جولةٌ جديدةٌ في غزّة. تصعيدٌ إسرائيليٌّ إجراميٌّ جديد في خنق القطاع، تدهورُ أوضاع الناس مرةً أخرى، ثمّ تصعيدٌ لعمل المقاومة وجولة مفاوضات أخرى لإجبار "إسرائيل" والعالم على تخفيف هذه المأساة. يظهر شعار "كسر الحصار" مجدداً على لسان الناطقين باسم الفصائل، والصحافيين، وحتّى المؤسسات الحقوقيّة. ويزداد وقع الشعار عبثيّةً يوماً بعد يوم: لم ترفع "إسرائيل" ولن ترفع أي حصارٍ عن أيّ فلسطينيّ ما دام يقاوم. وحتّى إن رمى الفلسطينيّ سلاحَه وسلّم أمره لسلطةٍ تنسّق مع الاحتلال، كما في الضفّة الغربيّة، لما رُفع الحصار فعلاً بل يُخفّف في أحسن الأحوال.
الحصار أمرٌ واقعٌ سيستمر لطالما تتمسّك "حماس" بقتال "إسرائيل"، وهو ليس حالةً مؤقّتةً ولا شدّةً ستزول. دائرة تخفيف الحصار وتصعيده مفرغة، مهما تقلّبت الموازين داخلها، ستُبقي على حقيقة أنّ مجتمعَ غزّة رهينة دائمة لـ"إسرائيل" ومعابرها، وهذه تتحكّم بمن يتلقّى العلاج، ومن يخرج للدراسة، ومن يُصدِّر بضائع، ومن يحصل على الأسمنت، وما الذي يزرعه الناس - أي أنّها تحكم غزّة فعليّاً.
لا يُمكن للكفاح داخل هذه الدائرة فقط، مهما بلغت التضحيات والأثمان، أن يقودنا إلى اختراقٍ في هذا الأمر الواقع. يكمن التحدّي الحقيقيّ في فهم الأهداف الاستراتيجيّة العميقة لهذا الحصار- وهي اقتصاديّة واجتماعيّة وجغرافيّة- ومحاولة إحباطها. يتطلّب ذلك من فصائل المقاومة إعادة النظر في سياسات داخليّة إداريّة واجتماعيّة وأيضاً فصائليّة، ورسم نموذجٍ اقتصاديٍّ اجتماعيٍّ في القطاع لا يقتصر نموّه على العلاقة بـ"إسرائيل".
لم يبدأ الحصار في 2006...
إنّ خطابنا السياسيّ عالق في دائرة "كسر الحصار"، ويتأسس على سرديّة أنّ هذا الحصار بدأ مع الانتخابات التشريعيّة وسيطرة "حماس" على "الحُكم" في غزّة، لكنّها رواية تعزّزت دون نقدٍ. صحيحٌ أنّ قسوة الحصار المفروضة منذ 2006 مروّعة، وقد يصح القول إنّها غير مسبوقة من حيث تعقيد منهجيّتها والظروف السياسيّة المحيطة بها، لا سيما النزاع بين "فتح" و"حماس"، كما التحوّلات السريعة في النظام المصريّ. إلا أنّه من الغريب أيضاً فصلها عن حالة حصارٍ منهجيّة ومستمرّة تُطبّق على الشعب الفلسطينيّ منذ النكبة. فإنّ العزل الجغرافيّ والحصار نمطٌ جوهريٌّ في وجود "إسرائيل"، وليس سياسةً خاصّةً يُمكن تحديد بدايتها أو وضعُ حدٍ لها.
طُبق مبدأ العزل منذ النكبة. فُرض الإغلاق على فلسطينيي الداخل أولاً تحت الحكم العسكريّ، وكانت حدود الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة منذ النكبة معزولةً ويُقتل من يجتازها، ومُنع اللاجئون من العودة إلى ديارهم. وهذا ليس تفصيلاً تاريخيّاً، إنّما هو جزءٌ أساسيّ من مأساة غزّة اليوم، كما عبّرت عنه مسيراتُ العودة. قُطعت المناطق الفلسطينيّة تماماً عن امتدادها الطبيعيّ، وقُمعت الحركة بين خطوط الوصل التي استخدمها أهل البلاد منذ فجر التاريخ.
