*تُنشر هذه المادة بالتعاون مع "شبكة قدس الإخبارية".
قبل حوالي أسبوعين من اليوم، كانت سحر ستدخلُ إلى قاعةٍ للأفراح بفستانٍ أبيض، بينما يزّفها الحضور مع عريسها، رائد.1الاسمان مستعاران، بناء على رغبة صاحبيهما. ما زال الفستان في محلّ لتأجير الفساتين، معلّقاً مع بطاقةٍ كُتب عليها حرفيّاً: "حتى أجلٍ مسمّى". فبينما تتكدّس بطاقاتُ الدعوة لحفل الزفاف في منزل كلٍ من العروسيْن، تلقت سحر اتصالاً هاتفيّاً قبل حوالي شهر ونصف من مديرِ قاعةِ الأفراح، لإعلامها بإغلاق القاعاتِ كلّها إثر قرارٍ فلسطينيّ رسميّ، وبالتالي تأجيل حفلِ زفافها إلى أجلٍ غير معلوم.
جاء هذا الاتصال بعد أنباءٍ كثيرة، تنبئ باحتمال تغيّر الخطط، تبعاً للإعلان عن إصابةِ عددٍ من الفلسطينيَّين بفيروس "كورونا". لكنّ سحر ورائد، وكلاهما من مدينة القدس، كانا متفائليْن بحلٍّ قريب. لم يحسبا أنّ حالة الطوارئ ستتطوَر حدّ إغلاق المدن، والأماكن العامّة، ومنع التجمعات، ثم حظر التجوّل تماماً. مثلَ كُثرٍ منّا، لم يتوقعا أنْ يتحقق السيناريو الأسوأ، لكنّه حصل.
في الأسبوع الأول من مارس/آذار، وضمن إجراءات وقف انتشار الفيروس، أُغلقت صالات الأفراح في أغلب محافظات الضفَّة الغربيّة، إضافةً إلى القاعات الخاصّة بالفنادق. في الأسبوع الثاني، شمل القرار كذلك القاعات الواقعة ضمن مناطق السلطة الفلسطينيّة من محافظة القدس (كالرام والعيزرية). ورغم أنّ العروسيْن من القدس، إلّا أنَّهما كانا قد حجزا صالةً في مناطق الضفَّة، تحديداً في الرام.
نادراً ما يتزوّجُ حملةُ الهويَّة المقدسيَّة في مدينتهم، لأنَّها تفتقرُ للقاعاتِ الفلسطينيَّة كبيرة الحجم، وحتى القاعات الصغيرة المتوفّرة ليست خياراً جيّداً، بسبب تكلفتها الباهظة. كما لا يستطيعُ الأهلُ والأقارب من حملةِ هويَّة الضفَّة الانضمامَ إليهم في فرحهم لو أقيم في القدس، لذا يتجه معظم المقدسيِّين لإقامة حفلاتِ الزفاف في مدنِ الضفَّة.
اجتمعتْ عائلتا العروسيْن في قمةٍ طارئة، وطرحَ سحر ورائد، البالغان من العمر 25 عاماً، أنْ يتمّ زواجهما على أيَّة حال في البيت، أي "على الضيِّق"، لكنّ اقتراحهما لم يمرّ. لن تتنازل العائلة عن فرصتها للفرح، ولم يعدْ هناك مجال أصلاً "للضيّق"، فقد أُدخِل أفرادٌ من عائلة العروس إلى حجرٍ منزليّ، وتحوّلت كلّ البيوت إلى أماكن حجرٍ احترازيَّة للعائلاتِ الصغيرة، لا يغادرها إلّا من هو مضطر لذلك، خاصةً مع تصاعد الإجراءات الإسرائيليّة لتقييد الحركة تدريجيّاً في المدينة.
