22 نوفمبر 2023

عن الصحافة في زمن الحرب

عن الصحافة في زمن الحرب

بعد الضربة القاسية التي تلقاها الاحتلال في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ومنذ انطلاق معركة طوفان الأقصى، تصاعدت الاعتداءات والاعتقالات ضدّ الفلسطينيين في الضفّة والقدس وأراضي الـ1948، وأصبح مجرد الحديث عن غزّة وعن مقاومتها "حجةً" للتهديد والضرب والتنكيل والاعتقال، وصولاً للقتل.  

شمل ذلك الاعتداء بشكلٍ واسعٍ على الصحفيين ومؤسسات الإعلام، ومحاولة إخضاعها، وكتم الصوت المناصر للمقاومة وذلك الذي يُبرز جرائم الاحتلال. تسعى "إسرائيل" من خلال ذلك إلى ما يمكن تسمّيته بـ"جزّ الوعي"، ولو على المستوى الشعوريّ، أي خنق أي مساحة يُمكن من خلالها مجرد الحديث عن المجازر أو التعبير عن وحدة المصير أو التماهي مع المحاصرين والمستهدفين في غزة ومناصرتهم ولو بالكلمة. 

تريد "إسرائيل" أن يستمر الناس في "العيش" في الضفّة تشغلهم أمور حياتهم الشخصيّة، وتدفعهم بكل قوّتها لينأوا بأنفسهم عن فلسطين الكاملة، التي يُقاتل أهلها من أجل استعادتها كلّها، وتسعى إلى خلق حالة من الترهيب تلجمهم حتى عن الحديث في مجموعات الـ"واتساب" عمّا يحدث لإخوانهم في غزّة، فما بالك بالعمل الإعلامي المعلن، إضافةً إلى محاولة قتل الصوت المؤثر في الخطابات والإعلام الغربيّ.

صحفيو غزّة: شهداء الحقيقة

من أوائل المستهدفين في ذلك الصحفيون في غزّة. فقد قتل طيرانُ الاحتلال الحربيّ، حتى اللحظة، 56 صحافيّاً وصحافيّة، بعضهم استشهد أثناء أداء عملهم وهم يرتدون الزي الصحفيّ، وبعضهم استشهد باستهداف منازلهم فارتقوا مع عائلاتهم، كما حدث مع الصحفيتين آلاء طاهر الحسنات وآيات الخضورة. شمل ذلك أيضاً استهداف بعض المكاتب الإعلاميّة، في محاولة لإخفاء المجازر وتعطيل الدور الذي يمكن أن يؤديه الإعلام خلال المعركة. وحسب "مراسلون بلا حدود"، فإنّ صحافياً واحداً أو أكثر يستشهد كل يوم في غزّة.

وبحسب إحصائية نشرتها نقابة الصحفيين الفلسطينيين فإنّ عشرات الصحفيين في غزّة فقدوا منازلهم، و45  صحفيّاً فقدوا ما مجموعه 250 فرداً من عائلاتهم، و1200 صحفيّ أصبحوا نازحين. كما قصف الاحتلال 61 مقراً إعلاميّاً، وأُغلقت 24 إذاعة بسبب القصف ونفاذ الوقود وانقطاع الكهرباء والاتصالات، علماً أنّ هذه الأرقام هي بالحدّ الأدنى، وهي آخذة بالازدياد مع استمرار العدوان.

من تشييع الصحفيين الفلسطينيين محمد صبح وسعيد الطويل، اللذين استشهادا أثناء عملهما في غارات جوية إسرائيلية في 10 أكتوبر 2023 في مدينة غزة. (تصوير: أحمد حسب الله/ غيتي إيماجز)

ومن الشهداء الصحفيين، الصحفي ساري منصور، الذي نشر قبل حوالي أسبوع مقطع فيديو قال فيه: "نتعرض لحملة شرسة وحذف للمحتوى الفلسطيني بشكل متكرر، فقط المطلوب منكم نشر الحسابات ودعمها بصورة تليق بصمود أهل غزة وتضحياتهم، حتى نتمكن من إيصال الصورة والصوت والكلمة والمعاناة التي يعانيها أهل القطاع". لم تمهل طائرات الاحتلال منصور وقتا ليرى محتواه يصل للعالم كله، لأنها استهدفته برفقة زميله حسونة سليم وهما يرتديا درعي الصحافة وعلى رأس عملهما في مخيم البريج جنوب قطاع غزّة، في الثامن عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر.

كذلك هو الحال على الحدود الفلسطينية اللبنانية التي تشهد أحداثا آخذة بالتصاعد بين حزب الله وفصائل المقاومة من جهة، والاحتلال من جهة أخرى، فقد تعمد الاحتلال استهداف الصحفيين وقصفهم أثناء عملهم، وكان آخرهم استشهاد مراسلة قناة الميادين فرح عمر و المصور ربيع العماري.

