29 أكتوبر 2019

في الطريق إلى "وادي عربة".. حكومة وبرلمان على المقاس

في الطريق إلى "وادي عربة".. حكومة وبرلمان على المقاس

بدأت التحركّات العلنيّة لتوقيع اتفاقية سلام بين الأردنّ و"إسرائيل" بعد حرب الخليج الأولى 1991. حينها، تحرّك وزير الخارجيّة الأميركي جيمس بيكر James Baker في جولاتٍ شملت دولاً عربيّة و"إسرائيل" للشروع بعملية السّلام. لكنّ دينيس روس Dennis Ross، أحد مرافقي بيكر، الذي تحدّث عن تفاصيل الجولات الأولى التي بدأت من الرياض في مارس/ آذار 1991، لم يتطرّق في حديثه إلى الأردن. لعلّ السبب، كما يقول فايز الطراونة في مذكراته، أنّ الملك الحسين كان في تلك الفترة التي تلت الحرب مباشرةً معزولاً من الأميركيين وبعض العرب بسبب رفضه الدخول في تحالف الحرب على العراق. يؤشر الطراونة على هذا العزل بالقول إنّ أميركا نقلت في حينه مكتب الوكالة الأميركية للتنمية الدوليّة USAID من عمّان إلى واشنطن، كما أوقفت المساعدات الخارجيّة للأردن. 1فايز الطراونة، كتاب في خدمة العهدين، الآن ناشرون وموزعون ط1 2019، ص 149 و 152.

إذاً، وجد الملك الحسين في تلك الفترة نفسَه معزولاً عربيّاً ودوليّاً، وكان هذا ما استغلّه الأميركيون. يقول بيكر، وزير الخارجيّة الأميركيّ في حينه: "توافرت كلّ الأسباب العمليّة للاعتقاد بأنَّ الملك يرغب في القيام بأيّ شيءٍ تقريباً لإنهاء عزلته السياسيّة، واستعادة الحضوة لدى الولايات المتحدّة".2وفقاً للباحث الإسرائيلي آفي شلايم في كتابه "أسد الأردن"، ص 595، وهو ينقل فيه عن كتاب جيمس بيكر The politics of diplomacy. 

اجتمع بيكر بالملك الحسين وقدّم له العرضَ؛ اللعب وفق الشّروط الأميركيّة في السّلام مقابل أن "تقدِّم له أميركا المساعدة". 3آفي شلايم، مصدر سابق ص595-596. أرادت أميركا تنظيم مؤتمرٍ برعاية دوليّة، يليه الانخراط في مفاوضاتٍ ثنائيّةٍ بين "إسرائيل" والدول العربيّة، كلّ دولةٍ على حدة، وليس جماعيّاً كما أراد الحُسين. تَبِعَ هذا العرض وعدٌ لتقديم مساعداتٍ غذائيّةٍ عاجلةٍ للأردن بقيمة 27 مليون دينار أردنيّ.

التحضير: فلسطيني رئيس وزراء.. وبرلمان بدون معارضة

داخليّاً، بدأ الملك الحسين بتحضير الأجواء السياسيّة لهذه الشّروط الجديدة. لأجل ذلك، عيّن طاهر المصري، وهو من أصول فلسطينيّة، رئيساً للوزراء في يونيو/ حزيران 1991. تقول إحدى أعضاء مجلس النواب في تلك الفترة توجان فيصل، وهو ما ذهب إليه كذلك الباحث الإسرائيليّ آفي شلايم في كتابه "أسد الأردن"، إنَّ تعيين المصري ..جاء كـ"غطاءٍ فلسطينيّ للذهاب إلى مدريد".

بعد ذلك بأشهر، تحديداً في 30 أكتوبر/ تشرين الأول 1991، افتُتِحَ "مؤتمر مدريد" برعاية الولايات المتحدّة والاتحاد السوفييتي. ترأس الوفد الأردنيّ في المؤتمر عبد السّلام المجالي، وأشرف على تحضير الملفات والوثائق الأمير الحسن.4عبد السلام المجالي، رحلة العمر من بيت الشعر إلى سدة الحكم، شركة المطبوعات - بيروت، 2009، ص 210.

