"من أصل 12 ألف طير، نجا اثنان فقط! كان لونهم أسود أسود!". هكذا وصفَ أحمد عدلي رزق ما تبقّى من مزرعة الدواجن التي يملِكُها في قرية قُصرة، جنوب نابلس في الضفّة الغربيّة، بعد أن أشعلَ مستوطنون النّار فيها، في 14 مايو/أيار 2021، في خضمّ الهبّة الشعبيّة التي شهدتها فلسطين. التهمت النيرانُ الطيورَ والتمديدات الأساسيّة من كهرباءٍ وماء، وعاد مشروعً العائلة إلى نقطة الصّفر من حيث بدأ قبل عام، بخسائر قُدِّرَت بمئات آلاف الدولارات.
خلال أيام الهبّة الشعبيّة في مايو/ أيار 2021، وبينما كانت نقاط التماس في الضفّة الغربيّة تشهدُ مواجهاتٍ عنيفةً بين جيش الاحتلال والشبان الفلسطينيّين، كان المستوطنونَ يشنّون هجماتِهم المُنظّمة على القرى الفلسطينيّة، في تصاعدٍ جديدٍ يتقاطعُ مع ما شَهِدَته كذلك القدس وقرى ومدن أراضي الـ48.
من قرية قُصرة حيث كانَ الهجومً الأعنف، إلى قرى عوريف وعصيرة وعينابوس في محافظة نابلس، وانتقالاً إلى قرى إسكاكا وقراوة بني حسان ودير استيا في محافظة سلفيت، ثمّ البلدة القديمة في الخليل، وغيرها من المناطق. شاركت في هذه الاعتداءات أعدادٌ كبيرة من المستوطنين، مستخدمين النّار في حرق المنشآت والمنازلِ وتخريب الأشجار، وإطلاق الرصاص مباشرةً تجاه الفلسطينيّين.
اقرؤوا المزيد: "النواة التوراتيّة تُعسكر في قلب اللّد".
في كلّ تلك الاعتداءات، اكتملت الأدوارُ بين جنود جيش الاحتلال وبين المستوطنين. استخدمَ الجيشُ المستوطنين كأداةٍ لمحاصرة الهبّة وقمع امتدادها إلى الريف الفلسطينيّ والمحافظة على تركيزها في نقاط التماس بالقرب من الحواجز العسكريّة الرئيسية، وكذلك كجزءٍ من سياسة الردع لأي مقاومةٍ شعبيّة تحاول أن ترفع رأسها في المنطقة. اكتمالُ الأدوار هذا أكدّته شهاداتٌ من أهالي تلك المناطق، إذ قالوا إنّ المستوطنين نفّذوا اعتداءاتهم على مرأى من الجيش، وأنّهم في بعض الأحيان استخدموا أسلحةَ الجنود لإطلاق النّار. ومن بين 11 شهيداً ارتقوْا في الضفّة الغربيّة ذلك اليوم، استشهد اثنان برصاص المستوطنين، هم نضال الصفدي، وعوض حرب.
قُصرة على خطّ النّار
في ذلك اليوم، تلقّى عدلي رزق (65 عاماً) اتصالاً يُحذِّرُه من تجمع أعدادٍ كبيرة من المستوطنين في محيط قريته قصرة. أغلقَ باب مكتبه وجلسَ يراقب تسجيلات كاميرات المراقبة في مزرعته: "أنا بعرف لو بوقع بين أيديهم ما برحموني". تظهرُ تسجيلاتُ الكاميرات تجمّع عشرات المستوطنين ممن قدموا من مستوطنة إيش كودش - معظمهم غطّوا وجوههم -، وخلال انتظارهم وصولَ كامل العدد، دمّروا غرفةً زراعيّة في المنطقة، ثمّ تسلّقوا سور مزرعة رزق، وأشعلوا النّار فيها ودمّروا معدّاتها. يقول عدلي: "حاولت أن ألقي عليهم الحجارة وإبعادهم، إلا أّن الجنود هدّدوني وأطلقوا النار صوبي".
