23 يونيو 2025

عندما انفجرت الفطرة في وجه الآلة

عندما انفجرت الفطرة في وجه الآلة

صرخت ابتهال: "عار عليك يا مصطفى، تقتُل أهلنا؟ تستغلُّ مواهبنا لقتل شعبنا، ثم تحتفل؟! تحتفل بالمشاركة في قتل 50 ألف إنسان، جلّهم من الأطفال؟ تستغلنا لنُطوّر أسلحة نقتل بها أهلنا؟".

بهذه الكلمات عبّرت ابتهال أبو السعد عن صوت عشرات المهندسين في شركة "مايكروسوفت"، بعد أن كشفت تقارير موثّقة أنّ بعض شركات التكنولوجيا، المشهورة بمنتجاتها "المدنيّة" مثل مايكروسوفت وغيرها، تزوّد "إسرائيل" ببرمجيات وخدمات خاصة تُستخدم مباشرة في حربه الإبادية على قطاع غزة.

كما رصدت تقارير أخرى خريطة الترابط بين مَن خدموا سابقاً في وحدات التجسس والاستخبارات بجيش الاحتلال الإسرائيلي، مثل وحدة 8200، وانتقلوا بعد خدمتهم إلى العمل مبرمجين ومستثمرين في مواقع مؤثّرة داخل كبرى شركات التكنولوجيا كجوجل وآبل، وفي صناديق استثمار تموّل شركات ناشئة تعمل في مجالات حسّاسة كمسارات محددة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي AI وتعلّم الآلة، وغيرها.

بعد استئناف "إسرائيل" تشغيل ماكينة الإبادة عقب الهدنة، وفي ظل حالة العجز الكامل التي تخيّم على أبناء الأمة، ارتفعت صرخة ابتهال؛ مهندسة الذكاء الاصطناعي في شركة مايكروسوفت، في وجه رئيسها ومسؤول قسم الذكاء الاصطناعي في الشركة، مصطفى سليمان، خلال الحفل الذي أقامته الشركة احتفالاً بمرور خمسين عاماً على تأسيسها.

لم تكتفِ ابتهال بتلك الصرخة، بل دعت زملاءها في مايكروسوفت إلى التوقيع على عريضة ترفض تزويد الجيش الإسرائيلي بأي منتجات أو خدمات من الشركة، وتطالب بفسخ العقود القائمة حالياً بين الطرفين.

مع هذا الفعل البطولي الذي يعبّر عن غضب أبناء الأمة، من المهم أن نُسكِن هذه القضية ("دعم" شركة مايكروسوفت وغيرها لجيش الاحتلال) في سياقها الأوسع، عبر محاولة الإجابة عن الأسئلة الأكثر إلحاحاً: مَن هم اللاعبون الرئيسيون في تطوير التكنولوجيا؟ وهل ثمّة اختلاف جذري بين تطوير التكنولوجيا قبل الحداثة وبعدها؟ وإن بدت هذه الأسئلة تجريدية رغم أهميّتها، فمن المهم أن نهبط إلى المستوى الاستراتيجي ونسأل: ما هو توازن القوى في الواقع على الأرض الذي يحدّد المحددات الكبرى لمسار التطور التكنولوجي؟ 

للتفاعل مع هذه الأسئلة، يمكننا أن نبدأ أوّلاً بمناقشة على المستوى التجريدي: (1) تطوير التكنولوجيا بين الدولة والشركة في عالم الحداثة. ثم ننزل إلى المستوى الاستراتيجي الأوسع، حيث نستحضر سياق الواقع الذي نعيشه، وتوازن القوى فيه، وما يمليه ذلك على الفاعلين على الأرض، من خلال مناقشة (2) سياق الواقع، ومدافعة الأمة والمشروع الاستعماري.

