طُرقت أبواب المحاكم الأمريكية مرات لا تحصى، وتحت تشكيلات قانونية متنوعة، بحثاً عن نوع من العدالة للقضية الفلسطينية التي جفَتها أروقة البيت الأبيض، وقد أصبحت أحد أهم ملفات السياسة الخارجية التي يتعامل معها القضاء الأمريكي.
وبالفعل، أسهم القضاء الأمريكي في تقديم السياسات الرسمية والشعبية المتعلقة بالقضية الفلسطينية إلى الشارع العام، ومكّنه من تشكيل موقفه والتحرك وفقاً له، وحاول التأثير في سياسات البيت الأبيض والكونغرس، وفتح عيون الشعب الأمريكي على الدور الخطير الذي تلعبه حكومته باستخدام أموال ضرائبه في انتهاك حق الشعب الفلسطيني طيلة العقود الماضية.
يغوص هذا المقال في أروقة المحاكم الأمريكية لاستكشاف آلية تعامل القضاء الأمريكي وقوانينه مع القضية الفلسطينية، باحثاً في تساؤلات عديدة عن الاختلاف الفعلي بين قرارات المحاكم ذات الهيئات الديمقراطية، والأخرى ذات الهيئات الجمهورية، ودور تعيينات ترامب القضائية وتأثيراتها على موقف القضاء من المسألة الفلسطينية في ظل تطرف تنفيذي وتشريعي داعم لـ "إسرائيل"؟
القضاء في واد.. والبيت الأبيض في واد
يُعدّ النظام القضائي في الولايات المتحدة الأمريكية نظاماً منغلقاً على ذاته، ومعتدّاً بتقاليده حين يتعلق الأمر بالشعوب الأخرى وبالقانون الدولي الذي يحكمها وينظم علاقاتها. فلطالما اكتفت المحاكم الأمريكية بالدستور الأمريكي وقواعد حقوق الإنسان وتحديداً المتعلقة بجرائم الحروب والنزاعات المسلحة المُقنّنة في التشريعات الأمريكية، مستغنيةً بذلك عن القواعد التي يوفرها القانون الدولي العام والقانون الدولي لحقوق الإنسان، والأهم في موضوعنا القانون الدولي الإنساني الذي يحكم الحروب والنزاعات المسلحة.
ورغم ذلك، يُشكل القانون الأمريكي بتدرجاته المختلفة، ابتداءً من الدستور الأمريكي ومروراً بالقوانين الفيدرالية وصولاً إلى تشريعات الولايات المنفردة، منظومة قانونية فريدة وديناميكية إلى حد كبير، إذ يملك إرثاً وطنياً معتبراً فيما يخص علاقات الولايات المتحدة بدول العالم، وما يمكن تصنيفه حقوقَ إنسان وقواعد إنسانية وجنائية لإنصاف ضحايا الحروب والنزاعات من دون حاجة إلى اللجوء لقواعد خارجية.
إلا أن هناك اختلافاً مسيّساً في معظمه يستغل وجود عدد من المعضلات التي تحد من سلطة القضاء الأمريكي في محاكمة السياسة العالمية، وما يُقترف باسمها خاصة من قِبل السلطة التنفيذية الأمريكية المتمثلة في البيت الأبيض، الذي يُعدّ فاعلاً مهماً وشريكاً حيوياً في صناعة الحروب والنزاعات في الخارج وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وإن اختلفت المحاكم في تفسير هذه العقبات حسب المسألة المنظورة أمامها.