بعد احتلال 1967 أعلنت "إسرائيل" غزّة، كما الضفّة الغربيّة، منطقةً عسكريّةً مغلقة. في العام 1972 مُنح الفلسطينيّون في الضفّة وغزّة "تصريحاً شاملاً" بالحركة، فسُمِحَ لهم بدخول أراضي الـ48 دون أي قيود، شرط عدم المبيت فيها. وكان لذلك أسباب لا تتعلّق البتّة بحقوق الفلسطينيين، بل بشكل السيطرة الإسرائيليّة وحاجة اقتصاد الاحتلال لليد العاملة الفلسطينيّة وغيرها من الأسباب.
مع انفجار الانتفاضة الأولى بدأت "إسرائيل" تعود لتصعيد تقييدات الحركة، وبدأت بالعمل بسياسة البطاقات الممغنطة في قطاع غزّة عام 1989، والتي احتاجت تجديداً سنويّاً، وشكّلت واحدةً من وسائل السيطرة على الحركة، وإمكانيّة مراقبة الفلسطينيّين، واشتراط الخروج من غزّة بالامتناع عن أي نشاطٍ سياسيّ مناهض للاحتلال. لاحقاً، في العام 1991 ألغت "إسرائيل" التصريح الشامل رسميّاً، ودخلت في مرحلة التصاريح الشخصيّة التي زادت من ربط لقمة العيش بالخنوع للاحتلال.
اقرأ/ي المزيد: "العلاج الطبيّ مقابل الولاء لـ"إسرائيل".
في العام 1993، فرضت "إسرائيل" الإغلاق الشامل على الضفّة والقطاع متذرّعةً بعمليّات المقاومة، ولم تُمنح التصاريح إلا لقلة قليلة. في العام 1994، بنت "إسرائيل" السياج المحيط بقطاع غزّة، وهو تقييد ماديّ جغرافيّ أدّى إلى تقييد متطرّف وغير مسبوق (بات مفهوماً ضمناً اليوم، للأسف) لحركة الناس من وإلى القطاع. هذا كلّه ناهيك عن منع التجوّل المتواصل (ولا سيما الليليّ) لأكثر من سبعة أعوام، حتّى العام 1995.
هكذا، لا نجد عاماً واحداً، منذ احتلال 1967 وحتّى اليوم، لم تُطبَّقْ فيه سياساتُ تقييدٍ للحركة على الضفّة وغزّة بدرجات متفاوتة، حتّى في سنوات "الازدهار" في أعقاب توقيع اتفاقيّة أوسلو. في ذروة سنوات "السلام"، عام 1998 مثلاً، رأت لجنة الأمم المتّحدة لحقوق الإنسان في تقريرٍ لها أنّ "سياسات تقييد الحركة الإسرائيليّة [بحق الفلسطينيّين] تُنزِلُ إسقاطاتٍ خطيرةً بجميع مناحي الحياة تقريباً". أما بعد الانتفاضة الثانية، فصار الإغلاق المُطلق على قطاع غزّة يتصاعد وصولاً إلى يومنا هذا.
هل يُمكن إنهاء الحصار دون إنهاء المقاومة؟
ستبقى استراتيجيّات الحصار والعزل الإسرائيليّة مُعطى قائماً لطالما بقي النظام الصهيونيّ قائماً. لكنّنا نحتاج النظر إلى طبيعة تغيّرها وتفاوتها. في الحقيقة، تربطُ الحصار علاقةً دائمةً بمستويات المقاومة. بل إنّه يبقى على مرّ التاريخ المؤشّر الأوضح لتصعيد أو انحسار المقاومة الفلسطينيّة ودليلاً على خارطتها الجغرافيّة. تخفيف قيود الحركة مشروطٌ بوقف المقاومة ومساعيها، إما من خلال السحق العسكريّ للمقاومة ثم تأمين سلطةٍ موالية لـ"إسرائيل"، وإما من خلال الوصول إلى توازنٍ يحفظ "الهدوء" و-"الوضع القائم".
أما عبارات "الهدوء" و-"الوضع القائم" فهي مرادفات لوضع "لا حرب". يبدو هذا الوضع ساكناً في السطح، بينما تستغلّه "إسرائيل" للتفشّي الاستعماريّ الهادئ، من زحفٍ استيطانيٍّ على الأرض كما في الضفة، أو تعميق للسيطرة الاقتصاديّة والاجتماعيّة كما في "الفترات الهادئة" في غزّة، أو تحسين ارتباطاتها ومفاتيح النفوذ داخل السلطات الحاكمة. في هكذا ظرفٍ فقط يُمكن لـ"إسرائيل" أن تخفّف حصارها. من يعتقد بوجود إمكانيّة أخرى تتنازل فيها "إسرائيل" عن الحصار وتبقى المقاومة على ما هي عليه – واهمٌ بالضرورة.