في الوقت ذاته، كانت مجموعةٌ أخرى من المستوطنين قد بدأتْ بمحاصرةِ مزرعة دواجن أخرى لفادي عواطلة تبعدُ 500 مترٍ عن مزرعة رزق، وبدأت بإشعال النيران فيها وتحطيم معدّاتها. فيما توزّعت المجموعات الاستيطانيّة الأخرى - بعضها توّجه إلى المنازل القريبة، وآخرون إلى قاعة المجلس القرويّ. بتوصيفِ أهل القرية، كان هذا الهجومُ المزدوج الأعنفَ الذي تتعرضُ له قُصرة منذ سنوات؛ المستوطنون يُهاجِمون، وخلفهم الجنود يُطلِقون النّار صوب أيَّ فلسطينيٍّ يحاول الدفاع عن نفسه وممتلكاته.
يقول فادي: "حاصروني داخل المزرعة، كان خوفي من رصاص الجيش الذي يحمي المستوطنين.. بعد دقائق تمكّنت من التسلِّل إلى إسطواناتٍ تحتوي 400 لتر من الغاز وإطفاء الحريق الذي كان يحيطُ بها، لو طالها لحدثتْ كارثةٌ في المنطقة كلها". أقام فادي مزرعته عام 2016، وتمتدّ على مساحة 800 متر مربع، دمّر الاعتداء الأخير ما نسبته 40% منها بخسائر قُدِّرَت بحوالي 700 ألف شيكل، ونفوق حوالي 12 ألف طيرٍ. يصف فادي هذه الهجمة بأنّها الأقسى معنويّاً وماديّاً من بين سلسلة هجماتٍ تعرّض لها سابقاً من المستوطنين، يقول: "انكسرنا، خربوا بيتنا".
ومع توافدِ العشرات من الأهالي إلى المنطقة، بعد استغاثات المساجد، اندلعت مواجهاتٌ عنيفة مع الجيش والمستوطنين تخلّلها إطلاقٌ للرصاص الحيّ، ما أدّى لإصابة نحو 24 شاباً. يقول محمد خرويش، رئيس مجلس قُصرة، "إطلاق الرصاص كان هدفه القتل، معظم الإصابات كانت بالرصاص الحيّ، وجزء منها استهدف الأجزاء العلويّة من الجسد". ويضيف: "لم نشهد مواجهات سابقاً بهذا العنف.. العنفُ الذي لم يكن من المستوطنين فقط، بل من الجيش الذي استخدمَ أعنف ما لديه لتوفير الحماية للمستوطنين ليكملوا اعتداءهم".
اقرؤوا المزيد: "الموت للعرب".. عن مستوطني شبيبة التلال".
يسكنُ في قرية قُصرة سبعة آلاف فلسطينيّ يُحاصرونَ بخمس مستوطنات، أقدمها مجدوليم المقامة منذ عام 1983 شرقاً، فيما تحاصرها من الجهة الجنوبيّة الغربيّة: ايش كوديش، كيدا، إحيا، وعلييه، وشيلو. وتتعرض القرية لسلسلةٍ من الهجمات منذ 2010، بعد أن توّسعت عملية إقامة البؤر الاستيطانيّة وتوسيع المستوطنات القائمةِ في المنطقة. ويبيّن خروش أنَّ تصاعدَ هجمات المستوطنين يرافقها فرضً عقوبات على أهالي قصرة، من حملات اعتقالاتٍ واستدعاءات، وبعد الهجوم الأخير الشهرَ الماضي سُحبت تصاريح العمل الإسرائيليّة من حوالي 50 شاباً لهم علاقة قرابة مع جرحى المواجهات.
خلال هذا العقد من المواجهة، شهدتْ القريةُ عام 2014، وعام 2017، حدثيْن مهمّين، عندما نجحَ الأهالي في احتجاز عددٍ من المستوطنين حاولوا الاعتداء على ممتلكاتهم في القرية. يقول خرويش، "كسرنا روسهم في ذلك الوقت.. ولكن اليوم أصبحوا يهجمون بأعداد كبيرة وبحراسة من الجيش".
البحث عن عائلة دوابشة أخرى…
في عصيرة القبلية، الواقعة جنوب نابلس، اعتدى المستوطنون على منزليْن في أطراف القرية، وحاولوا إشعالَ النيران فيها بقصدِ قتل مَنْ فيها. يروي مجدي مخلوف من القرية أنّ مستوطناً، جاء مع مستوطنين آخرين، في ساعةٍ متأخرة من ليلة 14 مايو/ أيار، وكسر زجاج نافذة إحدى غرف منزله وأشعلَ النَّار فيها. لكنَّ العائلة انتبهت فوراً لما حصل وتمكّنت من السيطرة على الحريق في الوقت المناسب. يُعلّق: "حاول المستوطنون تكرار جريمة عائلة دوابشة في قرية دوما، لولا أن تنبّهنا لهجومهم لحدثت كارثة".