وتُعدّ النظريات المتعلقة بفصل السلطات إحدى أهم العقبات المستغلة، منها: نظريتا "السؤال السياسي" و"امتياز أسرار الدولة"، اللتان لعبتا دوراً مهماً في إجهاض عدد من محاولات التقاضي التي حاولت تسليط الضوء على سياسة البيت الأبيض المُموِّلة والمسلِّحة والداعمة لـ "إسرائيل". ففي قضية "كروسبي" ضد حكومة الولايات المتحدة عام 1984، رفضت المحكمة النظر في قضية رفعها دافعو الضرائب الأمريكيون لوقف صادرات السلاح التي تسهلها حكومة بلادهم إلى "إسرائيل"، وذلك بدعوى عدم الاختصاص، وادعت أن القرار بيد البيت الأبيض، لا القضاء. ذلك ما تكرر أيضاً في قضية "بسيون" ضد "نابوليتانو" عام 2010، والتي حاول فيها فلسطينيون أمريكيون وقف صفقة أسلحة أمريكية لـ "إسرائيل" إبان عمليتها العسكرية على قطاع غزة بين عامي 2008 و2009.
إن عجز السلطة القضائية عن إلزام السلطة التنفيذية بقوانين داخلية، يحد من مشاركتها في الأعمال العدائية والمنتهكة لحقوق الإنسان في الخارج، ويُعبر عن فجوة بنيوية. ومن الملاحظ أن نظر القضاء في هذا النوع من القضايا، لا يشهد فروقاً فعلية بين قضاة "الحزب الديمقراطي" و"الحزب الجمهوري"؛ من ذلك التنوع الذي طرأ على الهيئات القضائية المنذورة للنظر في قضية حديثة رفعتها "منظمة الدفاع عن الأطفال" وقوفاً مع ضحايا حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ضد إدارة بايدن ووزيري خارجيته ودفاعه، بتهمة المشاركة الفعالة في جريمة الإبادة الجماعية من خلال التسليح والدعم غير المشروط لحكومة الاحتلال.
وقد نظر في الدعوى بدرجتها الابتدائية القاضي جيفري وايت، وهو قاضي محكمة فيدرالية في كاليفورنيا، معيّن من قبل الرئيس الأمريكي جورج بوش، ما يشير إلى أصوله الجمهورية، وقد رد القاضي وايت الدعوى لعدم الاختصاص كون المسألة المثارة تقع ضمن نظرية السؤال السياسي وخارج نطاق الاختصاص القضائي.
وفي مرحلة الاستئناف، ثارت شبهات حول أحد القضاة الثلاثة الموكلين بالقضية، وهو القاضي راين نيلسون المعين من قبل ترامب وذلك لزيارته السابقة لـ "إسرائيل" ضمن بعثة قضائية، فاستُبدل به قاضٍ آخر جمهوري أيضاً لينضم إلى زميلين أحدهما ديمقراطي عينه الرئيس أوباما والآخر جمهوري عينه جورج بوش الابن. إلا أن الهيئة صوتت بالإجماع بعدم الاختصاص مرة أخرى، ورفضت قابلية القضية للفحص القضائي، رغم أنها اعتمدت على قوانين أمريكية داخلية ومخالفات صارخة لإدارة بايدن والتزاماتها القانونية الوطنية، وقد شكل ذلك سابقة في القضاء الأمريكي وأثار انتقاداً واسعاً واتهاماً بالتحيز والتسييس.
الضحايا حسب ألوانهم
في القانون الأمريكي نصوص تمد اختصاص المحاكم لهذا النوع الاستثنائي من القضايا المتمثلة في إنصاف ضحايا أمريكيين أو موجودين في الولايات المتحدة، تعرضوا لجرائم حرب من "إسرائيل"، إلا أن ما يحول دون ذلك هو منح سلطة تقديرية واسعة للقاضي من أجل البت في هذه القضايا التي لم ترتكب على الأرض الأمريكية، والتي يكون دافعها سياسيا أو حزبيا، مما يُثير انتقادات واسعة بشأن دور القضاء الأمريكي في إنصاف الضحايا.
