في الثامن عشر من تموز/ يوليو الماضي، قدّمت "قوات الفجر"، الجناح العسكريّ للجماعة الإسلاميّة في لبنان، القيادي محمد جبارة شهيداً جديداً في قائمة شهدائها، وذلك ضمن مشاركتها في جبهة الإسناد التي افتتحها "حزب الله" دعماً لمعركة "طوفان الأقصى" والمقاومة في قطاع غزّة.
ربما ظنّ البعض أنّه تنظيمٌ جديد ظهر على الساحة اللبنانيّة، إلا أنّ تاريخه يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، إبان اجتياح الاحتلال الإسرائيلي لبيروت عام 1982. في هذا المقال، نتعرف على "قوات الفجر" أكثر، ونفهم دلالات مشاركتها في المعركة الحالية.
مفترق طرق
تأسّست "الجماعة الإسلاميّة" في لبنان مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، بعدما تأثرت مجموعة من الشباب اللبنانيّ في مدينة طرابلس الشماليّة بالفكر الإسلاميّ، إذ شكّلت هذه المجموعة نواةً أساسيّةً لما سيُعرَف في وقتٍ لاحقٍ باسم "الجماعة الإسلامية".
لم يكن هناك إطارٌ أو جسمٌ واضح المعالم يتبنّى عمل هذه المجموعة من الشباب، حتى مجيء الدكتور مصطفى السباعي، مؤسس حركة "الإخوان المسلمين" فرع سوريا، وقائد "الكتيبة السورية" التي حاربت في فلسطين عام 1948، وكان قد أُبعِدَ إلى لبنان عام 1952 عقب الانقلاب العسكريّ الثاني لأديب الشيشكلي.
في ذلك الوقت، وإضافةً للمجموعة في طرابلس، كانت هناك مجموعة أخرى للعمل الإسلاميّ في العاصمة بيروت، تُعرَف باسم "جماعة عباد الرحمن"، أسّسها الشيخ البيروتي محمد عمر الداعوق (أبو عمر). كانت "عباد الرحمن" هي فرع الإخوان المسلمين في لبنان، لكن أبا عمر حرص على أن يتمايز قدر الإمكان عن هويّة الإخوان المسلمين في المنطقة حرصاً منه على الجمعية، وإدراكاً للخطر الذي لحق بكل من اتسم بالهويّة الإسلاميّة في تلك الفترة.
وكان حضور مصطفى السباعي إلى لبنان عاملاً في التقريب بين المجموعتين. وهكذا في العام 1956 صار لـ"عباد الرحمن" فرعٌ في طرابلس.1راجعوا حلقة "محطات في مسيرة إبراهيم المصري- الحلقة 2 - بين عباد الرحمن والإخوان المسلمين"، على يوتيوب. لكن اختلاف الرؤى بين فرع طرابلس وبيروت حال دون استمرار العلاقات بينهما. أرادت مجموعة طرابلس أن تبدأ بتدريب شبانها على حمل السلاح والدفاع عن مناطقهم عقب اندلاع ثورة يوليو 1958 ضدّ الرئيس اللبناني الماروني كميل شمعون، والذي كان يسعى لربط لبنان بالمشروع الأميركي في المنطقة، وكانت تلك أولى إرهاصات الحرب الأهليّة ذات الطابع الطائفي بين المسيحيين والمسلمين في لبنان. في المقابل، حرصت جمعية "عباد الرحمن" في بيروت على الابتعاد عن العمل العسكريّ والسياسيّ، والالتزام بالعمل الإغاثيّ والتوعوي والدعويّ. ولذلك، أجبر الشيخ أبو عمر الداعوق مجموعة طرابلس على الانفصال عن جسم "عباد الرحمن" بشكلٍ كامل.
وهكذا عادت مجموعة طرابلس، وعلى رأسهم الشيخ إبراهيم المصري، للعمل بشكلٍ منفصل، وكانوا يمارسون نشاطهم دون الحصول على ترخيصٍ قانونيّ من الدولة، في ظلّ محاربة الحكومة اللبنانيّة لكلّ ما هو إسلاميّ، خاصّةً بعد تنامي التيار الناصريّ من جهة، والتأثر بالسياسة السوريّة تجاه الإسلاميين من جهةٍ أخرى (استمر ذلك حتى عام 1964).