وبينما بدأت المفاوضات الأوليّة في مدريد، كانت حصّة المعارضة في مجلس النواب الأردنيّ قويةً بما يكفي للتهديد بطرح الثقة من طاهر المصريّ الذي جيء به كغطاء، وكان الغضب النيابيّ يتعلقُ في جزءٍ منه بتوّجه هذه الحكومة نحو "مؤتمر مدريد". ناور الملك مرةً أخرى، وعيّن الشريف زيد بن شاكر في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 1991 رئيساً للوزراء، فجاء بسلطةٍ عسكريّةٍ (كان بن شاكر سابقاً قائداً عاماً للقوات المُسلّحة الأردنيّة)، وقرابةٍ عائليةٍ من الملك، فـ"بدأت المجاملات لسيادة الشريف [من قبل النواب]، وبدأ المجلس يشيد بالشريف مع أنه ذاهب لنفس المؤتمر"، على حد تعبير البرلمانيّة في ذاك المجلس توجان فيصل.

انتهى "مؤتمر مدريد" بالاتفاق على مواصلة المفاوضات، لكن مع خلاف على مكانها؛ أراد الأردن أن تُعقد في أميركا، وأرادت "إسرائيل" الكرك في الأردنّ وبئر السبع بالتناوب. لكنَّ المفاوض الأردني أرادَ التفاوض بعيداً عن المنطقة لسبب آخر: "طلب نقل المفاوضات إلى الشرق الأوسط غير عمليّ، ويضع المفاوضين تحت رأي الرأي العام الشعبيّ، والإعلام الضاغط الذي لا يزال غير مهيأ للمفاوضات".5 المجالي، مصدر سابق، ص 224 

وفقاً لذلك، جرت المفاوضات في واشنطن، وشهد العام 1992 تقدماً في جدول المفاوضات الثنائيّة، إذ اتفق الوفد الأردنيّ مع الإسرائيليّ على أجندة المفاوضات وشملت قضايا: الأمن، والمياه، واللاجئين، والمهجرين، والحدود، والأرض، والتعاون الثنائيّ. 

سارع الأردن إلى التحضير الداخليّ الثانيّ حينما لمس ما قدمّه بيكر له في اللقاء الأوّل، أيّ المساعدات مقابل اللعب بشروط الأميركيين. أبرز علامات هذا التحضير كان إقرار قانون الصّوت الواحد في الانتخابات، وذلك عام 1992، كان نظام الصّوت الواحد أسهل لتمريرِ المعاهدة في حال طرحها على مجلس النواب، إذ سيضمن هذا النظامُ "تعزيز تكتلات المحافظين والعشائر والمستقلين، ورفض مدويّ لجبهة العمل الإسلاميّ التي كانت قاعدتها الأساسية معارضة لمحادثات السّلام مع "إسرائيل"". 6 أسد الأردن، آفي شلايم، ص618.

وهكذا، تراجع في انتخابات 1993، التي جرت وفق هذا النظام، تمثيلُ الإسلاميّين في مجلس النواب من 34 إلى 21 نائباً، "وكانت الأغلبية في المجلس الجديد من المعتدلين والمحافظين المستقلين والمؤيدين التقليديين للنظام ولسعيه للسلام". المصدر السابق. بعد ذلك، استكمل الملك الحسين خطواته الداخليّة بتعيين أعضاء مجلس الأعيان في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 1993، وكان جلّهم من بين صفوف داعميه، "الأمر الذي وفّر له برلمانا مطواعاً للمضي قدماً في مهمة صنع السّلام". المصدر السابق.

مع هذه التغييرات في الداخل ولمس الإدارة الأميركيّة الجديدة بقيادة الرئيس بل كلينتون المنتخب حديثاً جديّة الملك في المضي قدماً، دعت الإدارة الأميركيّة الملك لزيارتها في 16 يونيو/ حزيران 1993. كان ذلك بعد أشهرٍ قليلة فقط من إنجاز الأجندة التي شملت ما سيُوَقع عليه لاحقاً في "اتفاقيّة وادي عربة".

"إذا الفلسطيني فاوض.. خليني أفاوض أنا كمان"

استمرت المفاوضات على كل المسارات حتى يوم 5 سبتمبر/ أيلول 1993، وهو اليوم الذي سيجرف المفاوضاتٍ إلى طريق آخر، وهو طريق التعجيل بـ"وادي عربة". في ذلك اليوم، تفاجىء العرب بنصٍّ كامل لــ"اتفاقية أوسلو" منشورٍ على صحيفة نيويورك تايمز. لم يكن أحدٌ من الوفد الفلسطينيّ أو الوفود العربيّة على دراية بهذا الاتفاق، إذ كان ياسر عرفات ومنظمة التّحرير يعملون هناك في السرّ. بعدها ستجري الأمور على ترتيب احتفال لتوقيعِ "أوسلو" في واشنطن، على أن يُوقع الأردن على الأجندة التي توصل لها مع "إسرائيل".

