8 نوفمبر 2023

كتيبة ومخيّمان.. ما الذي يجري في طولكرم؟

كتيبة ومخيّمان.. ما الذي يجري في طولكرم؟

في حدود الساعة الثانية فجر السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر، اقتحمت عشرات الآليّات العسكريّة مخيّم طولكرم. خاض المقاومون معهم اشتباكاتٍ عنيفة، تخلّلها استخدام للعبوات التفجيريّة ونصب للكمائن لقوّات الجيش الإسرائيلي. وفي ذات المعركة استهدف الاحتلال مواقع في المخيم بالطائرات الانتحاريّة، وأطلق وابلاً من الرصاص ممّا خلّف عدداً من الإصابات من سكّان المخيّم. 

أما المَهمّة الرئيسية التي بدا أنّه جاء لها، فقد فشلت. عاث في المخيّم ومحيطه خراباً بالبنية التحتية، فجرّف الشوارع وخرّب المركبات ودمّر أجزاء من البيوت وقصف محوّل الكهرباء، ثمّ خرج بعد 5 ساعات من الاقتحام ظانّاً أنه انتصر. لكن السكّان، كان لسانهم يردّد: في المال ولا في العيال.  

جاء هذا الاقتحام، بعد يوم من تنفيذ قوّة إسرائيلية خاصة عمليّة اغتيال لأربعة شبّان. كان عز الدين رائد عواد (25 عاماً)، وجهاد مهراج شحادة (22 عاماً)، ومؤمن سائد بلعاوي (20 عاماً)، وقاسم محمد رجب (20 عاماً)، في سيّارة "مازدا" بيضاء داخل مخيّم طولكرم. انتظرتها مركبةٌ خارج المخيم، يوحي مظهرها الخارجيّ بأنها تستخدم لأغراض تجارية، فيما كانت تمتلأ بعناصر من وحدّة "اليمّام"، مسنودةً بالجيش و"الشاباك". 

آثار الدماء على زجاج المركبة التي اغتال جيش الاحتلال الشهداء الأربعة بداخلها في ٦ تشرين ثاني 2023.

ما إن خرجت السيّارة من المخيّم، حتّى اعترضتها المركبة وأمطرت من فيها بعشرات الطلقات الناريّة، ثمّ فتحت الوحدة الخاصة أبواب السيّارة وأطلقت على ركابها الرصاص من جديد، لتتأكد من قتلهم. استراح الشباب إذ أدّوا ما عليهم، فقد كان عوّاد قائد كتائب القسّام وشحادة قائد كتيبة طولكرم - الرد السريع، ومؤخراً نفّذت هذه المجموعات المسلّحة عدداً من عمليّات إطلاق النار على المستوطنات والحواجز1نسب الاحتلال للشبّان تنفيذ العشرات من عمليات إطلاق النار والتخطيط لتنفيذ عمليات، وإلقاء عبوات ناسفة، ونسبت لهذه الخلية تنفيذ العشرات من عمليات إطلاق النار، فيما ادعى الاحتلال أنها اغتال "اثنان من كبار أعضاء البنية التحتية" للمجموعات المسلحة في المدينة، وادعى تلقيهم مئات الآلاف من الشواكل من حركة حماس لتنفيذ عمليات..

لكن الوحدة الخاصّة، المدجّجة بالسلاح والعتاد والاستخبارات، ظلّت قلقة من عودتهم، فعاودت الكرّة على المخيّم وأهله. 

أهالي مخيم طولكرم يودعون الشهداء الأربعة قبل تشييعهم في 7 تشرين ثاني 2023.

قبل عشرين يوماً في نور شمس

في تمام الساعة الثالثة والربع، فجر يوم الخميس 19 تشرين الأوّل/ أكتوبر، لاحظ مجاهدو وحدة الرصد في مخيم نور شمس تواجد قوة صهيونية خاصة متمركزة على أطراف المخيم. أبلغوا على الفور مقاتلي الكتيبة، حمل بعضهم سلاحاً وحمل الآخر عبوات مُتفجّرة، ثمّ توزعوا بين أزقة المخيم منتظرين عدوّهم.

يقع المخيّم على مساحة 230 دونماً، على جبل عند مدخل المدينة مُستقبلاً زوّارها، يقابله حيّ اسمه "المحجر" هو جزء من المخيم، ويفصل بينهم شارع رئيسي يُسمّى "نابلس"، فيما سكّانه يشتركون مع سكّان مخيم جنين في الدم والنضال2هجّر سكان المخيمين من قراهم عام 1948 سوية، ومكثوا في سهل "جنزور" جنوب جنين سوية، ثمّ تشتت شملهم عام 1950..

