في مطلع مايو/ أيّار الماضي، وفيما كانت أزمة تفشّي فيروس "كورونا" في فلسطين تدخل شهرها الثالث، أطلقت سلطة النقد برنامجَ إقراضٍ بقيمة 300 مليون دولار لدعم المشاريع الصغيرة وإنقاذها من الأضرار الاقتصاديّة التي خلّفتها الأزمة. في الوقت ذاته، كانت العديد من مبادرات التكافل الشعبيّة تُكافح من أجل الحصول على ما يكفي من التبرعات لتوفير طرودٍ غذائيّةٍ أساسية، لعائلات عمّال متوقفة أعمالهم، وأرامل وأيتام، وغيرها من الفئات المُتضررة. إحدى تلك الحملات الشبابيّة الناشطة في مدينة رام الله، باسم "النّاس لبعض"، اضطرت في منتصف مايو/ أيّار للإعلان عن وقف توزيع الطرود الغذائيّة بسبب قلّة التبرّعات، ووقوع الحملة في عجز بين رصيدها في المتاجر وحجم الاحتياج.
سلّطت جائحة "كورونا"، من بين أشياء أخرى كثيرة، الضوء على واقع تراجع فيه التكافلُ الشعبيّ مُقابل نموّ دور الخدمات الاجتماعيّة عبر مؤسسات خاصة قائمة على التمويل. غير أنّ هذا التحول ليس جديداً، ولا هو صدفة، إنّما كان نتيجة سياسات اقتصاديّة مُمنهجة نفّذتها السُلطة الفلسطينيّة على المُجتمع الفلسطينيّ خلال العقد ونصف العقد الفائتين. وهي سياسات أعلت من شأن السّوق، وأخفضتْ من قيمة التكافل الاجتماعيّ، وأضعفت بالتالي من قدرة المُجتمع على مواجهة الأزمات.
الانتفاضة الأولى: ذروة التكافل الاجتماعي
بنى المُجتمع المدنيّ الفلسطينيّ نفسه، ما بين احتلال 1967 وانتفاضة الحجارة 1987، على أسس وقيم التكافل الاجتماعيّ، وذلك قبل أن تأتي السُلطة الفلسطينيّة وتعمل على تفكيك هذه الأُسس، وكانت ذروة ذلك بعد انتهاء الانتفاضة الثانية وقدوم أبو مازن.
عن دور التكافل الاجتماعي في المُجتمع، يذكر جبريل محمد، أحد مُعاصري تلك الفترة، أنّ "الانتفاضة الأولى، ورغم عفويّة انطلاقها، ما كانت لتقوم وتستمر لولا أطر من التكافل الاجتماعي المبنيّة أصلاً". كانت بوادر تلك الأطر مستندة على ثقافة "العونة"، لكنّها بدأت تأخذ شكلاً مُنظماً مع بداية عقد السبعينيّات، فبدأت تتشكّل مجموعات تطوّع في مُدن كالقدس ورام الله.
توسّع العمل التطوعيّ خلال السبعينيّات وبدأ يجتذب فئاتٍ عمريّةً مختلفة، كما تبنّته جامعة "بيرزيت" كأحد متطلّبات التخرج. فمنذ "نهاية السبعينيات صار هناك مئات لجان التطوّع المحليّة تشمل كل الأعمار، وبدأت تُنفّذ مشاريع مثل تعبيد الطرق، وتركيب أعمدة الكهرباء، إضافة إلى الأعمال الزراعيّة والتعليم الشعبيّ"، يقول جبريل محمد. هذا الطابع التكافليّ الشعبيّ للعمل الاجتماعيّ استمر إلى ما بعد الانتفاضة الأولى، وشمل مجالاتٍ متنوعة، كالخدمات الطبيّة، والإقراض الزراعيّ، وحتّى مجال المساعدة القانونيّة لأسرى الانتفاضة.
