31 مايو 2022

"قاهراً عداك".. معركةُ العلم في حوّارة

"قاهراً عداك".. معركةُ العلم في حوّارة

"بشيلوا علم.. بِنعَلق عشرة"، وهكذا كان التحدي، عشراتُ الأعلام الفلسطينيّة مرفوعةٌ في وسط شارع  رقم 60 الاستيطانيّ الذي يربط مستوطناتِ شمال الضفّة الغربيّة بجنوبها، وتحديداً في جزئه الذي يقطع بلدة حوّارة من وسطها. مجموعاتٌ من المستوطنين تستنفرُ غاضبةً من العلم الفلسطينيّ، فتُساندها كتيبةٌ من جيش الاحتلال، يُزيلون الأعلامَ بعد مواجهةٍ مع الأهالي، ينسحبون، ثمّ يُعاودُ أهالي حوّارة رفع الأعلام من جديد، ويُضاعفون عددَها في كلّ مرة.

أعلامٌ فلسطينيّة مُعلّقة على أعمدة الإنارة وسط الشارع، وأخرى مطبوعة على الجدران، وعلى المكعبات الاسمنتيّة التي يتحصن من خلفها جنودُ الاحتلال. عكس هذا المشهد حالةً جديدة نسبيّاً تعيشها بلدة حوّارة، بعد أن ارتبط اسمها في السنوات الأخيرة بحالةٍ من الهدوء عنوانها المصالح الاقتصاديّة. وبهذا المشهد، استعاد أهالي حوّارة قيمة العلم الثوريّة كأداة للمواجهة وكذلك للتذكير بسياسات الاستيطان والقمع في الضفّة، وضرورة استمرار محاولات الانفكاك منها.

مواجهة تدفع أختها

مع الخامس عشر من مايو/ أيار 2022، وفي ذكرى النكبة الفلسطينيّة، بدأ الفلسطينيّون في أنحاء الضفّة الغربيّة برفع الأعلام الفلسطينيّة في الشوارع العامة وفوق المباني وعلى شبابيك السيّارات. وفي حين تكتسب هذه الخطوة أبعاداً شبه "كرنفاليّة" في بعض الأحيان في داخل المدن، ساهمت السّلطة في خلقها، فإنها اكتسبت بعداً مليئاً بمعاني المواجهة والتصدي لسياسات الاحتلال. 

وهكذا في حوّارة. بدأت المواجهات عندما أزال مستوطنٌ علماً فلسطينيّاً عُلّق على أحد أعمدة الكهرباء وسط الشارع الرئيس (شارع 60 الاستيطانيّ)، فكانت شرارة موجة من المواجهة يخوضها أهالي البلدة، على شكل معارك يوميّة تبدأ برفع الأعلام، ثمّ التصدي لإزالتها من الجيش والمستوطنين، وتنتهي برفعها مجدداً. وهو ما اتسع لاحقاً إلى مواجهات بالحجارة وامتدّ إلى القرى المحيطة، بل شاركت فيه حتى "كتيبة نابلس" بأن تبنت عملية إطلاق نار على حاجز حوّارة العسكريّ، الكتيبة التي تُعرّف نفسها  كامتداد لـ"سرايا القدس"، الذراع العسكريّ لحركة الجهاد الإسلاميّ. 

وعلى غير المعتاد في البلدة، وفي مشهدٍ جديد يُعزّز من حالة المواجهة والتصدي للاحتلال، أصبح من المشاهد اليوميّة في الصباح تسابُق الأطفال على دراجاتهم الهوائيّة لإتمام مهمة رفع الأعلام قبل وصول جيش الاحتلال. بينما يُعيد الشبان رفعها في ساعات الليل المتأخرة وذلك بعد تدخل جيش الاحتلال وإزالتها خلال اليوم. مع التأكيد أنّه ليس "إجراءً بروتوكوليّاً"، بل فعلٌ له غايته، وله أيضاً ثمنه. 

فلسطينيان يحملان العلم الفلسطيني في مواجهة جنود الاحتلال في حوّارة، مايو/أيار 2022. (عدسة: جعفر اشتية/ وكالة الصحافة الفرنسيّة).

عن قرية قُطّعت أوصالها..

تقع بلدة حوّارة في موقعٍ استراتيجيّ يتوسط قرى جنوب نابلس، وتُعتبر حلقة وصلٍ أساسيّة بين تلك القرى، وبينها وبين مدينة نابلس. يعيش فيها حوالي 7 آلاف فلسطينيّ، ويملكون من الأراضي ما مساحته تقريباً 8400 دونم. بعد اتفاقية أوسلو، قُسّمت أراضي القرية؛ 62% منها صُنّفت أراضي (ج)، أي تخضع لسيطرة الاحتلال الأمنيّة والإداريّة، و38% منها أراضي (ب)، أي تخضع للسلطة الإداريّة الفلسطينيّة والسلطة الأمنيّة الإسرائيليّة.

