7 سبتمبر 2023

عن المشي في حقل ألغام.. متراس تحاور اللجنة الوطنية للأسرى

عن المشي في حقل ألغام.. متراس تحاور اللجنة الوطنية للأسرى

دون إطارٍ جمعيّ، ودون قيادةٍ توحّد صفهم، وجد الأسرى أنفسهم في أيلول/ سبتمبر 2021 وسط حربٍ تشنّها عليهم إدارة سجون الاحتلال، على إثر تمكّن الأسرى الستة: محمود العارضة، ومحمد العارضة، وأيهم الكممجي، وزكريا الزبيدي، ويعقوب القادري، ومناضل نفيعات، من الهرب من سجن "جلبوع" في السادس من ذلك الشهر. 

في ظل هذا الظرف، نظّم الأسرى أنفسهم للتصدّي لهجمة السجّان عبر تأسيس "لجنة الطوارئ الوطنية العليا للحركة الأسيرة". يمرّ اليوم عامان على تأسيس اللجنة، لكننا لا نعرف عنها سوى بيانات تُعلن فيها عن خطواتٍ تصعيديةٍ ضدّ إدارة السجن، ثمّ ما تفتأ أن تجمّد ما كانت قد أعلنته، وهو ما جعل البعض يُشكك في جديّتها. 

للتعرف عليها أكثر، قابلنا في "متراس" أحد أعضاء هذه اللجنة، والذي سنحاول من خلاله الإجابة عن بعض الأسئلة: ما هي مكوّنات هذه اللجنة؟ وما هي ظروف تأسيسها؟ وما مدى فاعليتها؟ من يحاربها ومن يلتف حولها؟ وكيف تقاتل لإطالة عمرها خلافاً لسابقاتها من هيئات ولجان مثّلت الحركة الأسيرة؟ 

ضوءٌ من "نفق الحرية"

شكّلت عملية نفق الحريّة اختراقاً لمنظومة السجن وقوانينه، فجاء ردّ إدارة السجون من خلال إعادة بناء منظومة أكثر صرامة، عبر سن رزمة من العقوبات والقرارات الجديدة على الأسرى، والتي هدفت بالأساس إلى سلب حقوقهم وتضييق الخناق عليهم أكثر وأكثر، أبرزها: إجراء تنقلات للأسرى بين السجون، وفرض العزل الإنفرادي على عدد من الأسرى، وإلغاء الكنتينا، ومنع الفورة.

نفق الحرية الذي تمكن من خلاله الأسرى الستة الهروب من سجن جلبوع في 6 أيلول 2021. (تصوير: إيليا يفيموفيتش/ وكالة الأنباء الألمانية)

افتقرت تلك المواجهة لقيادةٍ توجّه الأسرى وتوحّدهم، وهو ما دفع بالأسرى في سجن "هداريم" تحديداً للمبادرة إلى قيادة المواجهة بتأسيس لجنة الطوارئ، وذلك إعلاناً للطارئ على كلّ إجراءات إدارة السجون ومواجهتها. 

وممّا يميز سجن هداريم عن غيره، أن الأسرى فيه لم تطلهم تبعات الفصائليّة الحادّة بين حركتي "فتح" و"حماس"، وحافظوا على تواجد مختلف التركيبات السياسيّة للحركة الأسيرة داخل أقسامه.

كيف هو حال الحركة الأسيرة؟

في معظم مراحلها، لم تنتج الحركة الأسيرة هيئات ولجان تشكّل إطاراً جامعاً للأسرى إلا في محطات تاريخيّة مؤقتة، تظهر خلال تصاعد المواجهة بين الأسرى وإدارة السجون، وكان سرعان ما يجري تعطيلها. يوضّح الأسير والقيادي في "الجبهة الشعبية" كميل أبو حنيش، في مقالٍ له بعنوان: "لجنة الطوارئ الوطنية.. والسجون"، أنّ الحركة الأسيرة عانت في جميع مراحلها من ظروفٍ أعاقت تشكيل إطارٍ جمعيٍّ للأسرى. يقسّم حنيش المراحل التي مرّت بها الحركة الأسيرة إلى ثلاثة أقسام: المرحلة الأولى (1967 وحتّى منتصف التسعينيّات) التي ساهم توزيع الأسرى فيها على عددٍ كبيرٍ من السجون في عجز الحركة الأسيرة عن توحيد نفسها، والمرحلة الثانية (1994-2000) والتي انعكست فيها اتفاقية "أوسلو" على الحركة الأسيرة بتراجع التعبئة والتثقيف وتراخي السياسات التنظيمية، والمرحلة الثالثة (2000 وحتّى اليوم) التي تمثّلت بتدفق عشرات آلاف الأسرى إلى السجون ولكن دون استيعاب وإعادة تعبئة الفصائل لهذه الأعداد. 