لم تأخذ المدينة ومخيّماها نور شمس وطولكرم، من نابلس اسماً لشارعها الرئيسي فحسب، ومن جنين التهجير المشترك فحسب، بل تعدّى ذلك إلى عدوى التشكيلات المسلّحة. مؤسس كتيبة طولكرم - سرايا القدس (تأسست في آذار 2022)، التي ثقلها في مخيم نور شمس، هو الشهيد سيف أبو لبدة (25 عاماً)، الذي كان على اتصال مع "كتيبة جنين". ومؤسس كتيبة طولكرم - الرد السريع (تأسست في شباط 2023)، التي ثقلها في مخيم طولكرم، هو الشهيد أمير أبو خديجة (25 عاماً)، الذي أعلن انطلاقها خلال مسيرة غاضبة بعد ارتكاب الاحتلال مجزرة في نابلس "عرين الأسود".

طوّق الاحتلال مخيّم نور شمس من كلّ الجوانب، وحوّل شارعي السكّة ونابلس -شمال المخيم- إلى خطوط إمداد عسكرية لقوّاته، التي اقتحمت بعض المنازل على أطراف المخيّم وحولّتها إلى ثكنة عسكرية، واتخذت القنّاصة من أسطحها مستقّراً، لتأمين عبور القوات المقتحمة وعودتها إلى حاجز "نتساني عوز" غرب المدينة. ومع ذلك، فإنّها لم تسلم من رصاص وعبوات المقاومين. كذلك، فإنّها طوّقت المخيّم من الجهة الجنوبيّة، حيث منطقة شرق ذنّابة، ومن هناك دفع الاحتلال بالتعزيزات من مستوطنتي "أفني حيفتس" و"عناب".

كان الهدف الرئيسي للاحتلال اقتحام حي "المنشية" في المخيم، حيث يتحصّن المقاتلون، فاقتحم الجيش الإسرائيلي جبل "النصر" غرب المخيم، فجرّفت شوارعه وقطعت خطوط الكهرباء والماء الرئيسية، المغذية لجزء من المخيم. كما انتشرت في حيّ المحجر، حيث استشهد المقاوم جميل جعار الذي قدم من بلدة "علار" شمال المدينة، حاملاً سلاحه، محاولاً وحده فك الحصار عن المخيم.

إذاً، عشرات الآليات العسكرية، مدعومة بطائرة أباتشي وطائرات مسيرة، وعشرات الجنود المحمّلين بصواريخ على الكتف، فيما تحركت القوة الخاصة إلى مهمتها داخل المخيم: تصفية المقاومين.

ما إن دخلت القوّة حتّى وجدت في استقبالها كميناً أعدّه المقاومون، عنوانه عبوة "شمس" التي دخلت الخدمة حديثاً، فقتلت بانفجارها قائد الوحدة وأصيب تسعة آخرون.

مقاتلون يحيطون بآثار دماء ضابط الاحتلال الذي قُتل في تفجير العبوة في مخيم طولكرم.

استبسل شباب الكتيبة في الدفاع عن المخيم، إذ تحوّلت الأزقة المؤدية إلى حيّ المنشية إلى ساحة حربٍ حقيقية، وتمكن شباب الكتيبة من إيقاع الوحدات المقتحمة بأكثر من كمينٍ ناري. وفي عدوانها استخدمت قوات الاحتلال الطائرات المسيرة الانتحارية لمهاجمة المقاومين، واستشهد على إثرها المقاوم محمد شناعة ومعه مجموعة من سكّان المخيم كانوا حوله.

"كنا جالسين في الحارة، سمعنا انفجاراً قوياً، قام أحد الشباب لاستكشاف الوضع، فوجد أخاه مصاباً"، قال لي أحد سكان حي المنشية، ثمّ أكمل: "لحقنا بالشاب، فوجدنا ثماني إصابات، حملناهم وتوجهنا إلى وسط المخيم، لاحقَنا الجيش، فدخلنا إلى مسجد أبو بكر ووضعنا المصابين فيه"، إذ لم تتمكن سيّارات الإسعاف من الوصول لنقل الجرحى والشهداء. "حاولنا إسعافهم بأنفسنا، للأسف كانت جراحه بعضهم خطيرة فاستشهدوا"، قال بحرقة. 

