1 فبراير 2019

"التجمع"

المرحلة انتهت

المرحلة انتهت

ملحوظة شخصيّة أولاً، تُكتب هذه السّطور بقدرٍ غير بسيط من العاطفة. قضيتُ في حزب "التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ"1حزب فلسطيني تأسس عام 1995 داخل أراضي 1948. تألّف الحزب من تجمّعٍ لحركات وشخصيّات وطنيّة وخاض انتخابات الـ"كنيست" عام 1996 بقيادة عزمي بشارة. سنواتٍ تشكّل فيها ما أؤمن وأفكر به سياسيّاً واجتماعيّاً. هناك واجب أخلاقيّ للاعتراف علناً بفضل الناس فيه عليّ، من رفاق وقيادات، ثقافياً وتنظيمياً. ولكنّ هذا الواجب هو ذاته ما يجعل هذه السّطور مسؤوليّةً وضرورةً شخصيّةً وعامّةً، حتّى وإن أثارت استنفاراً وتأهباً أو تجاهلاً منهجيّاً بين من لا يزالون في صفوف الحزب. مسؤوليّتنا أن ننبش جذور الأزمة التي يعيشها العمل الفلسطينيّ في الأراضي المحتلّة عام 1948. ويقتضي هذا أن نواجه أنفسنا ونواجه أولئك الأقرب إلى رؤيتنا السياسيّة أولاً. مسؤوليّتنا أن نتمسّك بجرأة ثوريّة وتقدّميّة، أن نرفض المحافظة المؤسساتيّة، وتقديس التنظيم، والتمسّك بالقديم.

وعليه، ثمّة ما يجب أن يُقال دون مواربة: مشروع "التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ" وصل حدّ نهايته. ما تأسّس ليكون حركةً وطنيّةً في الداخل، ومشروعاً لبناء المؤسسات الوطنيّة والتنظيم الجمعيّ للفلسطينيين في الداخل، فشل وتحوّل إلى حزبٍ انتخابيٍّ خالصٍ -  إلى تنظيمٍ يُسلِّمُ مفاتيح العمل النضاليّ إلى قواعد السّياسة الإسرائيليّة وخارطتها الانتخابيّة.

عند تأسيس التجمّع، اتُخذ قرار خوض انتخابات الـ"كنيست" باعتبارها وسيلةً تكتيكيّةً لا بدّ منها لأجل هدفٍ أكبر؛ من أجل بناء تنظيم سياسيّ وبناء مؤسسات وطنيّة تشكّل مشروعاً اعتراضيّاً يتناقض مع النظام الصهيونيّ. لكنّ الصورة تغيّرت بالكامل. لم تعد الـ"كنيست" وسيلةً، بل صارت عاملاً جوهريّاً في تكوين هذا الحزب، المحرّك الأساسيّ لكافة ديناميكيّاته وموارده، من خلالها يتقرّر من تكون قيادته الجماهيريّة. الـ"كنيست" (وما تجرّه من إعلام إسرائيليّ) هي منبر الحزب الوحيد لمخاطبة شعبه، ويُحاسِبُ الناسُ الحزبَ على أدائه هناك. القسمُ الأكبر من نواة القيادة الشبابيّة الواعدة للحزب تتبلور تجربتُها السياسيّة بوظيفة المساعد البرلمانيّ لأعضاء الـ"كنيست". أما المنصب القياديّ الأعلى في الحزب، منصب الأمين العام، فقد صار مؤخراً سلماً للوصول إلى مقعدٍ في البرلمان الإسرائيليّ.2الأمين العام للحزب، مطانس شحادة، انتُخب لمنصبه قبل عامين، وهو الآن ينافس (وهو لا يزال في منصبه) على الترشّح لانتخابات الـ"كنيست". 

