20 أبريل 2022

"فدا الأقصى": بعضُ ما تعرّض له معتقلو المُصلى القبلي

"فدا الأقصى": بعضُ ما تعرّض له معتقلو المُصلى القبلي
* تم تحديث المقال يوم الخميس 21.04، الساعة الخامسة عصراً.

الساعة التاسعة والربع تقريباً من صباح يوم الجمعة الثانية من شهر رمضان، الموافقة منتصف شهر أبريل/ نيسان 2022، وفي سابقةٍ غير معهودةٍ بهذه الدرجة من القمع والضرب، اقتحمت قواتُ الاحتلال الإسرائيليّ المُصلى القبلي، أحد مصليات المسجد الأقصى المبارك، بعد تفجير باب عيادة الإسعاف الملاصقة له من الجهة الشرقيّة. 

كان في المصلى القبلي آنذاك مئات الشبان الفلسطينيّين الذين اعتكفوا فيه لإفشال أي اقتحامٍ مُحتمل للمستوطنين بالتزامن مع عيد الفصح اليهوديّ (الذي بدأ مساء الجمعة ويستمر حتى مساء الجمعة 22.04)، وخاصة مع تكرار الدعوات من "منظّمات الهيكل" لتقديم قرابين العيد داخل المسجد. 

كانت المواجهات بين الشبان وبين قوات الاحتلال قد بدأت قبل السادسة صباحاً بقليل، وخلالها احتمى الشبانُ داخل المصلى القبلي وأغلقوا أبوابه عليهم من الداخل، فيما أغلقت قوات الاحتلال الأبواب ذاتها من الخارج بجنازير من حديد.

ومن قلب المصلي القبلي، اعتقلت قوات الاحتلال أكثر من 470 شاباً فلسطينيّاً، عددٌ كبير منهم من كان مصاباً بفعل الرصاص المطاطي أو الغاز أو الضرب بمختلف وسائل القمع. وكانوا من مختلف الأعمار، ومن مختلف المناطق؛ من الضفّة الغربيّة والقدس والأراضي المحتلة عام 1948. 

آثار العدوان الإسرائيلي على المُصلى القبلي نهار الجمعة 15 أبريل/ نيسان 2022. (عدسة: مصطفى الخاروف/ الأناضول).

منذ مساء الجمعة حتى مساء الثلاثاء (19.04)، أُفرج عن الغالبية العظمى من المعتقلين (ويبدو أن الأفراج السريع لبعضهم جاء بعد جهود قانونية موسعة لأكثر من 10 محامين تطوعوا لمتابعة قضاياهم)، بعد أن جمعت شرطة الاحتلال بصمات أياديهم، ووقعّتهم على قرارات بالإبعاد عن المسجد الأقصى والبلدة القديمة للقدس لـ15 يوماً (حتى شباب الضفّة الذين بالكاد يستطيعون الوصول حصلوا على مثل هذه الإبعادات) ، ومع توقيع كفالة في حال أخلّوا بالشرط بمبالغ تتراوح بين 5 آلاف -10 آلاف شيكل. كما عيّنت لكثيرٍ منهم مواعيد لاحقة خلال هذا الأسبوع للتحقيق معهم في مقراتها. وقد بقي رهن الاعتقال حتى مساء الخميس (21.04) ما يقارب 7 شبان من الضفّة الغربيّة وأراضي الـ1948.

لغرض توثيق عملية الاعتقال وما تخللها من تنكيل وتعذيب، تحدثنا في "متراس" مع 4 شبان كانوا من بين المعتقلين، فضّلوا الإدلاء بشهادتهم دون الإشارة إلى أسمائهم، لذلك فإنّ كلّ الأسماء المذكورة هنا هي أسماء مستعارة.

عواميد المصلى القبلي للاحتماء من المطاط

يروي الشّبان أنّهم تفاجئوا بقوات الاحتلال تقتحم المصلى القبلي، وقدّر أحدهم عددهم بحوالي 200 جندي. نادى جنود الاحتلال بسمّاعة معهم يأمرون الشبان بالجلوس والبقاء في أماكنهم، بالتزامن مع إطلاقهم الرصاص المطاطيّ على كلّ من يتحرك ولا يمتثل لتلك الأوامر. يقول سعيد (21 عاماً): "كنا نحاول الاحتماء خلف العواميد المنتشرة في القبلي لنتفادى إصابات الرصاص المطاطي". 