أحد مقاتلي كتيبة طولكرم - سرايا القدس، كان يذود عن إخوانه من خارج المخيم، قال لي: "كان الوقت الطويل للاقتحام مرهقاً جداً، حيث أننا لم ننم ولا دقيقة طوال فترة الاقتحام". وفي عزّ اشتداد المعركة، انتشرت رسالة صوتيّة لأحد مقاتلي الكتيبة: "عهداً يا سيف إننا على دربك"، فيما بدا شحذاً لمعنويّات القتال عبر استحضار المؤسس.

اعتمد المقاتلون خلال المعركة أكثر من تكتيك عسكري، كان أشهرها "الكمائن". ولكنهم كذلك، استخدموا تكتيكاً من وحي الحصار، يُعطي درساً بالكيفية التي يفكّر بها فقراء السلاح. "حاولنا الاقتصاد بالرصاص، لأننا لم نعلم كم ستطول مدة الحصار، بالتالي قللنا استهداف الآليات بالرصاص، وركزنا على استهداف الجنود بشكل مباشر"، قال لي المقاتل. 

استمرّ القتال لـ 27 ساعة متواصلة، جيش بأكمله أمام ثلّة قليلة من الشباب، لا يتجاوز عددهم الـ 25. لم يخرج الاحتلال بشيء، فيما خرج المقاتلون على هتاف الناس مُهنّئين. "دعمنا لشباب الكتيبة زاد بعد المعركة، هذا احتلال فاشل وحملته على المخيم فاشلة"، قال لي أحد السكّان بعد انسحاب الجيش. 

مخيّمان يذودان عن المدينة 

في مدينة طولكرم مخيّمان اثنان: مخيم نور شمس، ومخيم طولكرم. فيهما تتوزّع المجموعات المسلّحة، والتي تضمّ مختلف الفصائل. وهما إضافة إلى قربهما الجغرافيّ (نحو 3 كيلومتر)، يتواجدان على شارع رئيسي واحد؛ شارع نابلس، الممتد من مدخل المدينة إلى مركزها تقريباً. وعلى هذا الخط، يشكّل المخيمان حصناً للمدينة أمام اقتحامات الاحتلال. 

ولكنهما أيضاً، يشكّلان دعماً وإسناداً لبعضهما البعض، فحين حصار الجيش الإسرائيلي لإحدى المخيّمين، يخرج مقاتلو الآخر دفاعاً وحمية وإشغالاً للعدوّ. وهذا ما جرى مرّات عدّة، أبرزها حين حصار الاحتلال لمخيم نور شمس.

مقاتلون فلسطينيون في تشييع الشهيد محمود أبو جراد في مخيم طولكرم، في آب 2023.

لعب المقاتلون من مخيم طولكرم دوراً هاماً في فك الحصار عن مخيم نور شمس، إذ أشغلت الجيش الإسرائيلي عبر استهدافها قوات الدعم والإسناد الإسرائيلية على طول شارعي السكة ونابلس، كما نفذت مجموعة من الاستهدافات بالرصاص والعبوات الناسفة.

لا يتجاوز عدد مقاتلي كتيبة مخيم طولكرم الـ 15 مقاوماً، على اختلاف التنظيمات من سرايا القدس وكتائب القسام، وكتائب الأقصى (الرد السريع) التي تعتبر الأقدم والأكثر عدداً. وهو ما يوحي بتنسيق عالٍ بين مقاتلي المخيمين، وبين الفصائل المختلفة.

وعد المجزرة

قبل اقتحام مخيّم نور شمس بيومين، وقعت مجزرة المستشفى المعمداني في قطاع غزة. حينها، تصدّر مقاتلو الكتيبة في المدينة مسيرة احتشد فيها الناس، حملوا بنادقهم وتوشّحوا بالسواد وبالغضب. وعند مركز المدينة، اعتلى شباب كتيبة طولكرم - سرايا القدس درجات مبنى "بيت الضيافة"، أمام المئات من الوجوه الغاضبة، المطالبة بالثأر. 

قال المتحدث باسم المجموعة باقتضاب: "نعد أبناء هذه المحافظة، أن الرد على هذه الجرائم سيكون خلال أربعٍ وعشرين ساعة". وهو مشهد أعاد للأذهان ذاكرة من الانتفاضة الثانية، حين وقف صاحب "الرد السريع" الشهيد رائد الكرمي، قاطعاً عهداً أمام رفيقه الشهيد فراس الجابر بالثأر خلال 24 ساعة.