ومثلما قال مراسل الجزيرة، وائل الدحدوح، "معلش" بعد أن ارتقت زوجته واثنان من أبنائه بقصف استهدف منزلهم في مدينة غزة، وكبح جماح حزنه واستمر في التغطية للجرائم في مشهد مذهل، فإن الصحفي مصطفى الصواف قد نشر على فيسبوك: "الحمد لله، قصف منزلنا واستشهد أكثر من 45 شخص من بينهم أمي وأبي وإخوتي الاثنين وأولادهم جميعا، لقد تم إصابتي بالوجه للأسف لم أجد طبيبا حتى الآن لمساعدتي كوني في مدينة غزة ولا يوجد مستشفى ولا حتى أطباء.. نحن مستمرون في التغطية رغم كل شيء".

في الضفة: تهديد وتحريض واعتقال 

على صعيد الضفّة الغربيّة والقدس، فقد اعتقلت قوات الاحتلال منذ بداية المعركة حتى اللحظة 30 صحافياً، حوّلت بعضهم إلى الاعتقال الإداريّ، ووجهت لآخرين تهم التحريض على ما تسمّيه "الإرهاب" من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. منهم الصحافية ميرفت العزّة من القدس، والصحافية سميّة جوابرة من نابلس، والتي أفرج عنها ضمن شروط قاسية مع استمرار مداولات قضيتها أمام المحاكم العسكرية. وقد وُجهت للاثنتين تهم تتعلق بما يُسمّى "التحريض". يُذكر أن مجموعة "صيادو النازيين" على تيليغرام، والتي يشرف عليها مجموعة من المستوطنين، حرّضت على عدد من الصحفيين ودعت قوات الاحتلال لاعتقالهم، ومنهم الصحفية جوابرة.

ومن الصحفيين الذين تعرضوا للملاحقة، الزوج محمد بدر وسجود عاصي. ففي التاسع والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، اعتقل جيش الاحتلال الصحفية سجود عاصي، من بيت لقيا شمال غرب رام الله، وهي حامل في أسبوعها الثامن، بهدف الضغط على زوجها الصحفي محمد بدر لتسليم نفسه. وكان الاحتلال قد اعتقل سابقاً والده وشقيقيه للضغط عليه أيضاً. 

تظاهرة في مدينة رام الله في 7 نوفمبر 2023 إسناداً للصحفيين العاملين في قطاع غزة. (تصوير: جعفر اشتية / وكالة الصحافة الفرنسية)

تقول سجود: "اقتحم الجيش المنزل برفقة كلاب بوليسية وكنت فيه أنا وطفلتي صباح (7 سنوات) واقتادتني إحدى المجندات إلى غرفة وفتشتني بشكلٍ عنيف دون مراعاة لوضعي الصحيّ الخاص، ثم اعتقلوني باتجاه حاجز بيت سيرا مشياً على الأقدام، والذي يبعد مسافة طويلة عن بلدتنا".

في اليوم ذاته اضطر محمد إلى تسليم نفسه ليتم الإفراج عن سجود، وهذا الاعتقال الخامس له، وكان التحقيق معه في الاعتقال قبل الأخير، والذي حُول فيه للاعتقال الإداري، يدور حول عمله الصحفي، بحسب ما قالته سجود.

ممنوع العمل في الصحافة!

شملت الحملة الإسرائيلية على الصحافة التهديد أو المباشرة فعلياً بحظر بعض وسائل الإعلام ومنعها من العمل. قبل حوالي شهر صادقت حكومة الاحتلال على قرار يُتيح إغلاق مكتب قناة "الجزيرة" في فلسطين المحتلة، إذ جاء في بيان لهيئة البث الإسرائيلية أنّ "الحكومة وافقت على أنظمة الطوارئ التي ستسمح بإغلاق أنشطة الجزيرة في إسرائيل، كونها تعرّض الجنود والمواطنين الإسرائيليين للخطر". لكن مكتب "الجزيرة" لم يُغلق ولا يزال فريق القناة يواصل عمله من فلسطين، بعد أن منع وزير حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو قرار إغلاقها خوفاً من الإضرار بالوساطة القطريّة، وفق ما قالته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية.

أما قناة الميادين، فقد صادق المجلس الأمني الإسرائيلي المصغّر قبل نحو أسبوع على قرار إيقاف عملها بعد قرار من وزير إعلام الاحتلال، زعماً أنّها  تضرُّ بـ"أمن إسرئيل" وفقاً لأنظمة الطوارئ بعد عملية طوفان الأقصى.