تذكر سحر فرنسيس، مديرة مؤسسة الضمير لرعاية الأسرى وحقوق الإنسان، أنّه وفي بداية الانتفاضة الأولى "لم تكن هناك مؤسسات تهتم بقضية الأسرى، فكان الناس يُغطّون أُجرةَ المحامين والكفالة من جمع التبرعات أو "اللّمة" كما كانت تسمى". وبعد تأسيس "الضمير" في السنة الأخيرة للانتفاضة، لم يكن هناك تمويل لها فاعتمدت في السنوات الخمس الأولى من حياتها على التبرعات الشعبيّة من أصحاب المتاجر والمصانع، والكثير من الأفراد. وكانت المؤسسة في تلك الفترة تجمع كلّ صيفٍ تبرعاتٍ عينيّة، خاصّة من المواد الغذائيّة من كل مناطق الضفة وغزّة وتوزّعها على السجون. هذا بالإضافة إلى تبرّعات من الجاليات الفلسطينية في الخارج.
أحد الأسرى1فضّل الأسير عدم ذكر اسمه. يبلغ من العُمر ثمانية وثلاثين عاماً، يُحدّثنا عن تجربته مع الاعتقال والحاضنة الشعبيّة: "خلال جزء من طفولتي كان شقيقي الأكبر أسيراً، وكان والدي مريضاً، لكنّني لم أشعر أبداً بأنني وحدي. جميع الكبار في القرية كانوا يحمونني ويساعدونني كابنهم، حتى أنّ العداوات العائلية القديمة مع كثير من الناس قد اختفت". يبتسم ويضيف "كل ذلك جعلني لا أخاف تجربة الأسر، بل أنظر لها كفرصة لتطوير شخصيتي". دام اعتقاله الأوّل من عام 2001 حتى عام 2003. سنتان مرّت خلالهما عائلتُه بظروفٍ صعبة، لكن وسط مساعدة والتفاف من أهالي القرية. "أحد الأهالي كان يربّي النحل، فاقترح على والدي أن يدخل معه شريكاً في نحله، فيقاسمه العمل، ويقاسمه العائد الماليّ. كان من الواضح أنه يسعى لمساعدة والدي دون أن يُعرّضه للحرج، وكان والدي يفهم ذلك".
بعد الانتفاضة الثانيّة: الساحة خالية أمام "إصلاحات" السُلطة!
أمّا التحوّل الجذري على قيم العونة والتكافل، فقد بدأت تتضح معالمه مع السنوات التالية للانتفاضة الثانية. تصف سحر فرنسيس أحد معالم تلك الفترة، فتقول: "شهِدَتْ تبدلاً قوياً في الأولويات. لم يعد التكافل أو التطوع أو التبرع همّاً أساسياً للناس كما كان في الانتفاضة الاولى. أصبح همُّ الناس الرئيسي تأمين القوت اليوميّ لعائلاتهم، لأن الأحوال الاقتصاديّة والاجتماعيّة كانت صعبة للغاية نتيجة الضربة التي تلقتها البلد كلها في الاجتياح الإسرائيلي".
إقرأ/ي للمزيد: لجان الزّكاة.. فصلٌ من تدمير العمل المُجتمعيّ
كان قمع الاحتلال للانتفاضة الثانية من الشراسة أنه ألحق ضرراً بالبنية الاقتصاديّة للمجتمع الفلسطينيّ، وبقدرته على إصلاح هذا الضرر أيضاً. وباتت الظروف مهيأة بعيد الانتفاضة لتمرير أي برنامج تفتيت اقتصاديّ واجتماعيّ على الفلسطينيين، دون اعتراض. وكانت سلسلة التحولات السياسية التي تلت أحداث الانتفاضة كفيلة بوضع من يحمل هكذا برنامج أمام دفة القرار الفلسطيني.
كان عرّاب العمليّة الاقتصاديّة وقتها رئيس الوزراء سلام فيّاض، يعمل وفق رؤية قائمة على أنّ السّوق قادرٌ على أن يدير أيّ شيءٍ بكفاءة. بما فيه تقديم الخدمات لمجتمع تعرّض لتوّه لأكبر عمليّة قمع وتدمير منذ عقود، ورازح تحت الاحتلال دون أي سيطرة على موارده.