مرحلة جديدة، رؤية قديمة

الحزب الذي تأسس على شعار "مرحلة جديدة، رؤية جديدة"، تجمّدت رؤيتُه في الزمن. تراكمت المراحل السياسيّة الجديدة بتسارع مرعبٍ، عالمياً وعربيّاً وفلسطينيّاً، والأهم، تغيّر النظام الصهيونيّ ومجتمعه بشكلٍ جذريٍّ عمّا كان عليه في التسعينيّات. منذ ذلك الوقت، تفتت حلم بن غوريون بصهر الهويّات الثقافيّة لليهود بهويّةٍ إسرائيليّةٍ واحدةٍ، وتفشّت سياسةُ الهويّات بعلاقةٍ طرديّةٍ مع تحرير السّوق الإسرائيليّ. لم تعد الهويّات الثقافيّة "الأخرى" تُهدِدُ هيمنةَ النظام السياسيّة والاقتصاديّة كما كانت في السابق، ولم يعد التمسّك "بالهويّة القوميّة" فعلاً مناقضاً للنظام بشكلٍ أوتوماتيكيّ. مناورة "المواطنة" التي قادها التجمّع أدخلت الحركةَ الوطنيّة في ورطةٍ غير محسوبة، صحيحٌ أنّها عزّزت الهويّة الوطنيّة بين الناس في مرحلة ما، لكنّها في الوقت ذاته خلقت تصوّراً يفترض إمكانيّة جسر الهوة بين الهويّة الثقافيّة والمواطنة الإسرائيليّة. "دولة جميع مواطنيها"، وإن اعترضت خطابياً مع يهوديّة الدولة، إلا أنّها بالمدى البعيد كرّست المواطنة الإسرائيليّة كسياقٍ للفعل السياسيّ وتخيّل الفلسطينيين في الداخل لدورهم النضاليّ ومستقبلهم. هذا التصوّر، أو بكلمات أيمن عودة "مئة بالمئة مواطنين، مئة بالمئة هويّة فلسطينيّة"، هو الأساس في مشاريع "دمج" الفلسطينيين في المجتمع الإسرائيلي اليوم، وهي مشاريع يتحالف معها التجمّع ضمن القائمة المشتركة.

وهناك ما هو أنكى من عدم تجديد الرؤية السياسيّة، إذ أنّ فشل التجمّع في تجديدها دَفَعَهُ نحو مصير كل التنظيمات السياسيّة الفلسطينيّة، نحو المحافظة المقيتة والتمسّك والدفاع عن الرؤى القديمة، والمفاخرة بأن تكون "ثابتاً"، دون أن يُحاسب هذا الثبات في سياق الحال المتغيّر. هذا ليس كارثةً على مستوى الفكر السياسيّ فحسب، لكنّه كارثةٌ على المستوى التربويّ والتثقيفيّ، وهو الأساس في خلق مستقبل جيل عُصابيّ وشعاراتيّ وغير نقديّ.

بات التجمّع اليوم يرفع شعار "البوصلة الثابتة". الحزب الذي قام وتميّز بجرأته على تجديد الخطاب السياسيّ وجذب فئات شبابيّة واسعة، بات يفاخر الآن بالمحافظة و"الثبات" على رؤيته السياسيّة ويحوّلها من "رؤية" إلى "بوصلة"، من اصطلاح فكريّ إلى اصطلاح أخلاقيّ. وعندما يرفع الحزب شعار "حزب يتجدد وبوصلة ثابتة"، فلا بد أن نسأل: ما الذي يتجدد في الحزب إذن؟ الإجابة: الأشخاص المتنافسون على المقاعد البرلمانيّة.

عن تعويذة "بناء المؤسسات"

خلال أكثر من عشرين عاماً لم يستطع حزب التجمّع أن يقيم مؤسسة فلسطينيّة في الأراضي المحتلة عام 1948، لا مؤسسة حزبيّة ولا مؤسسة عامّة. كما فشل التجمّع في أن يحافظ على جريدة تنطق بلسانه، إذ أُغلِقَت صحيفة فصل المقال، أما موقع الإنترنت الذي ارتبط بالحزب ("عرب 48") فقد تمّت خصخصته رسمياً ثم فعلياً، ولم يعد للحزب أية سلطة عليه. عمليّاً، لم يعد للتجمّع أيُّ منبر إعلاميّ رسميّ ينطق بلسانه غير صفحته في الـ"فيسبوك"، وهو ما لا تقبله على نفسها أي جمعيّة مهما كانت صغيرة.