توقعت الإدارة الأميركية أن تتسارع خطوات الأردن و"إسرائيل" باتجاه توقيع المعاهدة، لكنها تفاجأت أن الملك حسين يحاول تأخير التحرك. يعترف روس: "في الوقت الذي كنا نتوقع منهما تحركاً سريعاً نحو معاهدة سلام إسرائيليّة أردنيّة، إلّا أن خطوات الملك الأولى كانت محدودة، حيث أنه سعى إلى تسخير العملية السلميّة لجلب منافع اقتصاديّة". 7السلام المفقود، دينيس روس، دار الكتاب العربي، ص 229.

مع ذلك لم يستمر هذا التأخير طويلاً، إذ أدّى توقيع اتفاق غزّة-أريحا يوم 4 مايو/ أيار 1994 بين رابين وعرفات، إلى دفع الأردن نحو الإسراع في "وادي عربة". كان الخوف من تقدّم عرفات واحتمالية تأثيره على المصالح الأردنيّة عاملاً في هذا الإسراع، "وبات الملك يعلم أن امتداد إرادة عرفات إلى كل الضفة الغربيّة، وربما إلى القدس الشرقية أيضاً مسألة وقت ليس إلّا… وبالتالي فهو [الحسين] لن يجلس جانباً ويُراقب عرفات يضع يده على مصالحه في القدس أو يتخذ مواقف حيال اللاجئين قد تنعكس على استقرار الأردن". 8دينيس روس، المصدر السابق، ص 229.

بالإضافة إلى ذلك، فقد كان جزءاً من اتفاق غزّة-أريحا يشمل بروتوكولاً اقتصاديّاً يُحدِّد أصناف السِّلع التي يمكن الاتجار بها من وإلى الضّفة الغربيّة وقطاع غزّة، وهو ما سيؤثّر "تأثيراً مباشراً على ما يمكن للأردن أن يُصدِّره إلى المناطق[الفلسطينية] (..) فالأردن لا يستطيع أن يتحمل على المدى الطويل بقاءه بلا قول في طبيعة العلاقات الاقتصاديّة التي ستقوم بين "إسرائيل" والكيان الفلسطيني الوليد والأردن".9دينيس روس، مصدر سابق، ص230. 

كما برّرت القيادة في الأردن هذا الاستعجال بحجة مفادها: "ما دام صاحب الأمر عم بيفاوض مباشرة مع الإسرائيلي.. أنا ما عندي أرض محتلة، لكن أنا كأردن صار عندي حدودي الفلسطينية الإسرائيلية ما فيه عندي مشكلة مع الحدود الفلسطينية، عندي مشكلة مع الحدود الإسرائيلية، خلينا أروح اتفق معهم [الإسرائيليين] طالما الفلسطينيّين أعلنوا اتفاقهم في أوسلو". 

وهكذا في منتصف مايو/ أيار 1994 اجتمع الحسين مع رابين في لندن لتعجيل المفاوضات تحت وقع الدوافع الاقتصاديّة وخطر عرفات. في مساء ذاك اليوم حصل دينس روس من المفاوض الإسرائيليّ روبنشتاين على ملخص ورقة للتفاهمات بين الملك ورابين، حيث "وافق الملك من حيث الجوهر على البدء بصياغة العناصر المكونة لعملية السلام".10دينيس روس، مصدر سابق، ص231. 

في المقابل، استمرت في الأردن التحضيرات الداخليّة لتفصيل حكومةٍ تقبل بالمعاهدة، فعيّن الملك رئيس الوفد المفاوض عبد السّلام المجالي رئيساً للحكومة. يقول المجالي عن الحكومة التي ستوّقع على هذه المعاهدة فيما بعد: "بدأنا الاتصال تلفونيّاً بالأسماء المقترحة، وأخذت أشرح لكلٍّ من المرشحين الخطوطَ العريضة للوزارة التي سأتشرف برئاستها، وكنت أسأل المرشح إذا كان موافقاً أو لا على مشاركتي في الحكومة، ثم أضعه في جو برنامجها".11المجالي، مصدر سابق، ص 260 و 261. حثّ الملك المجالي على الإسراع للابتعاد عن "مأزق الضغوطات والضغوطات المضادة". وبالفعل قبل حلول منتصف الليل من ذاك اليوم كانت الحكومة جاهزة ليعرضها المجالي على الملك. 