ورغم أن نصوص القانون الأمريكي - بعيداً عن تطبيقها - تغطي جرائم الحرب المتنوعة خارج الأرض الأمريكية، والتي يقع ضحيتها أو يرتكبها مواطن أمريكي، وفقاً للقسم الثامن عشر من قانون الجنايات الفيدرالي، إضافة إلى قوانين متخصصة، أشهرها قانون "تعويض ضحايا التعذيب" لعام 1991، فإن هذه القوانين تقف عاجزة عندما يتعلق الأمر بالحق الفلسطيني، وعادة ما يُرفض النظر فيها وتُرد بناء على مبررات عديدة، على سبيل المثال لا الحصر: القضية التي رفعها بسام التميمي على عائلة أديلسون عام 2016 لدعمها الاستيطان في الأراضي المحتلة، والقضية التي رفعها ضحايا "مجزرة قانا" على الجنرال الإسرائيلي موشيه يعلون عام 2008 والتي أثيرت فيها حجج الحصانة الدبلوماسية والسؤال ذي الطبيعة غير القابلة للتقاضي.
كما عجزت عن البت في قضايا متعددة، تتضمن ضحايا عربا ومسلمين، باءت كلها بالفشل لاحتجاج المحاكم بعدم الاختصاص ووجود الحصانات الدبلوماسية، أبرزها قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي ضد ولي عهد السعودية محمد بن سلمان، وقضية ضحايا ليبيين ضد حفتر وقواته، وقضية الصحفي المصري محمد سلطان ضد وزير داخلية السيسي حازم الببلاوي.
اقرؤوا المزيد: صناعة العداء.. كيف مُهّدت الطريق لـ "إسرائيل"؟
بينما نجحت القوانين ذاتها في محاسبة الجناة وإنصاف الضحايا حين كان يتعلق الأمر بغير العرب والمسلمين؛ فقد أنصفت المحاكم الأمريكية مواطنين من الباراغواي والسلفادور وإفريقيا في قضايا أهمها قضية فيلارتيجا ضد بينا إيرالا، وقضية دوي ضد سارافيا، إذ رأت الهيئات القضائية الأمريكية أنها مختصة حين يتعلق الأمر بالقتل والتعذيب ولو كان خارج أراضيها ولا يمس مواطنيها مباشرة، لجسامة هذه الجرائم.
وعندما تصبح الضحايا بالمواصفات التي تناسب القضاء الأمريكي، ويكون الجاني عربياً أو مسلماً، تسارع المحاكم الأمريكية إلى رفع العقبات اللوجستية والحصانة الدبلوماسية، فمثلاً، قضية مقتل الصحفي الأمريكي دانيال بيرل عام 2002 على يد نظام طالبان استدعت تدخلاً مباشراً من مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكي، ومطالبات بتسليم الجناة أياً كانت صفتهم لمحاكمتهم في الولايات المتحدة. كما أن قضية مقتل الصحفية الأمريكية ماري كولفين عام 2012 في سوريا استدعت رفع الحصانة عن مسؤولين سوريين ومحاكمتهم وإدانتهم في محاكم الولايات المتحدة بتهم القتل والتعذيب.
ورغم ذلك، استطاعت مسائل أخرى مرتبطة بالقضية الفلسطينية ودعمها في الخارج، أن تفلت من مقصلة عدم الاختصاص القضائي والأعمال السيادية للسلطة التنفيذية ومن تلك المتعلقة بالحصانات الدبلوماسية، وهي بمجملها قضايا تتعلق بحقوق الأفراد والجماعات المناصرة للحق الفلسطيني في أثناء ممارستها حقوقها الدستورية بالتعبير والتجمع والعمل السياسي والتظلّم، خاصة إذا كانت تعمل على الأراضي الأمريكية. وقد اتخذت هذه المسائل أشكالاً متنوعة، بعضها تعلق بحق الأفراد المعارضين لسياسة البيت الأبيض والكونغرس الداعمة لـ "إسرائيل"، وأخرى تعلقت بحق حركات ومؤسسات حقوقية ومدنية وسياسية عاملة على الحق الفلسطيني ومناهضة للاحتلال الإسرائيلي والدور الأمريكي الداعم له.