وفي العام 1964، نالت إحدى منشورات مجموعة طرابلس إعجابَ زعيم الطائفة الدرزيّة كمال جنبلاط، والذي كان قد استلم في حينه وزارة الداخليّة وشرع بحملةٍ واسعةٍ ضدّ الفساد الأخلاقيّ الذي كان سائدا في لبنان تلك الفترة. وكان يسعى إلى ذلك، عن طريق التنسيق مع ممثلي الديانتين الإسلاميّة والمسيحيّة المهتمين بهذا الشأن.2كتاب "الجماعة الإسلامية في لبنان منذ النشأة حتى 1975"، إعداد: أمل عيتاني، عبد القادر علي، معين منّاع، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات - بيروت. وبالطبع كانت مجموعة الشباب الطرابلسي آنذاك تحمل هذا الهمّ وتحاول مواجهته قبل أن يتغلغل في المجتمع السنيّ، فكان جنبلاط من سعى إلى إعطاء المجموعة صفة قانونيّة.3راجعوا: "محطات في مسيرة إبراهيم المصري، الحلقة 5 – ترخيص الجماعة الإسلامية.
هكذا، وفي عام 1964، ظهرت "الجماعة الإسلاميّة" في لبنان، وكان أول أمين عام لها الشيخ والداعية فتحي يَكَن، ابن مدينة طرابلس.
العملية الأولى والروايات المختلفة
أما الجناح العسكريّ للجماعة الإسلاميّة "قوات الفجر"، فلتأسيسها روايات متعددة. في الحقيقة، لا توجد في لبنان حقائق تاريخية متفق عليها، حتى أن طوائف البلاد لم تتفق على كتابِ تاريخٍ مدرسيٍّ موحّد حتى اليوم، وتتوقف الدروس في كتاب التاريخ في المدرسة عند الحرب العالمية الثانية، وهي آخر مرة اتفق فيها اللبنانيون على حدث ما. ولا أرى لماذا قد يكون تأسيس قوات الفجر شاذاً عما هو "طبيعي" في لبنان، فكل جهة لديها قصة عن تأسيس التنظيم.
في بادئ الأمر شكّلت الجماعة تنظيماً مسلّحاً عُرِفَ باسم "المجاهدون في سبيل الله"، وذلك عام 1975، أي مع اندلاع الحرب الأهليّة اللبنانيّة، وكان هدف ذلك التنظيم الدفاع عن أهل الطائفة السُنيّة في مناطقهم، وما لبث أن سلم التنظيم عتاده من الأسلحة الثقيلة لقوات الردع العربيّة.4قوة دولية لحفظ السلام أنشأتها جامعة الدول العربية لإنهاء الحرب في لبنان.
لكن ذلك لم يكن آخر عهد الجماعة مع السلاح، وبحسب رواية "الجماعة الإسلاميّة" فإنَّ تأسيس "قوات الفجر" جاء بقرارٍ فعليٍّ من القيادة، بهدف حماية صيدا الجنوبيّة ذات الأغلبية السُّنيّة أمام جيش الاحتلال الإسرائيليّ، وعملائه من مليشيا "جيش لبنان الجنوبيّ"، وذلك بعد قرار انسحاب جيش التحرير التابع لمنظمة التحرير عام 1982 وجميع الأحزاب اللبنانيّة المحاربة.
فما كان من أبناء الجماعة في مدينة صيدا، إلا أن دخلوا وحملوا السلاح المتروك دفاعاً عن المدينة. وبدأت مجموعة من الشبان تنفيذ عمليات فدائيّة ضدّ الاحتلال دون التصريح باسم المجموعة أو الإعلان عن مسؤوليتها، لأهدافٍ أمنيّة. ولم يكن التصريح عن اسم "قوات الفجر – المقاومة الإسلامية" إلا بعد استشهاد أول مجموعة من شباب الجماعة في عملية اشتبكوا فيها مع جيش الاحتلال الإسرائيلي.5"كتاب الجماعة الإسلامية في لبنان منذ النشأة حتى عام 1975"، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
أما الرواية الثانية، فتأتي على لسان مقاتلين في أحزاب لبنانيّة وفلسطينيّة أخرى، تقول بأن شباب "الجماعة الإسلاميّة" كانوا من جملة من ترك السلاح وانسحب من المواقع بعد الاجتياح الإسرائيليّ، أما المجموعة التي نفّذت العملية عام 1983 ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ فكانت لشباب إسلاميين انشقّوا عن الجماعة لرغبتهم في القتال.
