيرٍ نيابةً عنّا على ما يمكن أن "تشتريه" بأصواتنا من مصالح و"حقوق". والحزب الصهيونيّ الكبير "يبيعنا" حقوقاً مقابل دعمنا لحكومته. في هذا المنطق السلطويّ ما لا يُمكن حصره من الإشكاليّات الأخلاقيّة والسياسيّة، والحقوقيّة والديمقراطيّة. 

لكن حتى إن رُحنا إلى تبنّي هذا المنطق، فإننا أمام تجارةٍ خاسرةٍ؛ فنحن ندفع أصواتنا لوكيلٍ "يحتكر السّوق" لأنّه الحزب "العربيّ" الوحيد، وفوق هذا فإنّ هذا الوكيل الوضيع لا يستطيع أن يساوم على "البضاعة" لأنّه يُعلن مسبقاً أنه سيُتاجر مع حزب "اليسار"، وبالتالي فإن خياراته معدومة. إنّهم يمثّلون مصالحنا فعلاً، لكنّهم يقبضون العمولة؛ نفوذاً ومالاً يُدر عليهم وعلى أحزابهم ودوائرهم الاجتماعيّة، ومثلهم مثل أي وكيل تجاريّ محدود المهارات، لا يريدون لنا أن نأخذ الحقّ بأيدينا.

وبالعودة إلى كلام عودة، فليس شغل القائد السياسيّ أن يحمي الناس ولا أن يحتمي بهم. شغله أن يعمل على تنظيمهم وتجذير وعيهم لحقوقهم السياسيّة. شغله أن يخلق تضامناً بينهم، وأن يحفّز استعدادهم للتحرّك ولفرض الواقع الذي يرونه. شغل القائد السياسيّ أن يتفهّم خوف الناس دون أن يتقبّله، وأن يفهم اضطرار النّاس المعيشيّ دون أن يدعوهم لمطاوعته. شغل القائد السياسيّ أن يقول للناس أنّ اجتماعهم وحركتهم ومقاومتهم للظلم أقوى من البرلمانات، وأقوى من المحاكم، وأقوى من التعتيم الإعلاميّ. شغل القائد السياسيّ أن يحوّل الناس متراساً من لحمٍ ودمٍ، مغروساً ومنتصباً في الشوارع التي نُحب، يحمي البيت والأحلام. وظيفة القائد السياسيّ أن يعرّف الناس على النضال، لا على التصويت. وظيفته التأكّد من أن يحمي النّاس أنفسهم - لا أن يحميهم ولا أن يحتمي بهم.

على ماذا تراهن القائمة المشتركة؟ على أنّ الفلسطينيّ لا يمتلك بديلاً عن التصويت لهم. أن لا حول لنا ولا قوّة. أننا حتّى لو غضبنا، وحتّى لو عارضنا، وحتّى لو اختلفنا، وحتّى لو كانت لنا آراء وطموحات وأفكار ورؤى، فليس أمامنا في يوم الانتخابات إلا أن نعطيهم الثقة والقوّة. يراهنون على أن نكون "أولاداً شاطرين". أن نمتثل ونطيع ونضع الصّوت في الصّندوق، وأن نضع آراءنا... أينما شئنا. 

إنّهم يراهنون على طيبة وبساطة النّاس. وبكلمات أخرى: على استعداد الناس للامتثال للسلطة في ساعة الحسم. هذا نموذج ونهج لا يُحرِّر الإنسان ولا يبني المجتمعات، ولا يرفع رأساً ولا يمدّ البيوت بخطوط المياه ولا يحقق أمنيةً. هو نهج يحكي للناس أنّ التصويت أفضل من "اللا-شيء"، لأنه يقنعهم بأنّهم "لا شيء" وألّا قدرة ولا قوّة ولا طاقة لهم، إلا بصوتٍ في يوم الانتخابات. هذا هو نهج القائمة المشتركة. في يوم الانتخابات يُقرر الإنسان الفلسطينيّ في الداخل إما أن يُعطي القوّة لهذا النهج الهدّام، أو أن يرفض التصويتَ ويُعاقب هذا النموذج السياسيّ الذي لا يراكم إلا الضّرر. 

هذا السؤال الوحيد الحقيقيّ في هذه الانتخابات. أما باقي الحديث عن التأثير باختيار رئيس الحكومة، حكومة اليمين وحكومة اليسار وإسقاط نتنياهو، إلخ إلخ إلخ.. فإنّ أفضل ما سنجنيه (لو تحققت أزهى وأجمل أحلام القائمة المشتركة) هو أن نُنصّب مجرمَ الحرب المسؤول عن قتل 2104 إنسان، من بينهم 495 طفلاً و253 امرأة، بيني جانتس، رئيساً لحكومة "اليسار".