لكن عمليات مصادرة الأراضي بدأت قبل ذلك بكثير، ففي العام 1983 صادر الاحتلال 282 دونماً من أراضي حوّارة لصالح مستوطنة يتسهار، وهي المستوطنة التي يشن مستوطنوها هجماتٍ دوريّة على منازل أهل البلدة ومنشآتهم. كما صادر الاحتلال مساحاتٍ إضافيّة من أراضي البلدة أقام عليها قواعد عسكريّة، الأولى شمالاً قرب حاجز حوارة، والثانية جنوباً قرب تجمع "كفار تبواح" الاستيطانيّ.

ويمرّ شارع رقم (60) الاستيطانيّ من وسط البلدة، وقد شهد في العام 2016 عملية إعادة تأهيل واسعة بإشراف وزارة الأشغال الفلسطينيّة، وبتمويل من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID، بتكلفةٍ وصلت 5.3 ملايين دولار. لكن سلطات الاحتلال باشرت العمل منذ عام 2021 في شق شارعٍ ضخم باسم "التفافي حوارة" لضمان ربط مستوطنات نابلس بمركز الضفة الغربيّة، دون أن يضطر المستوطنون للمرور من قلب حوّارة. 

اقرؤوا المزيد: "علم فلسطين في القدس: بسيطٌ كالماء، واضح كطلقةِ مُسدّس".

ولأهميّة موقعها وتهديده أمن الاستيطان وتوسعه، تخضع البلدة لسياسات قمع ورقابة مستمرة من الاحتلال، بهدف إخضاعها وجعلها مكاناً آمناً لمرور مستوطنيه. إذ يُرصد يومياً وفي معظم أوقات اليوم انتشارُ جنود الاحتلال المُشاة بين المحال التجاريّة على الشارع الرئيس، ويُلحظ التمركز المستمر للجيبات العسكريّة على جنبات الشارع. 

وفي ظلّ هذا الواقع الاستيطانيّ والعسكريّ وما يترتب عليه من قمع، أصبحت حوّارة من نقاط المواجهة الأقلّ اشتباكاً مقارنةً بمحيطها من القرى والبلدات التي تشهد مواجهةً دائمةً، كبلدة بيتا المجاورة والتي تشهد مواجهة مستمرة منذ أكثر من عامين. إضافةً لحاجز حوّارة الذي يبعد ثلاث كيلومترات عن وسط القرية، والذي يشهد بشكلٍ متكرر مواجهات مع جيش الاحتلال، وخاصّةً أيام الجُمع. ورغم تأخر حوّارة في اللحاق بموجة المواجهات، إلا أنّ المواجهة فيها اليوم تتصاعد وتأخد منحناً جديداً. 

مستوطن يحمل علماً فلسطينياً بعد أن أزاله من أحد الأعمدة في حوارة، 27 مايو/ أيار 2022. (عدسة: جعفر اشتية/ وكالة الصحافة الفرنسية).

مصدر الرزق أداة للابتزاز

لم يكن الواقع العسكريّ وحده ما ساهم في ضبط حالة المواجهة في حوّارة، إنّما الواقع الاقتصاديّ أيضاً. تُعرف بلدة حوّارة، باعتبارها بلدة تقع على طريق رئيس ومحوريّ، بمحالها التجاريّة ومطاعمها المنتشرة على طول الطريق. يعمل في هذا السوق المحليّ حوالي 47% من الأيدي العاملة في حوّارة، بينما يعمل حوالي 36% من القوى العاملة في سوق العمل الإسرائيليّ. يضع هذا الواقع 83% من القوى العاملة في البلدة تحت "رحمة الرضى الإسرائيليّ"، وتحت هذا الواقع تُصبح المواجهة "تهديداً" لمصدر رزقهم. 

يُعزّز الاحتلال من هذه الحالة من خلال منح المزيد من تصاريح العمل في القرى التي تشهد اشتباكاً أقل، بينما يحرم جاراتها من ذلك. كما أنّه يُرخي الحبل لمستوطنيه لارتياد هذا السوق، رغم محدودية ذلك إذ لا تتعدى الخدمات التي يتلقونها كراجات تصليح المركبات، وأحياناً محال الحلويات. هكذا يربط الاحتلال مصالح الفلسطينيّين الاقتصاديّة والمعيشية بحالة "الهدوء"، ليبتزهم بها لاحقاً.