الأهم أن التجمّع لم ينجح أن يؤسس ذاته كحركةٍ نضاليّةٍ بمعزل عن وجوده في الـ"كنيست"، إذ أنّ معظم التمويل الرسميّ الذي يحصل عليه الحزب هو تمويل إسرائيليّ رسميّ، 3تحصل الأحزاب الممثلة في الـ"كنيست" على ميزانيّة ثابتة بحسب عدد المقاعد التي حصلت عليها، إضافةً لتمويل الحملة الانتخابيّة بحسب ذات المعيار.

ولا يملك الحزب السياسيّ أيّة أداة استقرار واستقلال ماديّ بمعزل عن الـ"كنيست". إضافةً لذلك، لا يُمكننا تجاهل التمويل الخارجيّ الذي وصل إلى الحزب وأدير بشكلٍ عديم المسؤوليّة، والذي أنزل بالحزب الضربة القاسمة، وهي فقدان ثقة المجتمع والمسّ بأمانة التنظيم وقياداته على المستوى المحليّ والمركزيّ.

الكارثة فوق هذا كلّه أن هذه الموارد لم تُستخدم لتأمين مستقبل الحزب، فلم تُستخدم لشراء مقرٍ يمتلكه الحزب، أو لشراء أيّة ممتلكات تمكّنه من الصمود في حال انقطع التمويل الإسرائيليّ أو غيره. لم تُستخدم هذه الموارد في تطوير مقدرات تنظيميّة ولا في تخطيط بعيد الأمد، وإنما استُخدم سوادها الأعظم لهدف واحد ووحيد: تحقيق فوز في انتخابات الـ"كنيست".

هذا على صعيد المؤسسات الحزبيّة، فماذا عن المؤسسات العامّة؟ المؤسسات التي يُفترض أن تشكّل بديلاً مُستقلاً عن المؤسسات الإسرائيليّة، والتي من شأنها أن تربط الحركة الوطنيّة بقاعدتها الاجتماعيّة، وتساهم في تمكين المجتمع وتعزيزه وسدّ جزء من حاجاته اليوميّة، والنضال مع الناس في قضاياها الصغيرة، المحليّة أو النقابيّة، ومنحها الأدوات لترجمة مشكلاتها اليوميّة لقضايا سياسيّة. طوال أكثر من 20 عاماً، هل بادر التجمّع لإقامة مشروع اقتصاديّ اجتماعيّ؟ مؤسسة وإن كانت بسيطة تعمل في مجال الرفاه الاجتماعيّ؟ التعليم؟ الصحّة؟ البحث؟ للأسف، لم يحصل هذا، وتم تسخيف مفهوم "قضايا الناس اليوميّة" لتتحوّل إلى قضايا عمل برلمانيّ ومحاولات لكسب الخدمات من خلال القنوات الحكوميّة. هذا ليس برنامجاً نضالياً.

حتى وإنّ تجاهلنا مسألة المؤسسات الاجتماعيّة للحركة الوطنيّة، وتطرّقنا لمؤسسات تعمل في الحقل السياسيّ البحت، فهل أسس التجمّع مؤسسة أو حتى منظومة عمل تواجه الملاحقة والاعتقال السياسيّ، وتؤمّن حماية قانونيّة للمعتقلين؟ هل خلق التجمّع إطاراً يعمل في مجال المناصرة الدوليّة؟ والأسئلة كثيرة وكثيرة وكثيرة والإجابة واحدة.

شلل سياسيّ

من الممكن كتابة مئات الصفحات عمّا أوصل التجمّعَ إلى هذه الوضعيّة التنظيميّة والسياسيّة. لكنّ الأهم من ذلك هو الوضع الذي وصل إليه الحزب اليوم. الحقيقة أن صندوق أدوات العمل السياسيّ للتجمّع ليس فيه إلا طبقات من الغبار (ورماد عشرات آلاف السجائر التي انطفأت في المقرّات). لم يستطع الحزب خلال السنوات الأخيرة أن ينتج حركة اجتماعيّة، وظل جهازه التنظيميّ ساكناً في كل المفاصل السياسيّة التي عاشها شعبنا. صحيح أن شابّات وشباب التجمّع كانوا في طليعة قيادة كل التحرّكات الجماهيريّة الهامّة، وصحيح أن القيادات السياسيّة تواجدت في الشارع ومع الناس، لكنّ هذا كلّه كان فعلاً شخصيّاً لا فعلاً حزبيّاً، فالتنظيم لم يكن هناك.

