14 أغسطس 2022

عزيزي طالب التوجيهي.. رسالة على عتبة الجامعة

عزيزي طالب التوجيهي.. رسالة على عتبة الجامعة

ها نحنُ يا صاحبي، ندخُل في أجواء "وقف إطلاق النار" بعد إعلان نتائج الثانوية العامة، وقد خلّفت هذه الاحتفالات وراءها أسئلةً في رأسك لم تُجب عليها بعد: ماذا أدرس؟ وأين؟ سؤالان مُرعبان ومُحيّران سيَخُطّان مسارك، تماماً كما جرى - لعلّك تجدُ في هذا عزاءً - مع من سبقك إلى هذه الضجّة.

تنهالُ عليك الاقتراحاتُ من كلّ حدبٍ وصوب. فلانٌ يُخبرك أنّه لو كان مكانك لتخصّص في المُحاسبة؛ التخصّص الذي ندم أنّه لم يدرسه. آخر ينصحك بالهندسة المدنيّة وكأنه يدفعك لمَهمة مُستحيلة بعد التخرّج؛ أن تبحث عن عملٍ كمن يبحث عن إبرةٍ في كومة قش. غيرهُ يُشير عليك بصرعة السوق؛ "الآي تي". أما أهلك الذين كانوا يضعون ورقةً على باب غرفتك مكتوبٌ عليها: "عيادة الدكتور"، فمن الصعب إقناعهم بأن لا علاقة لك بالطب لا من قريب ولا من بعيد. هناك رجلٌ عاشر يأتيك من أقصى المدينة حاملاً معه خلاصته عن البلد، فيُشير عليك بحزمٍ ألا تدرس في جامعاتها وأن "تَهِجّ" وتتعلّم في بلاد العجم. وغالباً، لن تجد أحداً ينصحك بتخصّصاتٍ كالإعلام وعلم الاجتماع، سوى مُعدّلك الذي حصّلت. 

إعصارٌ يضرب رأسك تحتاج لضبطه عدّة حبّات "بندول" خلال اليوم. "إنّه قرار مصيريّ" كما يُعلن لك الجميع، لا تُريد أن يكون في داخلك شُركاء مُتشاكسون فينتهي بك الحال كأولئك الذين حوّلوا تخصّصهم في السنة الدراسية الثانية أو الثالثة، أو حتّى أولئك الذين وجدوا ضالّتهم في تخصّصٍ آخر بعد أن تخرّجوا من الجامعة.

إنّها غيمة، وكعادة الغيم يا صديقي، ينقشع. وحتّى ذلك الحين، دعني أُشاركك بعض الأفكار حول هذه الغيمة، بما تحمله من أسئلة وإجابات وتجارب واستكشافات ومطر…

كنّا نُردّد في سنيّ دراستنا الأولى ما يقوله محمود درويش: لا نصيحةَ في الحبّ ولكنّها التجربة! وكذلك ما يقوله حسين البرغوثي: نحنُ مجرّد قطارات مُسافرة، يصمدُ فينا من يشاء وينزل منّا من يشاء، ينامُ في بيته وننامُ دائماً في المحطّة! وهكذا يا صديقي، باستعارةٍ تلو الاستعارة، صارَ الثباتُ على أرضيّة صلبة عيباً والتغيّرُ بلا نهاية فضيلة، واستُعيضَ عن قواعد العلاقات بالتجربة وعن الاستقرار في البيت بالترحال في محطّة الانتظار! 