صورة أرشيفية لأسرى فلسطينيين خلال فترة الفورة يتمشون في ساحة سجن مجدو شمال فلسطين المحتلة، في 15 شباط 2005. (تصوير: أوريل سيناي/ غيتي إيماجز)

وبالرغم من عمق الفراغ الذي أوجده غياب إطارٍ جمعيّ للأسرى، يبيّن أبو حنيش أن ذلك لم يخلُ من محاولات لحماس و"الجهاد" والجبهة الشعبية لسدّ هذا الفراغ عبر المحافظة على هيئاتها المركزيّة وتنظيم الانتخابات شبه الدوريّة. وهو ما فشلت به فتح، مع أنها تعتبر التنظيم الأكبر داخل السجون، إذ تعمّقت الخلافات بين كوادرها من جهة، وبينها وبين فصائل المقاومة الإسلامية من جهة أخرى. 

خلعُ الشوك جماعة

تأسست لجنة الطوارئ إذن في ظلّ تراكماتٍ من الانقسامات في الحركة الأسيرة، وفراغٍ كبيرٍ سبّبه غيابُ هيئةٍ جامعة. وفي محاولة لتجاوز الفرقة، بُنيت لجنة الطوارئ من مشاركة ستة فصائل فلسطينية هي: حماس، والجهاد الإسلامي، وفتح، والجبهة الشعبية، والجبهة الديمقراطية، وحزب الشعب. وبحسب أحد أعضاء اللجنة الذي تمكّن "متراس" من مقابلته1نتحفظ على ذكر اسمه حتى لا تطاله سياسات العزل والتنكيل الإسرائيلية.، فإنّ كافة الفصائل داخل اللجنة متساوية بالأصوات بغض النظر عن حجم تمثيلها داخل السجون، يقول: "نناقش القضايا داخل جلسات دورية، ونسمع لآراء كل أعضاء اللجنة بالتساوي دون إقصاء أو إلغاء لأي جهة، ونأخذ قراراتنا بالأغلبية"، ثمّ يستطرد: "المساواة داخل اللجنة لا تُلغي أن ثلثي الحركة الأسيرة من حركتي فتح وحماس"، مشيراً إلى أن جزءاً من نجاح اللجنة تمثّل باستعادة العمل بين حركتي فتح وحماس، وهو ما انعكس على العمل الميداني في بقية السجون. 

خلال السنوات الماضية، كان الأسرى على الدوام في مواجهة مفتوحة مع إدارة سجون الاحتلال، إلا أن الفصائل الفلسطينية قليلاً ما توحّدت في مواجهة ذلك، بل خاضت كل واحدة منها معركتها بشكلٍ منفردٍ مع السجان. يعلّق عضو اللجنة: "يؤكد تاريخ الحركة الأسيرة أنّ معظم الإضرابات والخطوات التي لم تشارك فيها مجمل الحركة الأسيرة لم تنجح، آخرها كان إضراب عام 2017 الذي خاضته حركة فتح لمدة 41 يوماً دون تحقيق شيء".

محطاتُ المواجهة

منذ تأسيسها عملت لجنة الطوارئ على التعامل مع الإجراءات والقوانين الحديثة التي يفرضها الاحتلال على الأسرى منذ عملية "نفق الحرية"، وتركّز عملها على المحافظة على الوضع الراهن للحركة الأسيرة ومواجهة القمع وعدم إنفاذ الإجراءات القمعية الجديدة. تذكر اللجنة في بيان لها في الذكرى الثانية على عملية النفق أنّها: "تشكلت وقتها (لجنة الطوارئ الوطنية العليا) لتدير الأزمة باقتدار ووحدة حال وقرار، وخاضت بعدها تحديات ومعارك".

يلخّص عضو اللجنة المحطات الأساسية الثلاث التي قاتلت فيها اللجنة، والتي انتهت بوقف الإجراءات العقابية وبعض التغييرات التي كانت ستجري على واقع السجون. كانت المحطة الأولى تحت عنوان "موحدون في وجه العدوان"؛ جاءت بعد عملية نفق الحرية واستمرت حتى 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2021. 

فتية يشاركون في مواجهات بالخليل إسناداً للأسرى المضربين في سجون الاحتلال، في 8 تشرين أول 2021. (تصوير: مأمون وزوز\ وكالة الأناضول)

أما المحطة الثانية فكانت تحت عنوان "انتفاضة السجون"؛ انطلقت في شباط/ فبراير 2022، وهدفت لمواجهة الإجراءات الصادرة عن اللجنة الإسرائيلية التي تشكلت للتحقيق في عملية نفق الحرية، وتبعها فرض مزيد من الإجراءات القمعية الجماعية على الأسرى. يعلق عضو اللجنة: "هذه المرة الأولى التي ينجح فيها الأسرى بوقف إجراءات ذات طابع أمني تُفرض عليهم من قبل إسرائيل".   