لم ينظّم التجمّع خلال السنوات الأخيرة مظاهرةً حاشدةً، ولم ينظّم مهرجاناً شعبيّاً في قضيّة سياسيّة لا تتعلّق بالانتخابات. لم تتحرّك كوادره الحزبيّة بشكلٍ منظّمٍ وجماعيّ لتشكّل حركة احتجاج. وعندما جاءت محطات مفصليّة لم ينشط فيها حراك مستقل، وخلت الساحة من الاجتهاد النضاليّ، لم ينتهز التجمّع أية فرصة ليشكل صوتاً احتجاجيّاً ونضاليّاً بديلاً. مثلاً، ساعة الحدث الأكثر مركزيّةً وارتباطاً في صلب وماهيّة التجمّع ورؤيته -قانون القوميّة- أحجم التجمّع عن أي تحرّك احتجاجيّ يطرح من خلاله خطاباً وطنيّاً دقيقاً وصارماً. بل أكثر من ذلك أنه رضخ بشكل مهين وأجبرته قيادة مظاهرة تل أبيب على إنزال شعاراته التي تمثّل "بوصلته الثابتة". 4نظمت القائمة المشتركة و-"لجنة المتابعة العليا للجماهير العربيّة في إسرائيل" مظاهرة في تل أبيب احتجاجاً على "قانون القوميّة"، وقد نظّمت المظاهرة بالمشاركة مع قوى إسرائيليّة ومنها قوى صهيونيّة، وفُرضت اشتراطات كثيرة على شكل المظاهرة ومضمونها، من ضمنها تحديد شعارات عينيّة تتناقض جذرياً مع مواقف التجمّع. عشيّة المظاهرة حاولت مجموعة من الحزب أن تدعو لرفع شعارات تمثّل مبادئ الحزب وتناهض الصهيونيّة ويهوديّة الدولة، إلا أن قيادة الحزب أصدرت أمراً حال دون ذلك. هنا أيضاً نجد إثباتاً أن التجمّع لم يعد فيه شيء غير عمله البرلمانيّ. الخطوة الوحيدة التي تميّز فيها التجمّع كانت تعليق مشاركته في جلسات الـ"كنيست" احتجاجاً على قانون القوميّة.

لم يعد التجمّع قادراً على تحريك جهازه التنظيميّ لأسباب عديدة، ليست تنظيميّة فحسب. إذ أن ربط وجود الحزب بوجوده في الـ"كنيست" حَوَّل مسألة "شطب التجمّع"5عشيّة الانتخابات البرلمانية في "إسرائيل" تنعقد "لجنة الانتخابات" في الـ"كنيست" وتصوّت على منع ترشح قائمة أو مرشّح معيّن، وهي عملية تُسمى "الشطب". بعد هذا التصويت تنتقل الأحزاب تلقائياً إلى المحكمة العليا التي تقول حكمها النهائي في منع الترشّح أو السماح به. منذ بدايات العام 2000، تم شطب التجمّع بشكلٍ دائم من قبل "لجنة الانتخابات"، وقلبت المحكمة العليا هذا القرار سامحةً للتجمّع بخوض الانتخابات. إلى سكّينٍ دائمٍة فوق عنقه، تُشكّل قيداً دائماً على قدرة التجمّع على تطوير خطابه وتصعيده في مواجهة التغيّرات السياسيّة. هذا علاوةً على تنازلات وتخوّفات سياسيّة كثيرة تجبر الحزب على مناورات قضائيّة وخطابيّة في المحكمة العليا. وفوق هذا كلّه، جاءت القضايا الماليّة التي لا تزال صخرة فوق رأس التجمّع، يستطيع جهاز الأمن الإسرائيليّ أن يُنزلها على رأس التنظيم ساعة يشاء.