ارتكز برنامج سلام فياض، كأيّ نيوليبرالي يحترمُ نفسَه، على تحفيز الاستهلاك، كمدخلٍ لتحريك عجلة الاقتصاد. ولأن الفلسطينيين لم يكونوا يملكون نقوداً ليستهلكونها، ولأنّهم كانوا مُستعدّين لقبول أيّ مصدرٍ للمال السريع يسدّون به حاجاتِهم الأساسيّة قصيرة المدى، فقد كان من البديهي أن تبدأ إعادةُ الهندسةِ الاقتصاديّة من القطاع المصرفيّ.
القرض مُقابل العونة
بعد "إصلاحات" سُلطة النقد عام 2007، والتي ألغت القيودَ على إقراض المصارف، سارع الفلسطينيون إلى الاقتراض بغض النظر عن قدرتهم على السداد. أحد هؤلاء كان الأسير الذي ذُكر أعلاه، يروي: "أدّى اعتقالي المتكرر إلى تأخري 14 سنة قبل التخرج، وكنتُ مديناً للجامعة بعدّة أقساط كان عليّ تسديدها لاستلام شهادتي، فلجأت إلى الاقتراض لتسديد الأقساط ولكي أتزوّج أيضاً". يضيف شارحاً: "قيمة القرض 80 ألف شيكل، لمدة 10 سنين، سأكون في نهايتها قد دفعت للبنك 120 ألف شيكل".
إقرأ للمزيد: الإغراق في الديون.. سياسات الإقراض في الضفّة
بلغ حجم القروض الاستهلاكية التي مُنحت لأفراد في الضفة الغربيّة وقطاع غزّة 70 مليون دولار لعام 2008، ووصلت إلى 885.4 مليون دولار لعام 2013، وسجّلت في الربع الثاني من 2018 ما قيمته 1.4 مليار دولار. 2الرياحي، إياد، وناهد سمارة. 2014. قبل الأزمة بقليل.. سياسات إغراق الضفّة الغربيّة بالديون. بيرزيت: مركز دراسات التنميّة.أدّى هذا الإغراق بالقروض إلى زيادة الطلب بشكل عام، خاصّةً على السّلع المستوردة والعقارات. وكنتيجةٍ منطقيّةٍ لارتفاع الطلب، فقد ارتفعتْ الأسعار أيضاً، مما أدّى إلى ارتفاع الإقبال على المزيد من الاقتراض. هكذا، ومثل تدحرج كرة الثلج، وقع المزيد من الفلسطينيين عاماً بعد عام في شِباك الدائرة المُفرغة من الاقتراض والاستهلاك، والعمل لسداد هذه القروض. كان لهذا أثرٌ على تعميم الاستهلاك مُجتمعيّاً، نتيجة انتشار مظاهر ارتفاع مستوى المعيشة رغم عدم ارتفاع العائد الحقيقي للناس.
في الوقت الذي كان الفلسطينيون يغرقون بالديون، كانت البنوك العاملة في فلسطين تشهد حالةً من الانتعاش غير المسبوق، وصفها رئيس مجلس إدارة البنك الإسلامي بفخرٍ بالقول: "وضع البنوك في الأراضي الفلسطينيّة ممتاز وأفضل بكثير من دول مجاورة، ولا توجد بنوك تحقق عوائد ربحٍ مثل عندنا، وأفضل محفظة ائتمانية في الوطن العربي موجودة في فلسطين".