في بدايةِ العام، كان سيناريو كهذا مستبعداً، بينما كان العروسان منهمكيْن باللَّمساتِ الأخيرة لتنظيم الزفاف. دفَعا إيجاراً لثلاثةِ شهورٍ مقدَّماً، لمنزلٍ لن يعيشا فيه حتى تحلَّ هذه الأزمة المفاجئة، بينما تتراكم ضريبة المسقوفات (الأرنونا)، التي تُدفع لبلديَّة الاحتلال في القدس، والحدّ الأدنى من فواتيرِ المياه والكهرباء، ويتعطَّل هما الاثنان عن العملِ بسبب الأزمة ذاتها.
قبل خمس سنوات، احتاجت المؤسسة التي تعملُ بها سحر إلى مدرّبِ كرة قدمٍ لإحدى مخيماتها الصيفيَّة، ونشرتْ إعلان الوظيفة على موقع "فيسبوك". من بين المئاتِ الذين رأوا الإعلان، كانَ هو، فأجرتْ سحر مقابلةَ عملٍ مع رائد، وعملا من حينها معاً في تلك المؤسسة، وانتقلا بعدها للعملِ في مؤسسة أخرى، معاً ثانيةً، كمنسقيْن للمشاريع نهاراً، ومدرّبيْن لكرة القدمِ مساءً. كانَ المدعوون للزفافِ سيروْن رسوماتٍ للعروسيْن يركلان الكرة، لو كانت بطاقاتُ الدعوة قد أرسلتْ في موعدها.
حين حاولت سحر تحديدَ اللحظةِ التي وقعتْ فيها بالحبّ، تتواردُ إلى ذهنها أكثرُ من واحدة، وتحتارُ بينَها. لكنَّ جولاتهما في القدس القديمة، لاستكشافِ أسوارِها وحاراتها، لا تغيبُ عند حديثها عن تكوّنِ هذا الحبّ. طوال العام الماضي، جمعَ العروسان مهاراتهما في تنسيق المشاريع، وتحضير الموازنات، وكتابةِ المستندات واللوائح، جمعاها كلّها للتحضير لحفلِ الزفاف، فسنجدُ في ملفّاتهما لوائحَ للمعازيم، وجدولةً للدفعات والفواتير بين المدخرات و"الجمعيَّة" الشهريَّة التي انضمّ إليها رائد للتوفير من أجل الزفاف. والآن، فقط ينتظران. تقول سحر: "كل شي جاهز، بس ييجي اليوم".
آخرون من المقبلين على الزواج في فلسطين لم ينتظروا أن يأتي "اليوم" الأنسب، فأقاموا أفراحهم بكلّ الأحوال، دون صالةِ أفراح، بحضورِ بعض الأقارب فقط، بينما يرتدي الجميع كماماتٍ واقية، وبدلاً من أنْ يَضع العريس الأساور بيد العروس، يُلبسها قفازاتٍ طبيّة.
أعادت هذه الأعراس الصغيرة ذاكرةَ الفلسطينيّين إلى أيّام الانتفاضتيْن الأولى والثانية، إذا استثنيْنا المعقمات والكمامات. اقتصرت الأفراحُ حينها على اجتماعاتٍ عائليَّة في المنازل، دون زفّة، وافتقدت بعضها للغناء حتى، أو في أوقات أخرى شملت أغانٍ للفدائيين. وفي حالات كثيرة اضطرت فيها العروس لتمرَّ عن الحواجز في مركبةِ أحد أقاربها، أو تنتظر العائلاتُ فرصةَ فكّ منع التجوّل، الذي يدوم مدّة شهرٍ في بعض الأحيان، لكي يوصلوا العروسَ إلى بيتها الجديد.
لم توقِف أيُّ ظروفٍ في فلسطين الحياةَ الاجتماعيَّة واستمرارها في السابق، فتزوّج الفلسطينيّون على أنقاضِ بيوتهم المهدَّمة في غزَّة، ورغم الاجتياحات في الضفَّة، ولا يبدو أنَّ الكورونا ستوقفَ الأفراح لوقتٍ طويلٍ هي الأخرى.