مجموع هذه العوامل، وغيرها الكثير، سدّت أمام التجمّع خيار مقاطعة الـ"كنيست" حتّى لو شاء المؤتمر العام ذلك. الادعاءات التي رددّها التجمّع لتبرير دخوله إلى الـ"كنيست" يُمكن لها كلّها أن تُستخدم ضدّه لتفسير التصويت للقوائم العربيّة الأخرى في حال تم منعه من خوض الانتخابات. فإن كان دخول الـ"كنيست" مرتبطاً بتنازلات واضطرارات، وإن كانت هناك غاية تبرر دخول الـ"كنيست"، وإن كان المهم هو إدخال صوت وطنيّ بدلاً من صوتٍ لأحزاب صهيونيّة، فبأيّ ادعاء يُمكن إقناع الناس بمقاطعة الـ"كنيست"، وكم يستطيع الرقص الخطابيّ أن يمسح من عقدين من الممارسة السياسيّة التي ارتبطت عضويّاً بالـ"كنيست"؟

كيف انتهت القصّة؟

كان رفعُ نسبة الحسم المسمار الأخير في نعش التجمّع، إذ لم يكن إنجازاً تاريخيّاً كما صوّره الحزب. إن الفائدة الوحيدة من خوض التجمّع لانتخابات الـ"كنيست" تكمن في أن المنافسة التي يطرحها الحزب تجر الجدل السياسيّ نحو سجال جذريّ مرتبط بالهويّة الوطنيّة والموقف من النظام الصهيونيّ، وهو طرح أرغم القوائم الأخرى على أن ترفع سقف خطابها الوطنيّ. عندما انتهت هذه المنافسة، وصارت الأحزاب تهمّش ما تختلف عليه وتضع في المركز ما تتفق عليه، ذهب الموقف الجذريّ من الدولة اليهوديّة في مهب الريح. وهكذا، لم تعد مواقف التجمّع القيميّة والجوهريّة أكثر من غطاءٍ للمصائب السياسيّة التي تقودها القائمة المشتركة.

وهكذا، وفي أوّل أيّامها، جلست قيادة القائمة المشتركة في ضيافة نتنياهو. ومن صورةٍ وديّة مع السفّاح، تدحرجنا نحو إنجاز القائمة المشتركة الأضخم: الخطّة الاقتصاديّة. إلا أن الانجاز العظيم ظهر سريعاً على حقيقته: من اشتراط بناء مراكز لشرطة الاحتلال في قرانا ومدننا، ومخططات تدفع نحو الخدمة المدنيّة، واشتراط هدم البيوت، والتقييدات على البناء، وغيرها الكثير مما يصب باتجاه أسرلة المجتمع وربط حقوقه بإخضاعه للتخطيط الاستراتيجي الإسرائيليّ.

فقد التجمّع ضمن القائمة المشتركة أي تميّز سياسي، واستمرّ في هذه الرحلة "يطيّر أرز الوحدة الوطنيّة" في الهواء، بينما هو يسير خلف قيادة أيمن عودة إلى ساحة رابين في تل أبيب، حيث أُجبر على إنزال كافّة شعاراته الجوهريّة، والإصغاء إلى مقتطفات من وثيقة الاستقلال.

لغة التجمّع الوطنيّة، وبقاؤه في هذا السياق، والوطنيّة الصادقة عند الكثيرين من أعضائه، لم تعد إلا غطاءً أخلاقياً للمسار الخطير الذي تقوده القائمة المشتركة. بوصلة التجمّع قد تشير إلى جهةٍ صحيحةٍ، لكنها بوصلة صغيرة تسافر في باخرةٍ يُصرُّ قبطانها على الإبحار بالاتجاه المعاكس.

كانت مظاهرة قانون القوميّة حدثاً رمزياً فحسب، أما سيرة تفتت التجمع كحركة وطنيّة هي سيرة طويلة جذورها أعمق بكثير، فيها من الأخطاء البريئة وفيها من الخطايا الخبيثة. فيها سذاجة وعجز وخوف طبيعيّ، وفيها تورّط بالفساد والرجعيّة وتحويل الحزب إلى مضمارٍ للانتهازيّة، وفيها من كان صادقاً وقاتل بالفعل لكنّه بقي في عداد الأقليّة، وفيها من تورّط بالخطيئة الكبرى: أن تصمت لأنّ مصلحة التنظيم هي الأولويّة.