لكن الضرب لم يُوفّر أحداً، فحتى من جلس ولم يعد يتحرك كانوا يستهدفونه بالرصاص المطاطيّ. عن ذلك يقول أحمد (24 عاماً): "أي واحد واقف بضربوه، كانوا داخلين زي اللي بصيّد عصافير بالمطاط. أنا أخذت مطاطة على وجهي، وبعدين لما وقعت على الأرض، ورغم أني واقع على الأرض، كمان مرة ضربوني مطاطة على رجلي، من مسافة صفر تقريباً".  

جميل (22 عاماً)، حصل معه الأمر نفسه إذ يقول: "ضربني مطاطة في رجلي وأنا قاعد ومرمي على الأرض، وضربني بقاع البارودة على طرف عيني!".

أما علي (21 عاماً)، فيضيف بأنّه رأى آثاراً لرصاصٍ حيّ، لا رصاص مطاطيّ فقط. وأضاف أنّهم استخدموا في هذا الاقتحام لضرب المعتكفين عدة وسائل: الهراوات، العصي الكهربائيّة، والضرب بأيديهم والخبط بأقدامهم، وكذلك بأعقاب البنادق.

سيطرت قوات الاحتلال على الشبان وبدأت بإجبارهم على الانبطاح أرضاً، وربط أياديهم وراء ظهورهم بمرابط بلاستيكيّة وشدّها إلى أقصى درجةٍ مُمكنةٍ ممّا تسبّب بأوجاعٍ شديدة للكثيرين منهم. وصادرت منهم هواتفهم النقّالة وبدأت بجمع أسمائهم وبفحص بطاقات هوياتهم.

وقد ظهر في فيديو صوّره بعضهم قبل اعتقاله كيف أُجلس بعض الشبان منبطحين أرضاً. خلال تلك الفترة، لم تتوقف عمليات الضرب والإهانة. يقول أحمد "كل من يتحرك ولو قليلاً، يرفع رأسه يحرك قدمه… يضربونه وهو ملقى على الأرض". ليس الضرب وحده، يُضيف: "كانوا يتعمدون إهانتنا، فأطلقوا جميع أنواع المسبات علينا وعلى نسائنا، بل على النبي محمد عليه الصلاة والسلام".

باب المغاربة.. محطة التعذيب الثانية

خروجاً من باب المغاربة، الباب الجنوبيّ الغربيّ للمسجد الأقصى، والمؤدّي إلى ساحة البراق، اقتادت قواتُ الاحتلال مئات الشبان، وتركتهم ينتظرون مدداً زمنيّة متفاوتة إلى حين وصول الحافلات لنقلهم إلى معسكرٍ للجيش، يعرف باسم "متسودات أدوميم".

في فترة الانتظار هذه تعرّض الشبان لكلِّ صنوف الضرب والتنكيل، إذ كانوا يتلقون الركلات والكفوف والإهانات بين الحين والآخر من الجنود. أما من وقف منهم عند مدخل باب المغاربة الخارجيّ، باب البلدة القديمة، وبالقرب من ساحة البراق، فقد تلقّى الإهانات أيضاً من المستوطنين المتوجهين للصلاة أمام حائط البراق. 

يصف جميع من تحدثنا إليهم حالةً من التعذيب والإهانات المستمرة على مدار ساعات الانتظار في منطقة باب المغاربة، بعضهم قضاها تحت أشعة الشمس وهم صائمون. وأشاروا إلى أنّ من تبيّن أنّه من منطقتي جنين أو نابلس، فقد تلقى صنوفاً مضاعفة من التعذيب في كل محطة من محطات الاعتقال. وذلك نظراً لحالة المقاومة المتصاعدة من المنطقتين مؤخراً، وهو ما يمكن تصنيفه كنوع من العقاب الجماعي. 