التكنولوجيا بين الدولة والشركة 

ينطلق مشروع الحداثة العلماني من إنكار المُطلق الرباني؛ فلا صلة للأرض بخبر السماء. والدين/ الكنيسة خرافة اخترعها الإنسان لجهله بتفسير الواقع من حوله، إلى أن جاء "عصر الأنوار" الذي أدرك فيه الإنسان هذه "الحقيقة": خرافة الماضي، ونور العقل القادر على تفسير الواقع.

ووفق هذا التصوّر، انطلق الإنسان الحداثي ليبني حضارته. لم يقتصر سعيه على إعادة تعريف الكون ورحلته التاريخيّة فيه، بل أعاد تعريف نفسه أيضاً: من كونه خلقاً لله، يهتدي بخبر السماء في الدنيا، ومُجازىً عن سعيه في الآخرة، إلى تشييئه، وحصره في وجهه المادي بين مولده وموته.

بذلك، تنحّى تدريجياً، وتلاشى الفارق بين الإنسان، وفق هذا التعريف، والأدوات التي يطوّرها لسعيه في الدنيا (التقنية/ التكنولوجيا)، فزال الفرق بين الإنسان "الشيء" والأداة "الشيء". 

هذا الإنسان، وفق تعريفه الجديد لذاته وللكون من حوله، يسعى للسيطرة على الكون المادي وما يعيق حركته فيه. يريد السيطرة على الكوارث الطبيعية، الأوبئة، الأمراض، الجوع؛ وعلى أيٍّ كان من مهدّدات الوجود الإنساني من جهة، ومن جهة أخرى يريد استغلال موارد هذا الكون للاستمتاع به.

اقرؤوا المزيد: أسياد في الأرض: تكنولوجيا المقاومة التوحيدية

هذا التصوّر الجديد على البشرية، والمنافي لفطرتها، يتطلّب من الإنسان الحداثي إثباته. عليه أن يبرهن أنه ليس سوى شيء، تماماً كالأداة التي يُطوّرها، بل أنه قادر على تطوير أدوات تتفوّق عليه، وتُنجز بكفاءة أعلى.

يظهر ذلك في الهوس الذي تجلّى في الأدب، والأفلام، ومؤسسات إنتاج وتطوير المعرفة (الأكاديميا)، بالإنسان الآلي، والذكاء الاصطناعي، والأتمتة، حتى قبل ظهور هذه المنتجات بعشرات السنين.

اجتماع يجمع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، ستيفن بالمر،في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 بالقدس المحتلة، لمناقشة لمناقشة اتفاقية تعاون لتعزيز تبادل المعلومات والتكنولوجيا. (تصوير: كوبي جدعون/المكتب الصحفي الحكومي الإسرائيلي)
اجتماع يجمع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، ستيفن بالمر،في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 بالقدس المحتلة، لمناقشة لمناقشة اتفاقية تعاون لتعزيز تبادل المعلومات والتكنولوجيا. (تصوير: كوبي جدعون/المكتب الصحفي الحكومي الإسرائيلي)

كما يقتضي هذا التصوّر إنكار أي عمليات تطوير تقني معقّد سبقت نشأته، لأن إثبات وجودها يضعف حجّته وسرديّته؛ فزمن ما قبل الحداثة هو عنده "عصر الحِرف"، أما الحداثة فهي "عصر التقنية/ التكنولوجيا". من هُنا اكتسبت التقنية منزلة محورية في العقل والفعل الغربي الحديث.

من أجل ذلك، كان لا بد لبُنى الحداثة الأساسية والناشئة أن تتولّى زمام المبادرة باعتبارها فاعلا رئيسا في تطوير التقنية/ التكنولوجيا. في البداية، توازى مساران للتطوير: أحدهما من قِبل الدولة، والآخر من قِبل الشركة.

أُسندت مهمة التطوير إلى الذراع العسكري للدولة، لكن بُطء الدولة في حركتها، وإيقاعها البيروقراطي الثقيل، الذي تكشّف بوضوح خلال الحربين العالميتين، دفعا إلى خصخصة عملية التطوير لتتولاها الشركات. وهكذا تم إدماج المسارين مع توزيع للأدوار بين الدولة والشركة، وأصبحت الأخيرة مستودع التراكم للمعرفة التكنولوجية.