أحد مقاتلي سرايا القدس أثناء حراسته في مخيم نور شمس في طولكرم، في آب 2023.

نفذ المقاتلون من مختلف التشكيلات بعدها سلسلة عمليات إطلاق نار على الحواجز والمستوطنات المحيطة بالمدينة. فمثلاً؛ استهدفوا "بوابة شويكة" وحاجز "جبارة" ومستوطنة "بيت حيفر"، كما نفذوا عملية نوعية على حاجز "نتساني عوز" باستهداف الجنود بشكل مباشر، وبعد التمويه بالانسحاب عادوا لاستهدافه مجدداً بعد تجمع الجنود عنده مرة أخرى، محققين إصابات مباشرة، وذلك بحسب بيان للكتيبة.

مقاتل من الكتيبة أكد لي: "مع بداية المعركة [يقصد طوفان الأقصى]، اتخذنا قراراً بالاشتباك، والاستمرار بالاشتباك لإنهاك جيش الاحتلال واستنزافه". يدلّل على ذلك العملية النوعيّة في مستوطنة "عناب" في 9 تشرين الأول/ أكتوبر، إذ تسللت مجموعة من كتيبة طولكرم - سرايا القدس إلى داخل مستوطنة "عناب" جنوب شرق طولكرم، وسيطرت على البرج العسكري، واستهدفت عدداً من المستوطنين وقتلت آخر، وأطلقت صفارات الإنذار لبث الرعب فيهم والتغطية على انسحابهم، "فيما قامت المجموعات الأخرى بعمليات إطلاق نار واستهداف مكثفة للمستوطنة لتأمين خروج المجوعة المقتحمة"، وذلك بحسب بيان الكتيبة.

خشية مُحقّة!

بات شمال الضفّة الغربيّة اليوم مشتعلاً، وبات عنواناً بارزاً للتشكيلات المسلّحة، وكأنّها طوقٌ واحد من جنين إلى نابلس إلى طولكرم. 

كانت "إسرائيل"، ومن ورائها السلطة الفلسطينيّة، تخشى من تكرار نموذج المجموعات المسلّحة، وأن تنتقل عدواها إلى طولكرم، فشنّت منذ البداية حملةً لا هوادة فيها، شملت التضييق والاعتقال والاغتيال. فمثلاً؛ لم يكن قد مرّ على اغتيال أبو خديجة الشهرين، حتّى اغتال الاحتلال سامر الشافعي (22 عاماً) وحمزة خريوش (22 عاماً)، بعد تنفيذهما عملية إطلاق نار على مستوطنة "أفني حيفتس" جنوب المدينة، ثأراً لاستشهاد الأسير خضر عدنان.

أما بالنسبة إلى السلطة، فيقول أحد مقاتلي الكتيبة: "حاولت الأجهزة الأمنية اعتقالي ثلاث مرات، والحمد لله نجحت في الإفلات منهم".

وفي بيان لها بتاريخ 30 آب/ أغسطس الماضي، قالت مجموعة "الرد السريع" أنها تعرضت ومنذ انطلاقها إلى تضييقات وملاحقات عديدة من أجهزة السلطة، كما طالبت عناصر الأجهزة الأمنية بالتمرّد على الأوامر والانضمام إلى صفوف المقاومة. 

جاء البيان بعد اقتحام أجهزة السلطة لمخيم طولكرم، ومحاولتها إزالة المتاريس الأمنية التي وضعتها الكتيبة تحسّباً لاقتحام الاحتلال المخيم. حاول المقاومون والأهالي منعها، فقمعتهم وأطلقت الرصاص عليهم، ما أسفر عن استشهاد الشاب عبد القادر زقدح. 

كذلك، فإنّ الأجهزة الأمنية في 6 تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، هاجمت مهرجان انطلاقة حركة "الجهاد الإسلامي" في مخيم نور شمس، وأطلق عناصرها قنابل الغاز والرصاص الحي باتجاه المشاركين. 

كان الاحتلال كلّما يصفّي مقاوماً، وكانت السلطة كلّما تعتقل آخر، يظن الناس أن الكتيبة انتهت، لكن ظنونهم لم تكن في مكانها. أما خشية الاحتلال والسلطة من عدوى المقاومة، فإنّهم -ولأول مرّة- محقّون في شيء.