إنّك تعلم أنّنا في عصرٍ تكثرُ فيه محطّاتُ الانتظار والداعون لها، ولا تكادُ تجدُ موضعاً تسكُن إليه إلا ووجدت من يُنغّص عليك استقرارك. في وسط هذا الاختبار الكبير (وهو "اوبن بوك") تكاد لا تجدُ إجابة يقينيّة واحدة، ولا تُقدّم لك إلا الأسئلة تلوَ الأسئلة، بما فيها من إغراءٍ يدفع بالمرء إلى تجارب غير مضبوطة ولا محدودة. ولكن احذر من أولئك الذين يدّعون بأنّ السؤال أهمّ من الإجابة، فللأخيرة قدرٌ لا يقلّ أهميّة، تحديداً في أوقات حربك النفسيّة والجسديّة، فحين يجتاحك الاكتئاب مثلاً يطيرُ السؤال وتبقى الإجابة. هؤلاء الذين يُقدّمون الأسئلة ويطرحونها دون خطّة تُنظّم إيرادها على العقل، إنّما يفعلون ذلك لأنّهم عجزوا عن الإجابة عليها فأكسبوا أماكنهم المُتعبة معنىً فلسفيّاً عميقاً. وتذكّر، أنّ "البشريّة لا تطرحُ على نفسها إلا المُشكلات التي تستطيع حلّها"، كما يقول ماركس. 

لذا، لسؤالك الذي تطرحه إجابة. ولكن، يؤسفني أن أخبرك بشيءٍ من التنمية البشريّة، أنّ لا أحد بإمكانه أن يحلّ محلّك في ذلك، مثلما ليس بالإمكان أن تكون شجرة التفّاح مكان دالية العنب؛ كلاهما نبات صحيح، ولكنّ كلٌّ منها له مكانه وتربته وظروفه وسقايته المختلفة عن غيره. لذا، لا تتوقّع دليلاً لمسارك التعليميّ والمهنيّ، فلا أحد يملكُ ذلك إلا أنت، ولو ملكَ الناس ذلك لكانوا أولى به لأنفسهم. ولاحظ، أنّ ما يُعرض عليك من ترجيح تخصّصٍ على آخر أو مكانٍ على آخر، وإن بدت خُلاصاتٍ منطقيّة ومُجرّبة، هي في حقيقة الأمر حظوظُ الشخص النفسيّة، فهو حين يتحدّث عنك إنما يكون يتحدّث عن نفسه وتجربته وتقييمه لها. 

إنّني أتكلّم معك بحرقةٍ شديدة، ربّما لأنّ الحديث عن هواجس مرحلةٍ قديمة يُحفّز معدتي فيُصيبها بالحُرقة فعلاً. وحتّى لا أقع في كبيرةِ من يقول للآخرين ما لا يفعل هو، إنّني أشبهُ بهذا المُسنُّ الهرم الذي أتعب جسمَه التدخين، وها هو الآن بعد أن أدمن ينصحُك ألا تُجرّبه. لن تستجيب لنصيحته في الغالب، ولكنّك ستتذكرها حين تحتاجُ ذلك! 

أكتب لك، ويفصلُنا كذا حاجزٌ عسكريّ ومستوطنة، فيما أرانا نتمشّى في شارع الآداب في جامعة بيرزيت. يدفعني خيالي إلى تجاوز سؤالك، على أهمّيته، فالجامعة ليست تخصّصاً وحسب، بل هي فضاءٌ مفتوحٌ على كلّ المُمكنات. فيها تتعرّف على فلسطين، وفيها عملٌ طلابيّ سياسيٌ وثقافيّ واسع، وفيها طلّابٌ من جُغرافيّاتٍ وشرائح مُختلفة، وفيها - إن سكنت بعيداً عن أهلك - تعلّم مهارة أن تُدير البيت وأن تكون مسؤولاً حتّى عن لمبةٍ حُرقت. ولهذا كلّه، فإنك في الجامعة بالذات، إن شئت، تتقدّم أو تتأخّر، وفي سنواتها العريضة تُصقل الشخصيّات وتأخذ الأفكار منحنياتٍ عمليّة جداً. ارجع إلى التاريخ واقرأ كيف ومتّى انبثقت أسماءُ مثل أبو عمّار وأبو إياد.