بعضٌ من معتقلي المسجد الأقصى يوم الجمعة 15 أبريل/ نيسان 2022، أثناء انتظارهم بالقرب من باب المغاربة بانتظار نقلهم إلى معسكر "متسودات أدوميم". (عدسة: مناحم كهانا/AFP)

يقول جميل: "اللي بحكي مع صاحبه يضربوه، اللي بقول ايدي بتوجعني ياكل قتلة، الشاب اللي يكون من جنين يكسروه بزيادة ويضربوه..". أما أحمد فيقول: "اللي من جنين بالذات انضربوا اكثر وتم إهانتهم اكثر، يضربوهم يمسكوا الواحد ويضربوا راسه بالزجاج، بدكم تسووا شهداء؟ بدكم تبعثوا استشهاديين؟؟ ويبزق عليه". 

علي يؤكد ذلك في شهادته، فيقول: "في الطريق لباب المغاربة الخارجي كان في طابور طويل، كل واحد منا كان ينضرب، إذا بترفع راسك بتنضرب، إذا بتتحرك يمين شمال بتنضرب، كل شوي يحكيلنا راسك لتحت ويضربنا، كانوا الجنود كثار، كل أنواع الجنود، شرطة ويسام ومشمار جفول، وكانوا يضربوا كل حدا حتى الشباب اللي بتنزف ومصابة، كنت تحكي للشرطي ايدي بتوجعني من المرابط، يحكيلك: "مش انت زلمة وطبشت علينا؟؟ يلا بدك تتحمل".

ولأنّ جزءاً كبيراً من الشبان كان مصاباً بفعل اعتداء قوات الاحتلال عليهم من شبابيك المصلى القبلي وغيرها، فقد كانت معاناتهم مضاعفة، إذ رفض جنود الاحتلال تقديم الإسعاف لهم. يقول جميل: "كان معنا شاب مريض كلى، لما صار يقول انه موجوع واحنا في منطقة باب المغاربة، قال له الجندي: "تطلبش مني إسعاف، انا مش اخوك، لو انا اخوك مكنتش بترمي عليّ حجار".  

أما سعيد الذي كان بنفسه مصاباً برصاصةٍ مطاطيّة في رأسه وينزف، فقال: "سألني الجندي بس شافني بنزف إذا كنت بحاجة لإسعاف، فقلت له: لا، لأني بديش أذل حالي الهم، فقال لي: أحسن، أصلا مكنتش بدي اجيبلك". ويضيف سعيد بأنّ جندياً آخر قام لاحقاً برفع الطاقية الملحقة بسترته وألبسه أياها على رأسه حتى لا تظهر إصابته ونزيفه لأحد.

"مسلخ" متسودات أدوميم

نقلت شرطة الاحتلال المعتقلين في حافلات تباعاً إلى معسكر الجيش في متسودات أدوميم، المُقام على أراضي قرية العيساوية، على طريق رقم 1 الواصل بين القدس وأريحا. وكانت هذه المحطة لـ"تصنيف" الشباب، من سيُمدد اعتقاله، ومن سيُفرج عنه. وكانت المحطة الأشد تعذيباً بحقّ الشبان، ومكثوا فيها - في غالبهم - أطول فترة من بين المحطات الأخرى.

في المعسكر، أجلستهم قوات الاحتلال في ساحةٍ واسعةٍ، جزء منها هي ميدان تدريبيّ لإطلاق الرصاص، إذ رأوا فيها آثار الرصاص، بل ظهرت لهم بعض الأفاعي، وأُجبروا على الجلوس فيها على رُكبهم، أياديهم مُقيّدة وراء ظهورهم، وروؤسهم مطأطأة إلى الأرض، وذلك لمدد زمنية مختلفة، تصل إلى 5-6 ساعات، حسب كل شخص ومتى استدعي للتحقيق. كانت أرضية تلك الساحة من الحصمة التي تُسبّب ألماً شديداً للركب.

يروي الشبان المعتقلون أن عناصر الشرطة الذين شاركوا في ضربهم وإهانتهم خلال هذه المرحلة الأشد تعذيباً من كل المراحل، كانوا من الوحدة الشرطية المركزيّة، المسمّاة "يمار"، والتي تُعرف بكونها "وحدة شرطية للتحقيق والاستخبارات مختصة بالجرائم الخطيرة والأحداث الاستثنائية". 

"أنا بسميه مسلخ مش معسكر"، يقول أحمد. أما علي فاختار أن يصفها بأنّها "ساحة الذلّ"، وأضاف: "كان ممنوع نقعد في الفي، وبس صارت ليل الدنيا كانت برد، وفي من الشباب كانوا بدون بلايز، كان الواحد يقول للشرطي ايدي بجعوني يناديك تيجي عنده، يشدها بزيادة". ويضيف عن نفسه: "أنا ايدي نفسي مش حاسس فيهم من كثر الشد". 