ولا يسري ذلك على الصعيد الجمعيّ لتنظيم المقاومة فحسب، إنما على المستوى الشخصيّ أيضاً. فقد تسمح "إسرائيل" لأطيافٍ واسعة من المجتمع الغزيّ بالدخول والخروج والتحرّك والعمل والتجارة. إنما هل ستسمح بحركة عائلات المناضلين والمقاومين بتلقّي العلاج والعمل والسفر؟ أم أن "تخفيف الحصار" في هذا السياق سيخلق آليّةً عقابيّةً تخنق الشرائح الاجتماعيّة المقاوِمة وتتيح متنفّساً لشرائح اجتماعيّة نأت بنفسها عن العمل النضاليّ؟ وما الأزمات والفجوات الاجتماعيّة التي ستخلِقُها مثل هذه الحالة وماذا سيكون وقعها على النضال الفلسطينيّ عموماً، وعلى المقاومة المسلّحة تحديداً؟ في الضفّة، جرت تصفية هذه المسألة من خلال دمج المقاومين في الأجهزة الأمنيّة الرسميّة وتبييض صفحتهم مع "إسرائيل". ولا يبدو هذا مطروحاً في الأفق الغزيّ، بينما لا يزال آخرون حتّى اليوم ممنوعين من الحركة بسبب أدوارهم النضاليّة.
الأهداف العميقة للحصار
تخفيف إجراءات الحصار الإسرائيليّة، حتّى وإن بدت انتصاراً للمقاومة، تُبقي على مقتلين أساسيين وجوهريين يشكّلهما الحصار. المسألة الأولى تتعلّق بالاستقرار. مهما خُفِفَت إجراءاتُ الحصار، فإنّها تُبقي على منظومة السيطرة الحدوديّة التي تُحكِمُها "إسرائيل" بشكلٍ كاملٍ. ويبقى المفهوم الوحيد لحريّة الفلسطينيّ (في التنقل والتعلّم والتجارة الخ) هو الحريّة الفرديّة من خلال القرار الإسرائيليّ. عمليّاً، تبقى جميع مفاتيح حياتنا متعلّقةً بـ"إسرائيل"، وبالتالي تنحسر إلى حدٍ بعيد أيّةُ إمكانيّة للاستقرار الشخصيّ والجماعيّ. وسيبقى أي مشروعٍ وطنيّ أو شخصيّ رهيناً بقرارٍ إسرائيليّ وقابلاً للتدمير في أي لحظة طالما يعتمد على إمكانيّات التواصل مع "الخارج". وستبقى المقاومة، بهذا، في موقع الردّ على تغييرات السياسات الصغيرة، والتجاوب مع التعديلات الإسرائيليّة الإجرائيّة والدقيقة والبطيئة في سياسات الإغلاق، وستكون المتسبّب الدائم في إشعال فتيل الحرب، وهو ما يحمّلها مسؤوليّةً اجتماعيّةً ودوليّةً هائلة.
بكلمات أخرى، فحتّى لو رفعت "إسرائيل" التقييدات، فإنّ وجود المقاومة وعملها سيُبقي غزّة تحت سيف التقلّبات الإسرائيليّة التي تحرِمُ الإنسانَ الغزيّ من قدرته على تخطيط حياته ومستقبله، وتحوّل كل خطوةٍ في حياته إلى خطوة محفوفة بالمخاطر وتصادر كافّة إمكانيّات الاستقرار. وإن كانت "إسرائيل" "تُعاقِب" الفلسطينيين في الضفّة الغربيّة بسبب مخصصات لعائلات الشهداء أو ميدانٍ على اسم دلال المغربي ومضامين مناهج التعليم، فما بالك سيكون ردّها إن استمرّت المقاومة في إعدادها العسكريّ؟ تخفيف التقييدات مرتبط حتمياً بسياسات مباشرة وغير مباشرة لاستئصال المقاومة الفلسطينيّة.
اقرأ/ي المزيد: "غزّة: حصار على الافتراضيّ أيضاً..".