يقول المجالي بأنه حرص على اختيار أسماءٍ تمثل مختلف المناطق والزعامات والعشائر، ومن ثمّ جرى التحشيد من خلال الصّحافة الرسميّة لتكون الاتفاقيّة كما لو أنّها مررت بقرارٍ شعبي. ولتكون الاتفاقيّة شرعية عرضت على مجلس النواب لكن مع كثير من التجاوزات.

اقرأ/ي المزيد: برسم "الاستعجال".. كيف مُنحت الباقورة والغمر لـ"إسرائيل"؟

ماراثون مفاوضات حتى الفجر

بالتوازي مع ذلك، استمرت المفاوضات الأردنيّة الإسرائيليّة طوال شهري أغسطس/آب وسبتمبر/ أيلول 1994، كما استمرّت لقاءات الملك حسين ورابين في العقبة وعمان لحسم بعض المسائل العالقة. "في 12 تشرين الأول 1994 طُلب من اللجنتين الرباعيتين الأردنية والإسرائيليّة الاجتماع في العقبة بدءاَ من اليوم التالي، وأن لا تخرجا من الاجتماعات إلا بمعاهدة السلام(..) وفي يوم 16 تشرين الثاني 1994 اتصلت بجلالة الملك حسين لأبلغه أننا انتهينا من وضع المعاهدة باستثناء نقطتين خلافيتين بحاجة لقرار سياسي، أولاهما تتعلق بمنطقة الغمر(..) الباقورة". الطراونة 209. انتقل بعدها الوفدان الأردني والإسرائيلي إلى قصر الهاشمية من نفس الليلة لحل الإشكالية، وطلب الملك من رابين الالتحاق بهم، وانتهى العمل عند الساعة السابعة صباحاً من صباح اليوم التالي. وهكذا وقع المجالي على الأحرف الأولى من الاتفاقية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحاق رابين، واتفق أخيراً على توقيع الاتفاقية يوم 26 أكتوبر/ تشرين الأول 1994.

كان على الحكومة الأردنيّة، وفقاً للدستور، صياغة مشروع قانون لمعاهدة السّلام، ومن ثمّ عرضه على مجلس النوّاب الذي بدوره يرفضُ أو يوافق على القانون بالتصويت. حاول الملك التدخّل في سير عمليّة مناقشة المعاهدة في مجلس النوّاب خلافاً لصلاحياته، وهو ما كشفه رئيس البرلمان الأردني حينها سعد هايل السرور الذي قال له الملك يومها: "بدي المعاهدة الليلة".

داخل البرلمان، استشعر النوّاب خلال الجلسات المخصصّة لمناقشة مشروع قانون تصديق معاهدة السلام في 30 أكتوبر/ تشرين الأوّل 1994، أنَّ هناك استعجالاً، ونقصاً في المواد المعروضة عليهم، ومن بينها ملاحق المعاهدة، لكن أُحيل قانون المعاهدة إلى لجنة مختصّة مكوّنة من عدّد محدود من أعضاء المجلس والتي تناقشت بحضور الحكومة مع أعضاء في فريق المفاوضات، واستطاعت الحكومة وبعض المفاوضين إقناع اللجنة بمشروع قانون المعاهدة ووافق المجلس على الاتفاقية بأغلبية 55 صوتاً مقابل 23 صوتاً.

أخيراً، لم تُوقع وادي عربة في العام 1994، إنما قبل ذلك بكثير، وربّما كانت في العام 1963 أي قبل حرب الأيام الستة، لكن المفاوض انتظر اثنتين؛ غطاءً عربيّاً، والثاني، دعماً داخليّاً. تحقق الأوّل في مدريد وبعدها أوسلو، واختلق الثاني ببرلمانٍ وحكومةٍ مفصلتين، وتحشيد إعلاميّ يُبرر مقولته الأبديّة: فكرّنا بواقعيّة. وهو ما يُمكن صياغته بعبارة أخرى: فكرّ المفاوض بالسّلام بقانون التجارة، ربحٌ وخسارة.