حافظت الشركة على بنيتها أداةً للتطوير التكنولوجي، مستندة من جهة إلى دعم الدولة، ومن جهة أخرى إلى احتكار المعرفة من خلال ما يُعرف بـ "حقوق الملكية الفكرية"(Intellectual Property - IP). أمّا الدولة، فاحتفظت بدورها في رسم التوجّه الاستراتيجي العام، مفضّلة نُظماً تكنولوجيّة بعينها: كالمرتبطة بالحرب، أو التكنولوجيا الرقمية وربطها بالاقتصاد (كما في النموذج الأميركي)، أو مجالات مثل النانو تكنولوجي، والتنميط الرقمي (AI)، والمراقبة الرقمية، والتكنولوجيا الحيوية، وغيرها. وفي النّهاية، أصبحت الدولة هي الجهة التي تضع القواعد، بينما تتحرك الشركة على الأرض لتنفيذ وتشكيل التكنولوجيا وفق هذه التوجّهات.

وَفق هذه البنية، وهذا الترتيب، فإن وظيفة الشركات هي تطوير أدوات تكنولوجية موافقة للنموذج الربحي الرأسمالي، بما لا يتعارض مع "المصالح الوطنية للدولة "(national interests).

فمصلحة الجيوش الوطنية وأجهزتها الأمنية تُعدّ جزءاً لا يتجزأ من هذه المصالح. لهذا، فإن الشركات التكنولوجية - سواء كانت كبرى أو صغرى - تضطلع بدور "وطني"، بموجب تعاقد ملزم وواضح بينها وبين الدولة وأجهزتها المختلفة، لتلبية احتياجاتها ضمن هذا النموذج الربحي ذاته.

اقرؤوا المزيد: لماذا تموّل مايكروسوفت مراقبة الفلسطينيين في الضفة؟

فعلى سبيل المثال، لا يمكن وصف شركة مثل مايكروسوفت بأنها شركة "مدنيّة" لمجرد أنّ كثيراً من منتجاتها وخدماتها المُعلنة تبدو مدنيّة وغير عسكريّة، تمامًا كما لا يمكن وصف شركة Palantir المملوكة لبيتر ثيل بأنها محض شركة "عسكريّة".

التوصيف الأدق أن كلتيهما شركتان تكنولوجيتان تعملان ضمن اختصاصات وصناعات تتماشى مع نموذج أعمالهما، وتغتنمان الفرص التي من شأنها تعظيم حقوق المالكين فيهما، أي تراكم الثروة لأصحابهما.

لذلك، لا يمكن لشركات مثل مايكروسوفت، أو أبل، أو أمازون، أو إنفيديا، أو غيرها، أن تضع التزامات داخلية صريحة تمنع تطوير أدوات أو خدمات ذات طابع عسكري؛ لأن ذلك يتعارض من جهة مع كينونة وجودها ودورها الوظيفي في المنظومة، ومن جهة أخرى مع هدفها الأساسي: تعظيم حقوق المالكين.

ففرض قيود داخلية "غير قانونية" من هذا النوع يُعدّ عائقاً مباشراً أمام تحقيق الأرباح، وهو ما يتناقض مع جوهر نشاطها. وأي التزام داخلي من تلك الشركات - كالتصريح بالالتزام بـ"حقوق الإنسان"، أو الامتناع عن تطوير أدوات عسكرية - لا يخرج عن أحد احتمالين:

  • إمّا أنه صياغة مراوغة قانونياً، إذ لا يرون في عمل الجيوش وأدوات القتل الإبادي أي تناقض مع حقوق الإنسان، بل يعتبرونه وسيلة لفرض تلك الحقوق!
  • أو أنّه محاولة لامتصاص النزعة الإنسانوية والضمائر الحية لدى موظفي الشركة وجمهورها على حد سواء.