وتحت عنوان "بركان الحرية أو الشهادة"، كانت المحطة الثالثة في آذار/ مارس 2023، والتي كان من أبرز ملامحها نشر وصية جمعية للأسرى، جاء فيها: "قررنا بملء الإرادات المؤمنة (...) أن نطلق سهام من على أوتار أرواحنا المتمردة، فإما حرّيّة حمراء مخضبة بالجوع والكرامة وإمّا انتصار أكيد على الذات والدنيا معاً".

لماذا تتراجع اللجنة عن بعض خطواتها؟

اتبعت اللجنة في المحطات الثلاث المذكورة اتخاذ خطواتٍ تكتيكيةٍ واستراتيجية، تتمثّل في: إعادة وجبات الطعام، والاحتجاج في ساحات السجن، ودخول الأسرى حالة من التعبئة وشحذ الهمم للمواجهة، والتمرد على قوانين السجن بتأخير الفحص الأمني، وارتداء "الشاباص" (ملابسُ  بنيّة يرتديها الأسرى عند التوجّه للمحاكم وعند تصعيد المواجهة) والتخلي عن اللباس المدني، وتأخير فترات الخروج إلى "البوسطة" (أداة للتنكيل على هيئة حافلة لنقل الأسرى) من أجل المحاكم أو النقل من سجن إلى آخر أو النقل إلى العيادة… وإلخ من الخطوات.

يقول عضو اللجنة: "دخول الأسرى في حالة العصيان يعني إعاقة القوانين الإسرائيلية القائمة عليها منظومةُ السجن.. هذه القوانين قائمة على إلزام الأسرى ومصادرة حرياتهم، والعصيان يعني إبطال هذه القوانين".  

أما الإضراب عن الطعام، فيأتي كخطوةٍ استراتيجيةٍ تُتخذ في نهاية مجموعة من الخطوات التكتيكية، وتعتبر الخطوة الجمعية الأصعب التي تتخذها الحركة الأسيرة. يقول: "محطة الإضراب عن الطعام تنجح في حال نجح الأسرى بكافة فصائلهم المشاركة فيها، والتي تلزم إدارة السجون بدخول حالة الطوارئ". 

فلسطينيون يتظاهرون أمام سجن جلبوع في 18 أيلول 2021، مطالبين بوقف الإجراءات العقابية ضد الأسرى والتي اتخذت عقب عملية نفق الحرية. (تصوير: أحمد الغرابلي /وكالة الصحافة الفرنسية)

وأعلنت لجنة الطوارئ في عدة مرات عن إضراب جماعي، ثمّ بعد فترة زمنية كانت تصدر قراراً بتجميده. وهو ما يثير التساؤل: لماذا تتراجع لجنة الطوارئ عن بعض خطواتها بعد الإعلان عنها؟ تجيب اللجنة على لسان عضوها: "لم نلغ في أي مرة خطوة الإضراب عن الطعام إلا بتحقيق الحد الأدنى من مطالبنا.. في معظم المرات استجابت إدارة السجون في الدقيقة الأخيرة لمطالبنا ولذلك كنا نلغي الإضراب لأنه أصبح غير فاعل". 

ويضيف: "في كل المحطات، إدارة السجون التي كانت تتراجع وتوقف خطواتها. مثلاً في كانون الثاني/ يناير 2021، جمدنا إضرابنا عن الطعام بعد تحقيق مطلبنا بتركيب الهواتف العمومية لدى الأسيرات والأسرى المرضى والأسرى الأشبال". 

وبالرغم من هذه الجهود والإنجازات غير المعلنة، إلا أنّ البيانات المتكرّرة للجنة الطوارئ لم تنجح باستنهاض الميدان الفلسطيني ليتفاعل مع قضية الأسرى، إذ باتت كثرتها (الإعلان ثمّ التراجع) دون شرح تفاصيل التوجّه إلى الخطوة التعصيديّة أو التراجع عنها أو حتّى تفاصيل ما يخوضه الأسرى ويواجهونه، عاملاً لغياب الجديّة في تعامل الإعلام والمجتمع (طبعاً إضافة لعوامل كثيرة تخصّ  هؤلاء) مع هذه البيانات بما يليق بالظروف التي يمرّ بها الأسرى.