أما قاسم صالح من القرية ذاتها، فقد واجه اعتداءً شبيهاً، إذ يقول: "سمعنا صوت زجاجٍ يتحطّم رافقه صوتُ انفجارٍ خفيف، وعند خروجنا وجدنا ثلاثة مستوطنين يرتدون أقنعةً هربوا من المكان سريعاً بعدما ألقوا زجاجاتٍ حارقةً تجاه باب المنزل والنافذة". وقعَ الحريق خارج المنزل، ونجت العائلة من كارثة أخرى.
النيّة: القتل
من بعد ظهر اليوم نفسه، كانت مساجدً عوريف، جنوب غرب نابلس، تنادي الأهالي لصدّ هجومٍ للمستوطنين في منطقة الصفافير شرقيّ القرية، حيث بدأ المستوطنون بإشعالِ النيران في مدرسةٍ هناك. تعتبرُ عوريف إحدى القرى الواقعة على تماسٍ يوميّ مع مستوطني يتسهار، تلك المستوطنة التي خرجت منها الغالبيةُ العظمى من اعتداءات المستوطنين في منطقة نابلس.
يروي مصطفى الصفدي، أحدُ شبّان القرية، أنّ معظم المستوطنين المشاركين في الهجوم كانوا يحملونَ المسدسات، وثلاثة منهم كانوا يحملون أسلحةً أتوماتيكية، وقد وصلت لدعمهم قوّةٌ من جيش الاحتلال، التي أطلقت الرصاصَ الحيّ. يقول الصَّفدي: "كان إطلاقُ النّار كثيفاً من قبل الجنود والمستوطنين، وقد أصيب سبعة شبانٍ بالرصاص الحيّ في وقتٍ واحدٍ عند محاولتهم الاقتراب من المدرسة والدفاع عنها".
في تلك الأثناء، أُصيب شقيق مصطفى، نضال الصفدي، وهو أبٌ لثلاثةِ أطفال وكان بانتظار الرابع، بثلاث رصاصات؛ اخترقت الأولى القصبة الهوائيّة، والثانية البطن، والثالثة أصابت قدمه، أدّت إلى استشهاده على الفور. يقول مصطفى: "غالب الظن فإنّ من أطلق النّار على أخي هو مستوطن، من مسافة لا تتجاوز ستة أمتار". بحسب إفادات من أهالي القرية، فقد كان هذا المستوطن مُلثّماً وأخذت له صور وهو يقفُ مع أحد الجنود، والبعض قال إنّه استعار السّلاح من الجندي.
أما الشهيد الثاني الذي استشهد برصاص المستوطنين ذلك اليوم، فقد كان عوض حرب من قرية إسكاكا شرق سلفيت. شهدت القرية في ذلك اليوم هجوماً بالرصاص من المستوطنين. كان حرب في طريقه إلى منزل أحد أشقائه عندما أصيب. يقول شقيقه أنور: "خلال مرور عوض من المكان، اتَّخذ أحد المستوطنين وضعيةَ ركبة ونصف، وأطلق صوبه النّار". وحسب شهادة عددٍ من الشبان الذين شاركوا في صدّ هجوم المستوطنين، فإنّ أحد المستوطنين كان يختبأ خلف بوابة منزلٍ قريب، وهو من أطلق النّار- على ما يبدو - صوبَ عوض وأصابه بخاصرته. يقول شقيقه: "نقلناه إلى عيادة القرية ولكنَّ الأطباء أعلنوا استشهاده خلال عشر دقائق". وكما قرية عوريف، لم تشهد قرية إسكاكا هجوماً مسبقاً بهذا العنف من قبل، رغم تعرّضها بشكلٍ مستمر لهجمات من مستوطني أرايئيل ورحليم. يعلق أنور: "دخلوا مسلحين وكانت نيتهم القتل".