أنت تعرف أنه إن كان المُعدّل والأهلُ والأصحابُ والجيران يتدخلون في الذي تدرسه، فإنّ الضابط الإسرائيليّ وصاحبُ المقاطعة يفعلون أكثر من ذلك. قد تَحُول "إسرائيل" بينك وبين السفر للدراسة في الخارج، بل هي تمنعك أيضاً من الدراسة في الضفّة إن كنت غزّياً، أو الدراسة في غزّة إن كنت من الضفّة، وإن كنت في الضفة كذلك فإنك قد تحسبُ ألفَ حسابٍ للدراسة في جامعةٍ بعيدةٍ لأنك تريد أن تبقى بجانب أهلك، فتكون "بهدلة" المواصلات والطرق جواباً قهريّاً على تفكيرك "الحُرّ". 

هذا عن اختيار الجامعة، ومثلُه في اختيار التخصّص. هل كنت تحلُم وأنت صغير بأن تُصبح طيّاراً؟ ولكن أين؟ في مطار قلنديا الذي تُديره السلطة الفلسطينيّة؟! وهل تظن أن دراستك الحاسوب وعلومه ستُتيح لك العمل في تصنيع قطع تكنولوجيّة دقيقة؟ إنّهم يروننا كأيدي عمل رخيصة يا صاحبي؛ رخيصة أجراً وقيمةً، فلا يسمحون لنا بأكثر من تجميع القطع وتركيبها. هل فكّرت لماذا يتوجّه الكثيرون إلى تخصّصات كالماليّة والمُحاسبة فيما يهجرون تخصّصاً كالهندسة الزراعيّة؟ الأوّل يحتاجه السوق وأصحاب رؤوس أمواله الجشعون، والثاني يحتاجه المُجتمع ليبقى صامداً في وجه الرياح العاتية. في العام الدراسي 2018-2019، كانت نسبة المُسجّلين في تخصّصات الأعمال والإدارة والقانون 29% وهي أعلى نسبة، فيما كانت تخصّصات الزراعة والحراجة ومصائد الأسماك أقلّ نسبة 1%.1وزارة التربية والتعليم العالي والبحث العلمي (2019). الدليل الإحصائي السنوي 2018/2019 لمؤسسات التعليم العالي الفلسطينية. رام الله، فلسطين.

ما علاقتك أنت بذلك؟ ببساطة، ابتلع السوق قيمةَ التعليم التي نحاول إنقاذها، فبدلاً من دراسة ما يكون نافعاً للإنسان ومُجتمعه صارت الدراسة لما ينفع السوقَ وطبقةَ رؤوس الأموال فيه. تواطأت الجامعات مع السوق عليك يا عزيزي، وأنت ترى الآن كلّ جامعة تُعلن عن مُعدّلات القبول للتخصّصات المُختلفة وأسعارُ الساعة لها. على أيّ أساسٍ يجري ذلك؟ بمنطق العرض والطلب. وهكذا اختُزل كثيرٌ من التعليم إلى معادلة مُتفق عليها ضمنيّاً: الطالب يتعلّم من أجل الشهادة والعمل بها، الأستاذ يُعلّم من أجل مرتبه نهاية الشهر، والجامعة تريد أن تكون مؤسسة ربحيّة. 

طبعاً، فإنّ هذا التحوّل على الجامعات عالميّ، ولكنّه يكتسب بُعداً إضافيّاً إذا ما رششت على الجُرح ملح العدوّ. ولا أقول لك ما أقول لتشعر بأنّ الأشياء التي من حولك أكبر منك وأنّ كلّ شيءٍ مُعدٌّ سلفاً ومُسيطرٌ عليه فينتابك اليأس ولا تتحرّك، بل غاية الأمر أن تسبح الرسالة في فلكٍ طبّي فيك، يؤشّر على المرض ولا يألفه، وأن توسّع نظرك كذلك فلا يكون سؤال التخصّص ومكانه أقصى ما لديك، فهو وإن كان مُحاطاً بحدودٍ عديدة تُقيّد إرادتك، فإن الحياة الجامعيّة فُرصة لاقتناص الشقوق ودفع مياه الشاب فيك حتّى تفجيرها. 