وحول القرار، عقّب رئيس مجلس إدارة شبكة الميادين غسان بن جدو قائلاً: "يحسب كيان الاحتلال بهذا القرار أنه يوجه رسالة تهديد متجددة للميادين وعبرها رسائل تهديد لإعلام الأحرار، وحظرنا من التغطية هو جزء من سياستها الدائمة في الاعتقال وكم الأفواه وفي مصادرة حرية الصحافة والتعبير المألوفة".

مراسل قناة الجزيرة وائل الدحدوح يؤم بالمصلين خلال تشييع زوجته وابنه وابنته الذين استشهدوا خلال استهداف الاحتلال منزلهم في مخيم النصيرات وسط غزة، في 26 أكتوبر 2023. (تصوير أشرف عمرة / الأناضول)

وقبل ذلك، أصدر جيش الاحتلال قراراً بإغلاق شركة "جي ميديا" الإعلامية وشبكة "القسطل" الإخبارية، بدعوى أنهما تتبعان لحركة "حماس"، وأنهما منظمتان غير مشروعة. على إثر ذلك، أعلنت "جي ميديا" في بيانٍ لها عن توقفها عن العمل، ودعت في بيانها الحكومةَ الفلسطينيّةَ للوقوف أمام مسؤولياتها في توفير الحماية والحفاظ على الجسم الصحفي المستهدف. وبعد حظرها، اعتقل الاحتلال مدير الوكالة، علاء الريماوي. 

أما شبكة "القسطل"، فقد أشار أحد العاملين فيها إلى أنّهم سمعوا بالقرار من وسائل إعلام إسرائيلية ومن ثمّ شاهدوا فيديو لوزير جيش الاحتلال، يؤواف غالنت يتحدث فيها عن القسطل، ويدّعي أنها تتبع لحركة "حماس". ومن ثمّ بعدها بيومين، صدر قرار بحظرها. 

وأشار المصدر ذاته إلى أنّه بعد القرار اتصلت مخابرات الاحتلال بخمسة صحفيين من طاقم القسطل وعدد آخر من المتطوعين وهددتهم بعقوبات بالسجن والغرامة المالية في حال استمروا بالعمل أو التواصل مع الشبكة.

توازياً مع ذلك، تحارب مواقع التواصل الاجتماعي المحتوى الفلسطينيّ، وتستمر في حظر عشرات الصفحات التي تنشر وتوثّق جرائم الاحتلال، أو العمليات الفدائية. في بيانٍ له، أشار مركز "صدى سوشيل" إلى أن شهر تشرين الأول الماضي شهد "أكثر من 11 ألف انتهاك رقميّ للمحتوى الفلسطيني على منصات التواصل الاجتماعي"، مشيراً إلى أن هذه الانتهاكات "استهدفت المؤسسات الإعلامية والصحفية بنسبة 45% من مجمل الانتهاكات، وتمثلت بحذف صفحات المؤسسات الإعلامية وتعرضها للتقييد".

التغطية مستمرة

ما تريده "إسرائيل" هو أن تجعل الفلسطيني يفكر ألف مرة قبل نشر مادة إعلامية على وسائل التواصل الاجتماعي خوفاً من أي ملاحقة، فإن غضت إدارة وسائل التواصل الاجتماعي الطرف عما ينشره، فإنَّ جيش الاحتلال لا يمرّرها ويعتقل ويهدّد ناشرها. لم يعد الأمر مقتصراً على النشطاء أو رواد المواقع، بل إن الواقع الصحفي أصبح مشمولاً ضمن هذا التهديد، فمن ينشر ويصوِّر ويوثِّق الاعتداءات والجرائم، إما أن يُقتل بالقصف هو وعائلته كما يحدث في قطاع غزّة، أو أن يُعتقل ويسجن بتهمة التحريض أو حتى دون تهمة واضحة ويُحوّل ملفه للاعتقال الإداري، أو أن يُهدّد بالسجن والغرامات المالية، كما يحدث في الضفّة والقدس.

في الختام، ليس من الجديد أن تستهدف "إسرائيل" الصحافة والصحفيين في فلسطين، لكن الاستهداف الحالي منذ انطلاق معركة "طوفان الأقصى" أشدّ تصعيداً وتنكيلاً. تريد "إسرائيل" أن تستغل اللحظة التي اخُترِقَت فيها "حصونها" التي ظنّتها منيعةً، لتعكس أثرها، وتزرع في نفوس الناس بدلاً من الأمل خوفاً ورعباً، وتقمع أي محاولةٍ للبناء والمراكمة على تلك اللحظة التاريخيّة، ولو بالكلمة والصورة.  لكن صوتاً عالياً يغلب على كل هذا يقول: "التغطية مستمرة".