أما سعيد فيقول: "كانت هذه الساحة ساحة تعذيب، كنا كلنا ننضرب ونتعرض لكل أنواع الإهانة". ويقول جميل عن هذه المرحلة:  "اللي ما يقعد على ركبته ينضرب، أي حدا يقعد قعدة ثانية ينضرب، أي حدا يميل يتحرك ياكل قتله، الضرب يكون بكل اشي، بالعصي، بالبواريد، بالكفوف". 

ويُضيف سعيد أن التعذيب في هذه المرحلة أيضاً كان أشدّ على أهالي جنين ونابلس، فقد شهد على قصة شابٍ من نابلس، أخذه جنود الاحتلال إلى طرف الساحة بعد أمتارٍ قليلة من بقية الشبان، وطرحوه أرضاً وبدأوا يضربونه بشدّة، فقط لأنّه من نابلس، مما أدّى إلى انتفاخٍ في عينه، وجروحٍ عميقه في كتفه.

جنود الاحتلال بالقرب من باب المغاربة داخل المسجد الأقصى، خلال مواجهات يوم الجمعة 15 أبريل/ نيسان 2022. (عدسة: أحمد غرابلي/AFP).

كان الشبان في تلك الساحة ينتظرون دورهم لتحقيق ميدانيّ قصير، ومن ثم ينقلون إلى مقر الاحتجاز في المسكوبية، وإما يُمدد اعتقالهم أو يفرج عنهم من هناك، وبعضهم أُفرج عنه مباشرةً من المعسكر. وبحسب جميل: "اللي حظه حلو هو اللي يتنادى على التحقيق أول واحد، فما يضطر يضل قاعد على ركبه مدة طويلة".

مرّ التحقيق في هذه المحطة سريعاً ودار حول أسئلة أساسية: من أين أنت؟ ماذا كنت تفعل؟ مع من جئت؟ ويتخلل كل هذه الأسئلة ضرب وتنكيل بحسب إفادة البعض. كان المحققون يسألون أيضاً: "لماذا جئت إلى الأقصى بالذات للصلاة؟ الصلاة غير مقبولة في بلدتك مثلاً؟"، في محاولة للإيقاع بالشبان وعقابهم على التفافهم حول المسجد الأقصى وما يتعرض له من استيطان.

وبحسب إفادة الشبان، رغم كلّ هذا التنكيل والتعذيب، فقد شهدت عملية الاعتقال إرتباكاً بين جنود الاحتلال، يقول أحدهم إنّه كان يحمل ثلاثة هواتف، له ولاثنين من أصدقائه، وأنّه لحسن حظّه نسي الجندي أن يسأله عن هاتفه، وهو ما سمح له لاحقاً بإخراجه في الحافلة والتقاط الصور له ولرفاقه. ومن معالم ذلك الارتباك أيضاً، ما رواه شاب آخر، قال إنّه أفرج عنه دون أن يسأله أحد عن اسمه أو يوقع على كفالة، وآخرون أشاروا إلى أنّه أفرج عنهم بينما فُقِدت ملفاتهم في مقر الشرطة. 

تعتبر حملة الاعتقال هذه كبرى حملات الاعتقال الإسرائيلية من داخل المسجد الأقصى، ويبدو أنّ شرطة الاحتلال تعمّدت التنكيل المضاعف بالشبان المعتقلين في محاولة لكسر إرادتهم وكسر إرادة الفلسطينيين عموماً ومحاصرة فعلهم الساعي للتصدي للاقتحامات الاستيطانية للمسجد، وتصديرٍ مشهد مغرق بالتنكيل لبث الخوف والقلق. وكما في كلّ مرة، فإنّ العكس هو ما يحدث. يروى أحد الشبان، ممن اعتقل من القبلي : "رغم كل الضرب، كان البعض يرفع المعنويات ويقول: تقلقوش يا شباب، بنروح، كله فدا الأقصى". ولا أصدق من ذلك إلا ضحكات المعتقلين من وراء زجاج الحافلات، رغم كلّ الضرب والتنكيل والإهانات.