الكذبة الأمريكية: "استثناء فلسطين"
احتلت حركة مقاطعة "إسرائيل" وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)، حيزاً كبيراً من عمل القضاء الأمريكي، وذلك لما شهدته من التفاف حولها من الأفراد المؤيدين لمسارها. وقد شهدت المحاكم الأمريكية عدداً من القضايا الناجحة، التي استطاعت إنصاف المقاطعين لـ "إسرائيل" ورفضت معاقبتهم على حقهم بالتعبير، ومنها: قضية جوردال ضد بروفيتش 2018، وقضية عماوي ضد مدارس مقاطعة فلوجرفيل 2019، وقضية مارتن ضد النظام الجامعي في ولاية جورجيا 2021. وكان القاسم المشترك بين هذه القضايا أن أصحابها حرموا من عقود عملهم وفرص مهنية متنوعة، بسبب رفضهم توقيع وثائق تؤكد عدم مقاطعتهم لـ "إسرائيل"، أو استجابتهم لقوانين محلية مناهضة لحركة المقاطعة أو لسياسات داخلية للمؤسسات التي يعملون لديها. وأكدت المحاكم في القضايا الثلاث حق أصحابها بالتعبير عن مقاطعتهم لـ "إسرائيل"، واتخاذ مواقف معادية من سياساتها، ورفض أي عقوبة لهم على ذلك.
ولكن لم يكن الأمر وردياً ومنحازاً لأصحاب الحق طوال الوقت؛ فقد شهدت محاكم أمريكية عديدة معارك قانونية طاحنة بين مشروعية عمل حركة المقاطعة وتبني مبادئها، وبين معاداة الحكومات المحلية والفيدرالية لها بوصفها نوعاً من الحركات التمييزية و"المعادية للسامية". وانتصرت في بعضها سياسة الحكومات المناهضة للحركة، وتم تثبيت القوانين التي تعاقب أتباع الحركة ومؤيديها. ومن أبرز أمثلة هذه القضايا، قضية أركانساس تايمز ضد والدريب التي نتج عنها قانون محلي يلزم المتعاقدين مع الحكومة بالتعهد بعدم مقاطعة "إسرائيل"، لكنها خسرت في مرحلة الاستئناف بعد أن أكدت المحكمة أن النشاط المذكور نشاط تجاري غير محمي بموجب التعديل الدستوري الأول بحق التعبير.
اقرؤوا المزيد: "استير" وأخواته.. كيف يُحرّم ترامب انتقاد "إسرائيل"؟
وبالمثل، قضت محكمة استئناف في ولاية تكساس بمشروعية قانون مناهضة حركة المقاطعة في الولاية لدى نظرها في قضية إيه أند آر للهندسة ضد مدينة هيوستن عام 2022، والتي تحدت فيها الشركة القانون بوصفه مخالفاً للدستور، وقد خسرت دعواها في مرحلة الاستئناف.
وفي هذا المربع بالذات تظهر الفروق الجلية بين الهيئات القضائية ومعتقداتها، لدى تكييف حيثيات القضية وزاوية الفحص وإعمال السلطة التقديرية، وإيجاد الاستثناءات التي تحكمها إلى حد بعيد فلسفة القاضي وتوجهاته، ويمكن النظر إليها من ناحية الانتماء الحزبي، وتأثير المعتقدات المحافظة واليمينية المؤيدة تاريخياً لـ "إسرائيل".

ورغم أن 38 من أصل 50 ولاية أمريكية أقرت قوانين تجرم عمل حركة المقاطعة، وهي ولايات متنوعة في هيئاتها الحاكمة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، فإن المحاكم في كثير من هذه الولايات كان لها رأي آخر اختلف بحسب الهيئة القضائية التي تنظر في القضية. على سبيل المثال، فرض القاضي روبرت بيتمان، الديمقراطي المعين من الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، أمراً قضائياً أولياً بوقف تنفيذ قانون ولاية تكساس المناهض لحركة المقاطعة، لوجود شبهات في انتهاك حق التعبير المكفول بالتعديل الدستوري الأول. وكذلك فعل القاضي مارك كوهين، الديمقراطي المعين من قبل أوباما أيضاً، في ولاية جورجيا. في المقابل، أقرت هيئات قضائية جمهورية في ولايات مثل أركانساس وتكساس في مراحل الاستئناف بمشروعية قوانين مناهضة حركة المقاطعة، متبنية وجهات نظر أكثر محافظة وميلاً لـ "إسرائيل".