وبحسب رواية يرويها أحد المقاتلين القدامى في جيش التحرير، فإنّ الشباب اجتمعوا بأبي جهاد الوزير في إحدى مخيّمات الشمال وانطلقوا لتنفيذ العملية التي استشهدوا فيها.6مقابلة أجرتها كاتبة المقال مع مقاتلين سابقين في جيش التحرير (أبو عبيدة، أبو عمر) في مخيم برج البراجنة 2024. وبحسب هذه الرواية، فإنّ الجماعة الإسلاميّة تبنّت العملية تحت اسم "قوات الفجر – المقاومة الإسلاميّة" في وقتٍ لاحقٍ على اعتبار أنّ الشبان كانوا من كوادرها.
وعلى أية حال، ما يتفق عليه الطرفان فيما يخصّ بدايات الجناح العسكريّ للجماعة الإسلاميّة، فهو أسماء منفّذي العملية الأولى التي أعلنت انطلاق قوات الفجر، وهم قائدها ومؤسسها الشاب جمال حبال، ومحمود زهرة، ومحمد علي الشريف. وأعضاء هذه المجموعة استشهدوا جميعهم في عملية في 27 كانون الأول/ ديسمبر 1983، بعد أن اشتبكوا مع وحدة من "لواء غولاني" في صيدا، قتلوا خلالها عدداً من جنود الاحتلال قبل أن يستشهدوا.
بدون حروب فرعيّة
وفي معركة "طوفان الأقصى"، كانت أولى العمليات التي نفّذتها "قوات الفجر" في الثامن عشر من تشرين الأول/ أكتوبر، ونشرت في حينه بياناً قالت فيه إنّها استهدفت مواقع لجيش الاحتلال بضرباتٍ صاروخيّة ردّاً على استهداف العدو للمدنيين والصحفيين.
توالت بعد ذلك العمليات التي تنفّذها المجموعة، لكن يبدو أنها أخذت خطوة للوراء بعد آخر ضربة وجّهتها للاحتلال، تحديداً لمستوطنة كريات شمونة، والتي كانت في السادس من كانون الثاني/ يناير 2024، إذ توقفت عملياتها بعد ذلك حتى تاريخ اليوم. لكن مع ذلك، لم يتوقف الاحتلال الإسرائيلي عن استهداف قيادات "قوات الفجر" وكوادرها، فقد بلغ عدد شهدائها منذ انطلاق "طوفان الأقصى" 15 شهيداً.
ورغم أنّ مشاركتها في المعركة تعتبر متواضعة، إلا أن "معهد واشنطن للدراسات" أفرد تقريراً يتحدث فيه عن مخاطر "قوات الفجر"، يخلص في نهايته إلى ضرورة وضع المجموعة على لائحة الإرهاب لاحتواء أضرارها المحتملة بأسرع وقت ممكن، وما قد يكون لها من تأثير على المجتمع السُّنيّ في لبنان، من حيث احتمالية تفعيله للمشاركة في القتال ضدّ الكيان الإسرائيلي.
ومع أنّ عناصر هذه المجموعة، بحسب تقديرات التقرير، لا تتجاوز الـ500 فرد، فخطورتها لا تكمن في عديدها أو حتى عتادها، بل في كونها تقدم غطاءً سنيّاً للحالة اللبنانيّة المقاوِمة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. وهذا، فيما لو اتسعت رقعة الحرب وامتدت لتشمل "الجبهة الشمالية"، سيزيد من المخاطر على الاحتلال.
عندها لن يضطر جيش الاحتلال للتعامل مع مقاتلي "حزب الله" ومجموع الفصائل الفلسطينية في لبنان فقط، بل سيتعدى ذلك إلى الشريحة السنيّة في البلاد، والتي تمثّل ربع سكان لبنان. وهي طائفة استثمرت الولايات المتحدة على مدى نحو عقدين من الزمن لأجل تحييدها عن الفكر الجهادي المقاوم للاحتلال الإسرائيلي، تحت مسميات "محاربة الفكر المتطرف" في المناطق الأكثر تهميشاً، على غرار المدن الشماليّة في لبنان، كطرابلس وعكار وغيرها، وكانت أحياناً أخرى تستثمر فيها للإمعان في الشرخ الطائفيّ في لبنان.