عائلتا الصفدي وحرب لا نيّة لديهما للتحقيق أكثر في ظروف استشهاد نضال وعوض، ولا ترى فرقاً باستشهادهما برصاص الجيش أو المستوطنين. يعلّق أنور عوض: "نحن نعلم جيداً أنه لا جدوى من التوجه للقضاء الإسرائيلي الذي لم يصدر أيّ قرارٍ لصالح الفلسطيني". ويقول مصطفى الصفدي: "لا نتيجة بفتح ملف تحقيق لدى قاتل أخي.. الكثير توجّه للقضاء الإسرائيلي لملاحقة قتلة الشهداء، ولكن لم يكن هناك أي نتيجة".
الخليل.. رقم 1
بحسب توثيق مكتب تنسيق الشؤون الإنسانيّة التابع للأمم المتحدة (أوتشا)، شهدت الضفة الغربيّة في الفترة ما بين 5 مايو/ أيار 2021 إلى 1 يونيو/ حزيران 2021، ما يقارب 112 حالة لاعتداءٍ من المستوطنين على الفلسطينيين في أراضي الضفة. كان لمحافظة الخليل النصيبُ الأكبر منها، بواقع 44 حادثة اعتداء. كذلك، تكرّر في البلدة القديمة من الخليل مشهدُ تكامل الأدوار بين المستوطنين والجنود لقمع الناس. حسب شهادة عماد أبو شمسية، الناشط في "تجمع المدافعين عن حقوق الإنسان في الخليل"، فإنّ أحد الجنود قام بإعطاء سلاحه لمستوطنٍ والذي بدورهِ أطلق النّار تجاه فتى فلسطينيّ كان يحاول الوصول إلى منزله في حي تل الرميدة.
كما وثّقت كاميرات نشطاء التجمع إطلاق المستوطنين النار اتجاه فلسطينيين في شارع الشهداء، وتجاه منازلهم القريبة من مستوطنة "بيت هداسا". يُعلّق أبو شمسية: "تصاعدت اعتداءات المستوطنين في الفترة الأخيرة، بالذات خلال العدوان على غزّة، لكنَّ أعنفها كان حمل المستوطنين الأسلحة ومهاجمتهم للفلسطينيين".
اقرؤوا المزيد: "دولة المستوطنين.. كيف تُرِك الناس وحدهم دون حماية".
لكنَّ هجمات المستوطنين لم تتوقف مع وقف العدوان على غزّة وتراجع حدة الهبّة الشعبيّة، ففي 28 مايو/ أيار هاجم المستوطنون مزارعين في قرية نعلين ومنعوهم الوصول إلى أراضيهم. وخلال الشهر الأخير سجلت عدة حوادث لسرقة الممتلكات وتخريبها ولقلع الأشجار وحرقها؛ أكثرُ من 1100 شجرة تم تخريبها الشهر الماضي (وفقاً لأوتشا). فيما تشهد بلدة بيتا جنوب نابلس مواجهاتٍ مستمرة رفضاً للتوسع الاستيطانيّ على جبل صَبيح، حيث أقام المستوطنون بؤرةً جديدةً على رأس الجبل. وهو النشاط المستمرّ بتصاعدٍ وكثافة في كلّ أنحاء الضفة، كإقامة بؤرة استيطانيّة جديدة في خربة زنوتا شرق الظاهرية (الخليل)، وإقامة أخرى في قرية الرشايدة شرق بيت لحم، عدا عن توسيع بؤرةٍ قائمة على أراضي خربة السويدة في الأغوار الشمالية.
ينضمُّ هذا التصاعد الذي تزامنَ مع الهبّة الشعبيّة إلى نشاطٍ استيطانيّ مكثّف تشهده مختلف مناطق الضفة الغربيّة في العقد الأخير؛ توسيع المستوطنات، إقامة المزيد من البؤر الاستيطانية، اشتدادُ عود المنظمات الاستيطانيّة كـ"شبيبة التلال"، وغيرهم، وسياسة إسرائيليّة رسميّة مُعلنة للدفاع عن كلّ ذلك، وترسيخه. كما أنّه تصاعدٌ يؤكّد على ما بات معروفاً ومفهوماً ضمنيّاً لدى الفلسطينيين: أنَّ ما لا تقوم به "إسرائيل" بواسطته أجهزتها الرسميّة فإنّ المستوطنين له بالمرصاد. أمام كلّ ذلك، يقف الفلسطينيون بجهودهم الشعبيّة وارتباطهم الأصيل بالأرض، في محاولة للدفاع عما تبقّى لهم من وجود في أرضٍ استباحتها المستوطنات من كلِّ أطرافها.