هذا النهج ليس مطلقاً، إذ نجد من كلا الحزبين قضاة يخالفون المتعارف عليه، من ميل أحزابهم سواء الليبرالية أو المحافظة، ليخرج الحكم متفقاً أكثر مع الشخصية الفردية للقاضي، إذ يميل بعض القضاة الديمقراطيين أيضاً إلى الحركة الصهيونية والأعمال السيادية المؤيدة لها على حساب حقوق الأفراد والجماعات المؤيدة لفلسطين، ضمن استثناء تهكميٍّ شهير في الولايات المتحدة وهو "استثناء فلسطين"، ويُقصَد به التحرر والتقدمية والشفافية في كل القضايا باستثناء تلك التي تخص القضية الفلسطينية. بينما يقدّم بعض القضاة الجمهوريين القانون وحقوق الأفراد على معتقدات أحزابهم. فعلى سبيل المثال، تبنى القاضي الجمهوري أندرو هانن المعين من الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن الحكم بمخالفة قانون مناهضة حركة المقاطعة للدستور في ولاية تكساس أيضاً عام 2022.
قاض يهودي.. قاض صهيوني!
تثور مسألة أخرى تدور في فلكها معتقدات القضاة وانتماءاتهم الحزبية، ألا وهي مسألة "معاداة السامية" ومدى مخالفتها لحق التعبير والتجمع لمناصري الحق الفلسطيني في الولايات المتحدة. وقد امتلأت أروقة المحاكم بالمتقاضين الساعين لمنع التظاهر والعمل الشعبي المناصر للقضية بحجة "معاداة السامية"، أو أولئك الذين عوقبوا واستُلبت حقوقهم بتهم "معاداة السامية" لمجرد مناصرتهم للقضية الفلسطينية، حتى غدت هذه المسألة من أهم محددات القضية الفلسطينية في الداخل الأمريكي.
وقد أُثيرت هذه المسألة في المحاكم ضمن سياقات متعددة يتعلق أغلبها بالحركة الطلابية والمؤسسات التعليمية في الولايات المتحدة، بينما يتعلق بعضها الآخر بالمؤسسات الحقوقية والشعبية العاملة في مجال الحق الفلسطيني. ففي قضية رفعها "الصندوق القومي اليهودي" على "منظمة معسكر الحقوق الفلسطينية" عام 2021، وقد اتهمها بـ "معاداة السامية" ودعم "الحركات الإرهابية" وعلى رأسها حركة حماس، ردّ القاضي كيتانجي جاكسون - وهو ديمقراطي معين من قبل أوباما - القضية لعدم كفاية الأدلة، بينما سمح القاضي الجمهوري أف دينيس سايلر بسماع دعوى طلاب يهود ضد جامعة هارفارد، التي اتهموها بالسماح بـ "معاداة السامية" وعدم حمايتهم في أثناء ثورة الاحتجاج الطلابية التي عمت جامعات الولايات المتحدة عام 2024.
اقرؤوا المزيد: حراك الخيام المنصوبة في أميركا
وما تزال بعض القضايا المفصلية في حركة الاحتجاج الطلابي وعلاقتها بحرية التعبير من جهة، واتهامات "معاداة السامية" من جهة أخرى على طاولة القضاء وتنظرها هيئات قضائية من الحزبين. ومن المنتظر أن تكشف نتائج هذه القضايا عن توجه سياساتي جديد ومفصلي في الولايات المتحدة بخصوص حركة مناصرة القضية الفلسطينية إما بالسلب وإما بالإيجاب.