ولا أوضح على ذلك من تراجع شركة "ميتا عن وعد أقل وطأة بكثير: حين زعمت أنها لن تستخدم بيانات مستخدمي تطبيقَيها (فيسبوك وواتساب) بشكل تبادلي لأغراض الربح، في حين أن نموذج أعمالها قائم أصلاً على هذا التبادل.

هكذا، يمكن القول إن عملية التطوير التكنولوجي في الحضارة الغربية تجري ضمن ترتيبات بنيوية راسخة، بعلاقات واضحة بين الدولة والشركة تطورت عبر الزمن.

مدافعة الأمة والمشروع الاستعماري

بعد محاولة تفكيك البنية التي تُطوَّر من خلالها التكنولوجيا الحديثة، من الضروري أن نستبصر واقعنا وسياقاته المتشابكة التي تتفاعل مع هذه البنية. 

وأوّل ما ينبغي فعله هو تحديد الفواعل على المستوى الاستراتيجي: فالفاعل والقائد الرئيس في المشروع الغربي هو الولايات المتحدة الأميركية، و"إسرائيل" تمثّل رأس الحربة لهذا المشروع في منطقتنا.

في المقابل، نحن بصفتنا أمة مسلمة، نُعدّ فاعلاً ممزّقاً، لا نمتلك حالة تدافعية متماسكة يمكن أن تُناظر هذا المشروع. نحن واقعون تحت استعمار جديد في أغلب جغرافيّاتنا، ليس على صورة الاستعمار القديم بجيوشه وحامياته المباشرة التي كانت تدير شؤوننا وتملأ شوارعنا بعساكرها. بل هو استعمار أشدّ وطأة: استعمار النموذج الحضاري، الذي يُفرض على عقولنا ومخيالنا الجمعي.

متظاهرة يرفع لافتة خلال تظاهرة في العاصمة المغربية الرباط، تحمل صورة ابتهال أبو السعد إشادةً بموقفها ضد تورط شركة مايكروسوفت بتوريد تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لـ "إسرائيل" في حربها المستمرة على قطاع غزة. (تصوير: عبد المجيد بزيوات/ وكالة فرانس برس)
متظاهرة يرفع لافتة خلال تظاهرة في العاصمة المغربية الرباط، تحمل صورة ابتهال أبو السعد إشادةً بموقفها ضد تورط شركة مايكروسوفت بتوريد تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لـ "إسرائيل" في حربها المستمرة على قطاع غزة. (تصوير: عبد المجيد بزيوات/ وكالة فرانس برس)

وإلى جانب هذا النمط من الاستعمار، هناك استعمار آخر (قديم ومتجدد) في مناطق منها القدس وفلسطين، تتولاه "إسرائيل"، رأس حربة المشروع الاستعماري.

نحن أُمّة مستعمرة؛ هذه حقيقة لا بد أن نُدركها، وننطلق منها.

في تجربتنا المسلمة السابقة، لم تكن أدوات التقنية تُطوَّر بهدف الربح الاحتكاري، ولم تكن الدولة تحتكر السلاح، ولا كانت تؤلّه نفسها أو ترى في الإبادة وسيلة رئيسة لإخضاع خصومها، كما هو الحال في الدولة الحداثية اليوم، التي تُوجّه عمليات التطوير التقني بناءً على هذا المنطق.

بل العكس، كان تطوّر التقنية لدينا نابعاً من سعيٍ لمواجهة التحديات التي تفرضها علينا مهمّة تحقيق مراد الله عزّ وجلّ.

لم تكن التجربة مثالية، لكنها كانت منسجمة مع أصلها، رغم قصور البشر القائمين عليها. وهذا مبحث واسع لا يتّسع المقام للإسهاب فيه هنا.

