25 سبتمبر 2024

في غزة .. الحاجة أمُّ المهن

في غزة .. الحاجة أمُّ المهن

في ميدان فلسطين "الساحة" وسط قطاع غزة، سوقٌ مستجدٌّ وصاخبٌ يعجّ بالبسطات الصغيرة التي يحتار أصحابها فيما يمكن بيعه، ليحققوا دخلاً بسيطاً يوفر مصروفاً يومياً لعائلاتهم ولو بالحدّ الأدنى. ذلك لأن الجلوس من غير مهنةٍ قرابة العام من حرب الإبادة فعلٌ عقيم، إذ لا يمكن لأحدٍ أن يطرق بابك ليختصّك بوظيفةٍ ضمن مجالك ولو كنتَ اسماً علَماً فيه، ولا ترسل الجهات الحكومية ولا الخاصة روابط رسمية لاختبارات الوظائف السنوية وفق التخصصات المطلوبة لهذا العام. 

أما الأنشطة التجارية فقد تعطّلت كلها بسبب إغلاق المعابر التي تورّد البضائع التجارية لسكان القطاع، يُضاف إلى ذلك هدم المصانع والمعامل المصنِّعة للبضائع والموارد المحلية التي بدورها توفر فرصاً مختلفةً لعمل الشباب.

لم يبكِ أهالي القطاع الذين يُعرفون بحميّتهم وقدرتهم الإنتاجية العالية على أطلال وظائفهم التي حُرموا منها، وقد انتزعت الحرب رؤوس أموالهم وبيوتهم وأماكن عملهم حتى لم يبق لهم مورد ماليّ آخر. 

في طريقي إلى الميدانِ ذاته حيث مشفى المعمداني أقصدُها لإجراء بعض الفحوصات، كانت شمسُ  الصيف تُشعل حرارتها في أجساد الباعة الكادحين على جانبي الشارع، وحين يشتد حسيسها فوق رؤوسهم وتجفّ أرياقهم ينادي أحدهم على شابٍ يحمل ثلاجته المتنقلة بين يديه، ولازمته المشهورة منذ الصباح: "مية متلجة، مية متلجة"، وللمرة الأولى أتجرأ على سؤاله " بكم الكيس؟"، ردّ سريعاً "بشيكل واحد". 

وحين قررت شراءه أخبرني بأنه كان يعمل قبل الحرب في مغسلة للسيارات بيومية تُقدّر بـ 40 شيكلاً، لكنّها لم تعُد مهنة مجدية بعد تلف العدد الأكبر من السيارات، وعدم توفر السولار اللازم لتشغيل ما بقي منها، وقد وجد مؤخراً أن مهنةً جديدةً -أظهرتها الحرب بسبب شُحّ المياه النظيفة وانعدام العبوات البلاستيكية والثلاجات-، قد تُسعف عائلته في إيجاد المال -وإن لم يكفهم-.

بائع الماء المثلج يتنقل بثلاجته الممتلئة بأكياس الماء، في ميدان فلسطين وسط قطاع غزة. (تصوير: آية صبري أبو طاقية/ متراس)

من مصنعٍ صغيرٍ للخياطة لا زال يعمل بالطاقة الشمسية، يشتري الشاب بهاء الملاحي مطلع كل يومٍ قرابة 100 كيس من الماء بسعر 70 شيكلاً ليتجول بها في الأسواق الرئيسية طوال النهار ويحقق ربحاً يتراوح ما بين 25-30 شيكلاً لا تكفي لشراء ربع كيسٍ من الحليب الذي اشتريتُه أنا -مضطرةً- من بسطةٍ قريبة بسعر 100 شيكل مع بالغ الأسى والأسف. 

لكنّ بهاء يصرّ أن لا تتوقف ساعته في انتظار أن تنتهي الحرب، لديه أفواهٌ تنتظر عودته ووقتٌ يستحرم تعطّله بينما يُمكنه فعل القليل، المهم أن لا يموت عالةً.

مهنٌ جديدةٌ أفرزتها مرارة الحرب حين أتت على البنية التحتية للقطاع، ولم تُبق أثراً لإمدادات الكهرباء ما يضطر المواطنين للجوء إلى خدمة الشحن المدفوع، وقد صارت مهنة منتشرة بعد تكرارها في كل حيّ تقريباً، حيث ستجد الطاولات الممتدة تعجّ بعشرات الهواتف النقالة والبطاريات مختلفة الأحجام تتصل بأسلاك الكهرباء وأجهزة الشحن. 