أما الآن، فالتجمّع هو الحلقة الأضعف بين تيّارين محافظين يقودان الفلسطينيين في الداخل نحو مناطق سياسيّة خطيرة. تيّار تقوده الجبهة والحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ، وهذا طريقه واضح إلى حضن المواطنة الإسرائيليّة والانفصال عن المصير الموحّد للشعب الفلسطينيّ بالحفاظ على ميّزات فولكلوريّة فلسطينيّة، وتيّار آخر يصوغه أحمد الطيبي، قائم على الحمائليّة والضغائن والانتخابات المحليّة والنجوميّة الفارغة التي مصدرها الإعلام الإسرائيليّ.

والإعلام الإسرائيلي كمصدر للجماهيريّة بين الفلسطينيين، بالمناسبة، كارثة حقيقيّة. وقد حاول التجمّع أيضاً أن يلعب في هذا المضمار، واستأجر خدمات شركات علاقات عامة إسرائيليّة لهذا الغرض. ومع هذا، فباعتقادي أن جذر هذه السيرة يكمن في موضع أعمق: في أن هذا الحزب الذي نشأ على التجديد، يتمسّك الآن بنسخته القديمة المتآكلة ويبني جيلاً محافظاً سيدافع عن الحزب مهما كان.

نهايةً

نشأت في داخل التجمّع مجموعات تعمل بصدقٍ وبجهود هائلة لتأسيس نمط جديد من العمل السياسيّ، وقدّمت أداءً ملفتاً في سنوات محدّدة. لكنّ الجهاز التنظيميّ للحزب عمل على تحييدها ثم إفشالها وأدى إلى تحطيمها. هذه كلمة حقّ يجب أن تُقال. ولكن في الوقت نفسه فإن هذه التجربة، على إيجابيّاتها، أنتجت إشكاليّات أخرى. لأنّها خلقت واقعاً موازياً وأطر عمل إيجابيّة، لكنّها بالحقيقة هجرت الجهاز التنظيميّ الأساسيّ وتركته يتفشّى فيه الجمود أو الانتهازيّة. والأهم، أنّ تمسّك هذه الفئة بالحزب لا زال يكسبه غطاءً أخلاقياً ووطنياً رغم ما يقودنا إليه من مسارات سياسيّة خطيرة عبر وجوده ضمن الخارطة السياسيّة الإسرائيليّة.

لكنّ الحقيقة أن التجمّع لم يعد قابلاً للإصلاح. سنوات طويلة من النهج ذاته شكّلت بيئة حزبيّة غير قادرة على إنعاش ذاتها. هذا كلّه علاوةً على تورّطه في قضايا باتت تسهّل استهداف التنظيم من قبل الاحتلال، وزعزعت ثقة شعبنا فيه. لا يُمكن للحركة الوطنيّة أن تستمر إلا إذا اتخذت خطوة رديكاليّة نحو حل، ولو تدريجيّ، للتنظيم وإعادة صياغته على برنامج سياسيّ جديد لا يناور فكرياً بالتجاوب مع انشغالات الأكاديميا الإسرائيليّة، بل يبني مواقف قيميّة مركزها وحدة مصير الشعب الفلسطيني واعتبار المواطنة الإسرائيليّة اضطراراً وجب التحرّر منه. وأن يقوم التنظيم ليس على تقاليد العمل السياسي البائدة، بل على العمل الاجتماعيّ والأطر التنظيميّة الأصغر التي تتيح مرونةً وانفتاحاً وتلتزم بالحد الأدنى والأنجع من الهرميّة، لتلائم العصر الذي نعيشه، ولئلا تسهّل ملاحقة الحركة الوطنيّة وضربها. والأهم: أن تنفض عنها طبقات من الانتهازيين الذين يحلمون بدخول الـ"كنيست"، وتبحث عن بنات وأبناء شعبنا ممن يحلمون بأن تتحوّل الـ"كنيست" إلى مجرّد متحف يؤرّخ لجرائم الصهيونيّة.