وفي ظلّ غياب قيادة موّحدة لهذه الطائفة وانتشار التعاطف السنيّ مع أحداث غزّة، أصبحت الأرضية خصبة للتجييش والحثّ على القتال ضدّ الاحتلال الإسرائيلي خاصّةً وأن راية الجماعة الإسلاميّة السنيّة في الصدارة.
إضافةً إلى ذلك، فإنّ ما يُميّز هذه المجموعة هو أنّها لم تنشط إلا للقتال ضدّ الاحتلال الإسرائيلي حصراً، ولم تخض في حروب فرعية داخلية.. فقد انطلقت من مدينة صيدا الجنوبية، وظلت فاعلة في جنوب لبنان بالتعاون مع "حزب الله" في القرى الحدوديّة السنيّة بمنطقة العرقوب، مثل الهبارية وكفر شوبا وشبعا وغيرها، حتى تحرير الجنوب بشكلٍ كاملٍ من الاحتلال الإسرائيليّ و"مليشيا لحد" في أيار/مايو عام 2000، إضافة إلى نشاطها المحدود خلال حرب تموز 2006. وهذا ما يدفع البعض للقتال تحت رايتها في منطقةٍ أُنهِكَت بالاعتبارات الطائفية، وهذا السبب في ذاته الذي يضعها تحت مجهر "مكافحة الإرهاب" عند الولايات المتحدة الأميركية.
وللطوفان عليهم فضل
في الختام، يمكن القول إنّ جبهة المقاومة الإسلاميّة اللبنانية المتمثّلة بقطبيها السنيّ والشيعيّ، وعلى ضوء انخراطها في جبهة إسناد غزّة، أثبتت نضجاً سياسيّاً انعكس بقدرتها على تجاوز الخلافات حول الشأن الداخليّ اللبنانيّ، والعمل والتنسيق لهدفٍ موحد. وقد تكرّس ذلك بلقاء أميني عام الحزب والجماعة، حسن نصر الله ومحمد طقوش، وهو اللقاء الأول لهما بعد نحو 20 عاماً.7بحسب مقابلة أجرتها الكاتبة مع مدير المكتب الإعلامي للشيخ محمد طقوش، الدكتور وائل نجم.
ومن جهةٍ أخرى، جاء خبر استشهاد الشيخين السلفيين أحمد عوض وخالد ميناوي من مدينة طرابلس، بعد استهدافهما في جنوب لبنان، واللذين نعتهما حركة "حماس" بالقول "إنهما كانا يؤديان واجبهما الإسنادي"، ليعكس ذلك التقارب على المستوى الشعبيّ. فحتى السادس من أكتوبر كان من الصعب جداً تخيّل أن يزور شخصٌ من شمال لبنان جنوبَ لبنان ذي الأغلبية الشيعية.
ومع أن بعض النخب السياسية اللبنانية ترى أن هذا التقارب آني تفرضه الظروف العسكرية والأمنية، إلا أنّه يشكّل فعليّاً حدثاً مفصليّاً في مسار العلاقات اللبنانيّة – اللبنانيّة، لتكون معركة "طوفان الأقصى" معركة مفصلية ليس فقط على مستوى القضية الفلسطينيّة، بل أيضاً على مستوى الوضع اللبنانيّ والمنطقة التي عانت من الطائفية على مدى أكثر من عقد.
أما الشق الآخر من التخوف الأميركي، فيترجمه خبر استشهاد الشابين التركيين بلال أوزتورك ويعقوب أردال مع الشيخين اللبنانيين في جنوب لبنان. فهذا يشي بإمكانية إعادة سيناريو قدوم المقاتلين للجهاد في فلسطين، بعد أن كان هذا الخيار قد انتهى مع تحرير جنوب لبنان عام 2000. وبما أن المنطقة أُنهِكت على مدى العقدين بالحروب الطائفية، فإن وجود حزب شيعي، إضافةً إلى حزبٍ سنيّ مقاوم يعني استقدام مقاتلين من مختلف الأطياف والخلفيات الدينية، لتعود بيروت لتصير "هانوي العرب" في تكرار لمشهدية السبعينيات.