خلال هذه الحياة، اغرف من كلّ الينابيع ولا تقصر نفسك على ينبوعٍ واحد. نعم، تعلّم تخصّصك وخذه بجديّة حتّى تُتقنه، فـ"إنّ الله يُحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"، ولكن تذكّر أنّه ليس غاية بذاتها، بل طريقاً وأداة إلى شيءٍ آخر. فلا بأس مثلاً، أن تشترك في دورة لتعلّم لغة جديدة قد تأخذك لاحقاً إلى مجال الترجمة، وأن تُسجّل في نادي للفنون القتاليّة، وأن تتعلم حرفةً مهنيّة كالنجارة، فهذا أدعى أن يُعدّد خيارات المهارات عندك فيوسّع عليك باب رزقك في سوقٍ يمتازُ بالبطالة. والأهم من ذلك، أنّ تعلّم مداخل الأشياء ومفاتيحها، يفتح غُرفاً في دماغك توسّع من مداركك فيتّسع معها دربك، وقد ينتج عنها خارطة تقودك إلى هدفٍ واضح. 

وعلى ما في عبارة "ادرس ما تُحبّ" من ابتذالٍ يقود إلى الضحك أحياناً، غير أنّه لا يُمكنك أن تُحدث تغييراً ما في نفسك وفي الآخرين إن لم يكن مُحرّك ذلك الرغبة الكامنة فيك. واصنع مع ذلك عادةً خاصّة لك في التعلّم، تحمي وقتك من أن يفرط كلّه كالمسبحة في إضاعة الوقت، وهو مرضٌ خطيرٌ إن استفحل بالمرء، وكن في ذلك على نهج أبو العتاهية الذي يقول: 

وعوّدتُ نفسي عادَةً فَلَزِمتُها … أراهُ عظيماً أن أُفارقَ عادَتي

ولتكُن مرناً بما يكفي، حتّى تكون كطابة التنس تُراوح بين همّك الفرديّ وحاجة الجماعة، فمرّةً تسأل ما حاجتي إلى هذا العلم؟ ومرةً تسأل ما حاجة بلدي إلى هذا العلم؟ يقودك كلّ ذلك إلى شعورٍ بالرضا الداخلي، يُحافظ على توازنك في قادم الأيّام حين تحتاج مع الهزّات الكبيرة إلى قدرٍ بسيط منه يحميك من الانهيار.

هكذا يصيرُ الكلامُ "اليائس" ظاهريّاً، درعاً يتسلّح به الحالم، الذي يُحرّكه طموحُه ويُقرّبه واقعه، حيث المعرفة - شرطُ العملُ بمقتضاها - تداوي الفردَ والجماعة. وجنّبنا الله وإياك الوقوع فيما أشار إليه ابن المُقفّع: 

الواصفونَ أكثرُ من العارفين، والعارفونَ أكثرُ من الفاعلين

فاظفر بالأخيرة…

أترى إذن؟ ليس سؤال التخصّص ومكانه كلّ شيء. وليس دفعُ الأهل والأصحاب وقناعات المُجتمع، هو الدفعُ الأكبر الذي يؤثّر عليك وعلى قراراتك. لديك صانعُ السياسات والضابطُ الإسرائيلي وذو البدلة الأنيقة ورجل الأعمال وصاحب المال والسلطة، يدفعونك باتجاه خياراتٍ مُحدّدة. تقدّم نحوها إن شئت، لا بأس بذلك، المهم أن تعرفها وأن تعرفهم. فالجامعة مكانٌ رحب، أوسعُ من التخصّص نفسه، تتسع للفكر والنشاط والممارسة، وتستوعب طاقتك على التغيير، فبقدر ما تُعطيها تُعطيك، وتعطي أجيالاً لاحقةً سيشغلها ما أشغلك. لذا اعرف طريقك جيّداً، وطريقتُك كذلك، فقلمك السائل احذر أن يُصبح جافّاً!



7 سبتمبر 2020
"شعب الله" في حيفا

على بُعد خطوات من بوابة حيفا الغربيَّة على الساحل، افتتح التمبلريون الألمان عام 1870 مستعمرتهم الأولى والأكبر في فلسطين، ونقشوا…