جانب جوهريّ آخر في حصار غزّة يتعلّق بالضفّة الغربيّة. إذ أنّ الفارق الأساسيّ والأهم في سياسة الحصار التي تُطبّق منذ 2006 هو العمل بمبدأ الفصل بين الرقعتين الجغرافيّتين المحتلّتين عام 1967، وليس الإغلاق بحدّ ّ ذاته. سياسات السماح بالخروج، سياسات سجل العناوين، السماح بالانتقال من منطقة إلى أخرى، والتجارة، كلّها تثبت أن الفصل بين الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة عامل مركزيّ في سياسة "إسرائيل". بهذا المفهوم، فقد نكون أمام إمكانيّة "كسر الحصار" بالإبقاء على الفصل السياسيّ والاجتماعيّ بين الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، وتوسيع تمزّق المجتمع الفلسطينيّ، واستمرار إخضاعه لاختلافات اقتصاديّة واجتماعيّة وقانونيّة مرتبطة بقدرات الحركة، وأنماط قيادة وعمل سياسيّ مختلفة في كل منطقة من الأرض المحتلّة وخارجها.
أوان الخروج من الدائرة المفرغة
الحق بالعيش الكريم وبالحريّة، بالعمل والتعلّم، بالماء والأكل والأمان الجسديّ - كلّها حقوق مقدّسة، لكن هل يُمكن حفظها فعلاً وتأمينها من خلال "كسر الحصار" ضمن منظومة التحكّم الإسرائيليّة؟ أي من خلال جعل "إسرائيل" تُخفِّف شروط سيطرتها، بينما تبقى هي المتحكّمة؟ هل يُمكن حفظ حقوق الناس بطريقة تتأسس ضمنياً على انعدامٍ تامٍّ للاستقرار، وعلى تمزيقهم الاجتماعيّ السياسيّ عن سائر أبناء شعبهم، وعلى عزلٍ اجتماعيّ لأبناء المقاومة حتّى داخل غزّة مقابل "تحرير" فئات اجتماعيّة أخرى؟ هذه أسئلة خلّفتها الكارثة الإسرائيليّة التي أًوقِعت بغزّة، وتتطلّب تفكيراً أكثر جديّة من مطالبات يُمكنها أن تُخلّف ضرراً أعمق في حال طُبِّقت، وعلى مستويات كثيرة.
يبدو الحصار قدراً طالما ظلّت "إسرائيل" قابعةً على أرضنا، وسيبقى الاستعمار يحاول أن يفرض واحداً من اثنين: إما أن نجوع، وإما أن نأكل ما يطعِمُنا إياه الإسرائيليّ. إما أن نُقاوم، وإما أن نرضى بالتحرّك والتعلّم والتطوّر والعلاج بتصريحٍ من "إسرائيل". وقد بلغت مأساة غزّة ما يدعونا لنرفض التأرجح بين هذين الاحتمالين.
من شأن المقاومة أن تقطع الطريق، قدر الإمكان، أمام أوّل أهداف الحصار العميقة: التحكّم الاقتصادي الذي يمارسه الاحتلال على المجتمع. فمن غير المنطقيّ أن تبقى غزّة على مدار هذه السنوات سوقاً حُرّة يغتني فيها من تسمح له "إسرائيل" بالاستيراد والتصدير، ويطرد عُمّالها متى أغلقت "إسرائيل" المعبر. ولا من المنطقيّ أن يزرع مُلّاك الأراضي ما تسمح "إسرائيل" بتصديره بدلاً ممّا يتطلّبه الأمن الغذائيّ المحليّ، ولا من المنطقيّ أن تُنقل الأراضي العامّة للسوق الخاصّ باستهتار مُعيب، وأن يتحكّم السماسرة والمقاولين ممن تسمح لهم "إسرائيل" بإدخال المواد بمساكن الناس... والقائمة تطول.
اقرأ/ي المزيد: "غزّة..أرض التوت الحزين"
ومن شأن المقاومة أيضاً أن تقطع الطريق، قدر الإمكان، أمام ثاني الأهداف: عزل غزّة ككيان سياسيّ منفصل. ويتطلّب ذلك ألّا تحوّل حركة "حماس" نفسها إلى حركةٍ غزيّة لا تعمل إلا لكسر الحصار وتحسين ظروف غزّة، فهذا بعينه غاية "إسرائيل" التي ننجر إليها. فإن أبشع مخاطر وكوارث حصار غزّة ليست داخل القطاع، إنما فيما يبدو من استسلام يعمّ خارجه فيزيد القطاع حصاراً. ووظيفة المقاومة لا أن تكسر الحصار الجغرافيّ، بل تتجاوز الحصار السياسيّ وتُصدّر الإمكانيّات التنظيميّة نحو عملٍ سياسيّ ونضاليّ في كلّ فلسطين وفي كلّ العالم.