قضاة ترامب يتعلمون في محاكم "إسرائيل"
انطلاقاً مما سبق؛ تثور العديد من المخاوف من الأثر الذي ستتركه التعيينات القضائية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وقد عُرِف عن القضاة الجمهوريين في أغلب الأحوال فلسفة قضائية محافظة تميل إلى المبدأ الأصلاني في تفسير النص وتطبيقه، ما يعني الميل إلى التفسير الضيق المتشدد، والذي قد لا يأخذ بعين الاعتبار الديناميكيات المختلفة للقضية التي يتسيّدها البعد الإنساني. إضافة إلى الإرث المتقوقع والتفوقي لدى بعض قضاة الحزب الجمهوري، خاصة في أطيافه الأكثر محافظة ويمينية، حين يتعلق الأمر بالشعوب الملونة والمضطهدة ذات الانتماءات الدينية والثقافية التي لا تفضّلها الولايات المتحدة، ويترأس الشرق الأوسط وبلاد المسلمين قائمة هذه البلدان. بينما يميلون في المقابل، وإن كان بصفة خفية ومتفاوتة من هيئة قضائية إلى أخرى، باتجاه دعم السياسة الخارجية لأحزابهم والرؤساء الذين عيّنوهم لتقاطع الرؤى والمعتقدات.
وتتجاوز هذه المخاوف حدود التكهنات والافتراضات المسبقة باتجاه التحيزات الواقعية لكثير من القضاة الذين عيّنهم ترامب إبان فترته الرئاسية الأولى، فقد شهد آذار/ مارس 2024، توجه بعثة قضائية جُلها من قضاة عيّنهم ترامب إلى "إسرائيل" في رحلة رسمية تهدف للاطلاع على النظام القضائي الإسرائيلي، وسير العمليات الحربية في "إسرائيل" خلال الحرب على قطاع غزة. الأمر الذي جرّ زوبعة من الشكوك والتخوفات من تأثير هذه الزيارات على منظور القضاة، وتجردهم وحياديتهم لدى النظر في القضايا التي تتعلق بالحق الفلسطيني في المحاكم الأمريكية.
اقرؤوا المزيد: فلسطين في أميركا: جيل Z لم يضل الطريق
وقد بدأت أمارات التحيز تطل برأسها من قضاة ترامب بعد اندلاع حرب الإبادة في قطاع غزة عشية 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، إذ قام القاضي الفيدرالي لي رادوفسكي - المعيّن من قبل ترامب - بفحص آراء وتوجهات الموظفين في محكمته تجاه ما أسماها حرب "إسرائيل - حماس"، ليتأكد من أن أياً منهم لا يحمل أجندات "معادية للسامية".
ختاماً، قد لا تكون المحاكم الأمريكية الساحة الأمثل لإحقاق الحق الفلسطيني في الخارج، ولكنها قناة تستحق الطرق للحفاظ على جذوة الحركة المناصرة للقضية في الداخل الأمريكي، وهي حركة قادرة على التأثير، ولو على المدى الطويل. إذ إن المحاكم الأمريكية غالباً ما تجتذب اهتماماً إعلامياً قادراً على تحريك الشارع الأمريكي وتوجيه دفته، خاصة أن الإعلام يدرك أي قدرة يملكها القضاء على تشكيل السياسات العامة، وردع سلطة الدولة وتقييدها والتحكم بدفة الواقع. وعليه، فإن كثيرا من المتوجهين إلى القضاء الأمريكي خاصة في المسائل الجدلية والقضايا الكبرى والعالمية يضعون نصب أعينهم المعركة الإعلامية التي ستثيرها القضية، وتأثيرها على الرأي العام، وحركة الشارع أكثر من نتائج القضية الفعلية لاحقاً.
وقد تشهد فترة حكم ترامب تغييراً كبيراً وتضييقاً واسعاً على العمل المناصر للقضية الفلسطينية؛ سواء بالقوانين المزمع سنّها أو بالتعيينات القضائية المنتظرة، غير أن معركة الوعي في الشارع الأمريكي قد لا تقف عند هذا الحد، وستظل جذوة السجال مشتعلة بالاعتماد على طول نفس أطرافها، وقدرتهم على خوض المعارك القضائية والإعلامية والشعبية.