كيف تُحارب اللجنة؟ وعلى أيّ أصعدة؟

لم تنشأ لجنة الطوارئ في جوٍّ من القبول والتصفيق من جهة إدارة سجون الاحتلال بالتأكيد، ولكن من بعض الأسرى كذلك.

لقد أدّى تشكيل لجنة تتجاوز حالة الشرخ الموجودة بين الفصائل، إلى أن يبذل مؤسسو اللجنة كلّ جهدهم في إقناع الأطراف المختلفة بجدوى العمل الجماعي. يقول عضو اللجنة: "بذلنا الكثير من الجهود في إقناع الفصائل باتخاذ خطوات تدعم سير عمل اللجنة.. صحيح لم نتعرض لضغوطات، ولكن ضمنياً احتجنا لجهود عالية في بعض الجوانب ومع بعض الشخصيات من أجل مساندة اللجنة وعملها". 

كما يكشف عن وجود خلافات حول اللجنة، تحديداً من حركة فتح: "من جهة، هناك شخصيات متنفذة في فتح في بعض المواقع يخشون على مواقعهم وتمثيلاتهم ولذلك يسعون للابتعاد عن المواجهة.. ومن جهة أخرى، هناك شخصيات أيضاً متنفذة في فتح، ترى أن أي حالة للوحدة يجب أن تمر من خلالهم فقط وذلك لتحديد مسار وعمل هذه الوحدة".  

غياب تعبئة الأسرى - التي أشار لها أبو حنيش في مقاله - لعبت دوراً سلبياً أيضاً في مرحلة المواجهة الحالية. يُعلق عضو اللجنة: "الكثير من الأشخاص يترددون في خوض الخطوات التكتيكية بعدما اعتادوا الراحة لفترات مرت دون مواجهة، وذلك أيضاً يلعب دوراً سلبياً داخل كثير من الفصائل وتفاعلها مع القرارات الجمعية، وذلك يزيد من العبء على اللجنة ويتطلب منها بذل الكثير من الجهود في شحذ الهمم وتعبئتها حول القرارات الجمعية". 

أما على مستوى إدارة السجون، شكّلت لجنة الطوارئ قلقاً لديها لكونها تعمل على توحيد الأسرى على قاعدة اشتباكٍ واحدة. ورغم حداثة تشكل اللجنة، إلا أن إدارة السجون قد حرصت على فتح قناةٍ للتفاوض معها. 

ومن جهةٍ أخرى، يُبيّن  عضو لجنة الطوارئ، أنّ اللجنة تضغط خلال خطواتها على المستويات السياسيّة في السلطتين في رام الله وغزّة، إذ دفعت سلطة رام الله لوضع ملف الأسرى على طاولة نقاش قمتي "العقبة" و"شرم الشيخ". كما تواصلت مع حماس التي فعلت بدورها الوساطة المصرية للضغط على إدارة السجون لوقف الإجراءات العقابية على الأسرى. يُعلّق: "لا ننكر الدور الذي لُعب مؤخراً على المستوى السياسي، إلا أن هذا الدور لم يكن ليحدث لولا دورنا نحن". 

من الطارئ إلى الثابت 

لم تحقّق اللجنة إطاراً جمعياً للأسرى - كما يُنظر إليها اليوم - فحسب، بل استطاعت أيضاً منذ تأسيسها إعادة صياغة تعريف العلاقة بين الأسير والسجّان، على أنها علاقة قائمة على الاشتباك الدائم بالتصدي للقرارات والإجراءات العقابية. "خلال العامين الماضيين استعدنا ثقتنا بفاعلية رفضنا، وأصبحنا أكثر إيماناً بدور الجهد المشترك"، يقول عضو لجنة الطوارئ.  

في الذكرى الثانية على تأسيسها، وقّعت اللجنة بيانها بـ "اللجنة الوطنية العليا للحركة الوطنية الأسيرة" وقد أزالت سمة الطارئ عن الاسم، هذا وأنّها ما زالت وسط طارئ يحاول اقتلاعها، إلا أنها إشارة لسعيها في استمراريّة عمل هذا الإطار الموحّد. الاستمرار والفاعليّة؛ هذا هو التحدّي الأكبر، ليس فقط في مواجهة السجّان، ولكن أيضاً في التعامل مع التحديات الداخليّة التي تعصف بالحركة الأسيرة، والأهم في إعادة ملف الأسرى كأولوية عند الشارع الفلسطينيّ.



8 مايو 2020
سيرة استنزاف الصحّة في غزّة

رغم أنّ عدد الإصابات بفيروس "كورونا" في قطاع غزّة لا يزال منخفضاً، وأنّ أغلبها إصاباتٌ محصورة في القادمين من خارج…