وتمثل ابتزاز الاحتلال خلال الأحداث الأخيرة، باقتحام عناصر من الارتباط الإسرائيليّ وبحراسة الجيش لعددٍ من المحال التجاريّة، وتهديد أصحابها، والضغط عليهم بضرورة إزالة الأعلام وعدم التشجيع على رفعها، وقال لهم حرفيّاً، كما نقل أحد التجّار: "العلم ما بعيشك". وبالتكامل مع دور جيش الاحتلال، اعتدى المستوطنون على المحال التجاريّة، واستهدفوا عدداً منها بتحطيم محتوياتها وإطلاق النار في محيطها، كما  اعتدوا على مركبات ومنازل وأصابوا عدداً من الفلسطينيّين بجراح. 

ولتعميق الابتزاز، فرض الجيش سياساتٍ تنكيليّة وعقابيّة واسعة في حوّارة، بدءاً بنشر أعدادٍ كبيرة من الجنود، وحجز الشبان وإخضاعهم للتحقيق الميدانيّ المُذلّ، إضافةً لإغلاق تسعة مداخل فرعيّة بالسواتر الترابيّة، وهي مداخل تربط أحياء حوارة ببعضها وتربطها بالقرى المحيطة، وتلجأ إليها  المركبات في ساعات ذروة الازدحام المروريّ.

لكنّ أهالي حوّارة استكملوا خطواتهم في المواجهة، ومسحوا العبارات المكتوبة باللغة العبريّة على واجهات محالهم التجاريّة، في مبادرةٍ فرديّة اتسعت سريعاً لتشمل كثيرين. كما طرد بعض التجار المستوطنين الذين حاولوا دخول المحال ورفضوا تقديم الخدمات لهم. 

مستوطن يحمل علماً فلسطينياً بعد ان أزاله من أحد الاعمدة في بلدة حوارة، 27 مايو/ أيار 2022. (عدسة: جعفر اشتية/ وكالة الصحافة الفرنسية).

عن إهمال السلطة الفلسطينيّة.. يا وحدنا 

وفي ظلّ المواجهة التي برزت مؤخراً في حوّارة تَكَشف إهمال مؤسسات السلطة الفلسطينيّة للبلدة، رغم تعدادها السكاني الكبير، وموقعها الجغرافيّ المهم، وواقعها السياسيّ. إذ تبيّن أنّها تفتقر لمركزٍ صحيّ قادر على استقبال الإصابات على مختلف درجاتها، أو حتى الحالات المرضية.

ورغم أنّ أهالي البلدة بنوا مركزاً صحيّاً بتبرعاتهم قبل سنواتٍ عديدة، وتبرعوا بقسمٍ منه لصالح كلية ابن سينا للمهن الصحيّة، إلا أنّ السلطة ترفض وتماطل في تطوير المكان وتأهيله بالطواقم الطبيّة والمعدات. وقد فشل المركز في الأيام الماضية في التعامل مع حالات اختناقٍ بالغاز وصلته من المواجهات، وهي إصابات طفيفة يتم علاجها بالعادة ميدانيّاً. ما أجبر الأهالي - كالعادة - على نقل بعض المصابين إلى مدينة نابلس، رغم أن ذلك يهدّدهم أولاً بفقدان حياتهم، وثانياً بالاعتقال على حواجز الاحتلال، وذلك بحسب شهادات من أهالي البلدة، ومنهم وجيه عودة رئيس البلدية السابق، وعضو حالي في البلدية. 

اقرؤوا المزيد: "مقام يوسف.. استيطان برعاية السلطة الفلسطينية".

ويطالب أهالي حوارة بتطوير مركز الطوارئ في البلدة ليصبح مؤهلاً لاستقبال المرضى والحالات الطارئة وخاصّة من إصابات المواجهات. ومن جهة أخرى، يطالب الأهالي منذ سنوات بفتح مكاتب خدمات تُقدم خدماتها لأهالي قرى جنوب نابلس بهدف تعزيز الوجود الفلسطينيّ فيها. 

بعد أيامٍ على المواجهة المستمرة، بات التساؤل المطروح اليوم ليس متعلقاً بكيفية حفاظ حوّارة على على استمرارية مواجهتها فحسب، إنما أيضاً بكيفية ضمان انفكاكها من علاقةٍ اقتصاديّةٍ فُرضت عليها، وبالتالي كيف يمكن أن تصبح  البلدةُ امتداداً وحاضنةً للمواجهة الشعبيّة في جنوب نابلس.



22 نوفمبر 2023
عن الصحافة في زمن الحرب

بعد الضربة القاسية التي تلقاها الاحتلال في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ومنذ انطلاق معركة طوفان الأقصى، تصاعدت الاعتداءات والاعتقالات…

13 سبتمبر 2018
يتامى أوسلو
"غلطة وندمان عليها"

صارت ذكرى توقيع "أوسلو"، بالنسبة للسياسيين و"المستشارين" الفلسطينيين ممّن شاركوا في الوصول إلى الاتفاقيّة، موسماً سنوياً لتلاوة تعويذات التطهّر: "خُدعنا،…