الوجه الجديد للمؤسسات "غير الربحيّة"
لقد طالت هذه العدوى مؤسسات الإقراض الصغير أيضاً، والتي يُفترض أنّها مؤسسات خدمة اجتماعيّة، وقروضها مُيسرة كونها غير ربحيّة، إلا أنّها تحوّلت إلى مؤسسات ربحيّة.3دودين، محمد. 2013. قطاع التمويل الصغير في فلسطين: الإطار القانوني وتنفيذ عقود القرض. رام الله: معهد أبحاث السياسات الاقتصاديّة الفلسطيني (ماس). في تقرير لمؤسسة "أمان"، كشف أن مؤسسات الإقراض الصغير تُقدّمُ القروضَ بفوائد تتراوح ما بين 6.5% و18% من أموال المساعدات الخارجيّة المقدمة عبر صندوق التشغيل الفلسطيني. وعند سؤال "أمان" مدير الصندوق الفلسطينيّ للتشغيل آنذاك عن سبب ارتفاع الفوائد على تلك القروض، أجاب بأن "صندوق التشغيل طلب من مؤسسات الإقراض عدم رفع قيمة الفوائد لكنه لا يستطيع إجبارها، لأن فلسطين تتبنى نظامَ سوقٍ حرّة". هكذا توسع أثر التفتيت إلى مؤسسات هي بالأصل اجتماعيّة، ومعها يد السوق الخفية لتحول كل ما تلمسه إلى فاعلٍ ربحيّ، وكلَّ خدمةٍ اجتماعيّةٍ إلى سوقٍ تنافسيّ.
إقرأ/ي للمزيد: التمويل الصغير.. عندما ينسى "البديل" نفسه
يستوجب السّوقُ الذي يعتمد فيه المُعظم -بمن فيهم الموظفين العموميين- على الاقتراض والاستهلاك تدفّقاً مُستمرّاً للتمويل الخارجيّ. على إثر هذه الحاجة الاعتماديّة، نشأت شركات غير ربحيّة خاصّة نافست المؤسسات الأهليّة على التمويل الخارجي، وذلك بعد أن سنّت السُلطة قانوناً عام 2010 يقضي بجواز ذلك، لتُغرق البلد بالتمويل والمُساعدات الخارجيّة. عام 2010 كانت هناك شركة غير ربحيّة واحدة فقط، فيما ارتفع العدد عام 2016 إلى 269 شركة. وبين مارس/آذار 2016 ونوفمبر/تشرين الثاني 2017، أي خلال أقلّ من سنتين، بلغ التمويل الذي وصل إلى هذه الشركات 25 مليون ونصف المليون دولار. وحسب تقرير لديوان الرقابة المالية والإدارية عام 2018، فإنّ 14% من هذه الشركات هي عائلية، و26% من فاتورة الرواتب فيها هي رواتب المساهمين أنفسهم. هذا ما بات عليه الوجه الجديد للعمل غير الربحيّ في فلسطين، والذي أشرفت السُلطة على صياغته.
اقتراح حتّى لا تؤول الأمور إلى "الارتزاق"
بات صاحبنا الأسير اليوم زوجاً، وحديثاً أصبح أباً أيضاً. لقد أجبرته الظروف القاسيّة على ربط نفسه بقرضٍ بنكيّ، لكنّه يُصرّ على أنّ ذلك لم يجعله يتنازل عن مبادئه التي تقتضي عدم تحوّله إلى "مُرتزق"، على حدّ تعبيره. فاليوم، هو وثمانية من أصدقائه يمتلكون تعاونيّة زراعيّة كانوا قد أسسوها معاً.
يرى الأسير أن تجربة التعاونية "تخلق علاقات تكافل جديدة، يمكن البناء عليها في المُستقبل". لكن حتى الاقتصاد التعاوني بحاجة لتمويل ابتدائي. يرى جبريل محمد أن "البدء من بذرة صغيرة ممولة ذاتياً، ثم النمو تدريجياً بالعمل فيها إلى جانب الوظيفة الرئيسية، يمكن أن يبني بديلاً عن الاقتراض والتمويل الخارجي". أما بالنسبة لسحر فرنسيس، فإن إيجاد البدائل "يتطلب بناء نموذجٍ وطنيّ تتحملُ فيه كلُّ فئات المجتمع مسؤولياتها".
يبتسم صاحبنا الأسير ويضيف بغبطة: "نحن الآن فتحنا ثمانية بيوت بتعاونيتنا الزراعيّة، وصرنا كأخوة لبعض، وجاءنا تمويل نظيف وغير مشروط من أخوة لنا في الشتات. ورغم هذا لا يزال البعض يُصرّ على أن الخروج من واقع الفردانية والتفتيت أمر مستحيل!" يطفئ سيجارته في المنفضة وسط الطاولة بحسم، كأنما يريد بيده الإصرار على تصريحه: "لكنه ممكن!".