هذه الخدمة الاستثنائية يوفرها مواطنون يحظون بألواح الطاقة الشمسية الناجية من آثار القصف، مساءً يعاود الأهالي ليتسلّموا بطارياتهم بعد التأكد من شحنها كاملةً، وهم يؤكدون على بائع الخدمة الجديدة "يارب ما تقطعنا الليلة" في إشارةِ لضرورة أن يكفيهم شحن البطارية المخصصة لإضاءة "اللدات"، وهذه طريقة الغزيين في إنارة غرفهم وخيامهم ليلاً منذ بدء الحرب، حيث السواد المنتشر في الشوارع والعتمة التي تزيدها وحشةً صوتُ "الزنانات" فوق رؤوس الأشهاد تُفسد طمأنينتهم المفتعلة ولو بشقِّ ضوء.

بسطة تقدم خدمة شحن الهواتف والبطاريات مقابل مبلغ من المال. (تصوير: آية صبري أبو طاقية/ متراس)

على البوابة الخارجية للمعمداني حين كنت على وشك اللحاق بباصٍ  مهترئٍ أعيد ترميمه ليبدو أكثر رشاقةً في سياقته، اصطدمتُ بأحد أقاربنا الذي يعمل مع عائلته في تجارة الملابس النسائية والأطفال في حيّ الشجاعية. شابٌ صغيرٌ يجلس خلف جهاز الحاسوب قبالة المشفى،  يُسجّل بيانات الباحثين عن روابط المساعدات الإغاثية التي تقدّمها المؤسسات الدولية في ظلّ انعدام البضائع التجارية التي يُمكن شراؤها من الأسواق. 

يمرّ المواطنون المحرومون من خدمة الانترنت في مناطق سُكناهم أو نزوحهم، ليُدخل "مسجل البيانات" معلوماتهم المطلوبة على الروابط الرسمية والموثوقة. مهنةٌ جديدة اختارها الشاب العشريني منذ مارس الماضي، ويتلقى بذلك 3 شواكل مقابل التسجيل الواحد لكلّ مواطن.

منذ السابع من أكتوبر الماضي فُقدت أكثر من ثلثي الوظائف الموجودة في القطاع، واختُرعت على إثرها مهنٌ أكثرُ حاجةً ونفعاً، أو استبدلها أصحابها بفتح بسطاتهم الخاصة، أينما تولِّ وجهكَ هُنا ثَمّة بسطات تبيع كل شيء يخطر على بالك أو لعله لم يخطر.

لديّ زميلٌ يعمل موظفاً منذ سنواتٍ في أحد البنوك المحلية، في كلّ مرةٍ أمرّ بها من شارعه الذي أعرفه، أقتني مجموعةً من الكتب والروايات التي يعرضُها على بسطته الصغيرة، قال لي ذات يوم "البنوك مسكرة يا آية، بدي أركِن عشغلي القديم بنموت من الجوع، بدناش نموت".

أما إغلاق البنوك وتدميرها فلم تودِ بفرص هؤلاء الموظفين فقط، لتطال عمليات الشراء اليومية حين يرفض الباعة التعامل مع العملات القديمة التي اهترأت في أيادي المواطنين مدة عام كاملٍ دون استبدالها. شخصياً كلما حاولتُ إقناع بائعٍ "ياأخي مش وقته هذا الترف، شو نعمل بالفلوس"، رفض مسرعاً "والله لو في بنوك كان أخدتها".

كارثةٌ اقتصاديةٌ حاول بعض الشّبان التحايل عليها بابتداع طريقةٍ جديدةٍ لغسل الأموال وتنظفيها وهي مهنةٌ -لا شكّ- وليدةُ الاستغلال والجشع، حيث يقوم المختصّ بذلك بتثبيت العملة الورقية على سطحٍ مستوٍ بمادة لاصقة ثم يبدأ توزيع المادة الكيميائية المستخدمة في التنظيف - بحذرٍ- على حوافها، وذلك عبر فرشاة صغيرة  ثم تُمرر العملة بين دولابين ملتصقين من الجلد المقوى لتخرج بصورة أفضل مما كانت، هذا الجهد يكلّف شواقل بسيطة يتقاضاها صاحب المهنة مقابل أن يعيد ترميم الورقة التي قد ننجح نحن في تمريرها للباعة وقد لا ننجح.

ما نفعله لا يشبه المهن العادية بالتأكيد، وهي أقرب منها للأشغال الشاقة التي يفرضها عليك السجّان إمعاناً في عقابك ومحاصرة اختياراتك، لم تُبق الحرب لنا غير أفكارٍ بدائيةٍ نغتنم فيها مهاراتِنا البدائية لتبدو في ظاهرها المهنة الناقصة بين مجموع المهن، والحقيقة الوحيدة أنها لا تُشبه طبيعة الناس هنا في شيء، لكنها إجبارات الحربِ وانتكاساتها التي أخفت وظائفنا قسراً حتى جعلتنا ننُكر على أحدهم أنه لا زال قائماً على رأس مهنةٍ قديمة.