اقرؤوا المزيد: معلوماتك التي لا تظهر في الإعلانات

وَفق هذه المعادلة (مستعمَر قابعٌ تحت وطأة مستعمِر، يواجهه برأس حربته) تُطوَّر الأدوات الأمنية والعسكرية لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. فنحن، المستعمَرون، نُعدّ ميداناً غنياً بالتجارب والأهداف، بينما يوجّه المستعمِر ورأس حربته، أدواتهما (الشركات التقنية) لتطوير منتجات وخدمات تؤدّي المهام "القانونية" المطلوبة منهما، وفق تعاقد ربحيّ مادّي بحت.

فلا فرق جوهرياً بين شركة "Palantir" التابعة لبيتر ثيل، وشركة "Microsoft" التابعة لبيل غيتس؛ فالأولى ليست عسكرية خالصة، ولا الثانية مدنية خالصة. بل كلتاهما تعمل وفق أدوار محددة داخل المنظومة ذاتها وضمن المعادلة نفسها.

وضمن هذه التوازنات، يُصدِّرُ الاحتلال نفسه كأحد أكثر الكيانات كفاءة وفاعلية في المنظومة الاستعمارية على الأرض، خاصة في ريادة تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي العسكرية، وقد بدأ ذلك قبل الطوفان.

كما يشارك الاحتلال في وضع ما يسمّيه "ضوابط أخلاقية" لتطوير صناعة الذكاء الاصطناعي عموماً، عبر مؤسسات مثل الجمعية الإسرائيلية لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي (The Israeli Association for Ethics in Artificial Intelligence – IAEAI).

كذلك من خلال الحضور المبالغ فيه للأكاديمي الصهيوني يوفال نوح هراري في معظم المنصات الغربية العامّة، للحديث عن "خطورة الذكاء الاصطناعي" وضرورة ضبطه.

يُعدّ هراري من أبرز الأكاديميين الناقدين لهذا المجال، ولا تكاد توجد منصة علمية أو بحثية معتبرة تهتم بالموضوع إلا وله فيها حضور. من آخر مشاركاته: ورقة ضمن قمة الذكاء الاصطناعي في سيول (AI Seoul Summit 2024)، بمشاركة 25 مُفكِّراً، تحت عنوان: "إدارة مخاطر الذكاء الاصطناعي المتطرّفة وسط التقدم السريع". نُشرت الورقة في مجلة Science في أيار/ مايو 2024، أي بعد أكثر من سبعة أشهر من بدء الحرب في غزة، ولم تتطرّق بكلمة واحدة إلى استخدام الذكاء الاصطناعي في عمليات الإبادة هناك.

يُذكر أنّ "العالِم" و"المنظّر"، اليساري يوفال نوح هراري، المعادي لنتنياهو، يعيش في مستوطنة "كرمي يوسف" المُقامة على أنقاض قرية أبو شوشة، على بُعد أمتار من موقع مجزرتها التي وقعت في 14 أيار/ مايو 1948.

يمكن الآن موضعة التقارير التي افتُتح بها المقال ضمن النظرة البنيوية الأوسع، والإطار الاستراتيجي الأعمّ. فدولة الاحتلال، بصفتها رأس الحربة في المشروع الاستعماري، تُقدّم نفسها رائدةً في الذكاء الاصطناعي، سواء في تطبيقاته المدنية أو العسكرية، بل وتروّج لنفسها أيضاً باعتبارها جهة "ناقدة أخلاقياً" لهذا المجال.

وهي تفعل ذلك من خلال تعاقدها، عبر ذراعها العسكري، مع الشركات بوصفها أدوات تطوير تكنولوجي، تُسهم في تحسين أدائها الداخلي، وأداء ذراعها العسكري، في القيام بالدور المنوط به: الحفاظ على أمنها، أو بالأحرى على وجودها، كموقع دفاع أول عن المستعمِر في مركزه. كما تعمل على فرض "الضبط الأخلاقي" للصناعة، وفق المفهوم الاستعماري الغربي المتعالي.

"إسرائيل" واعتماد مبالغ على التكنولوجيا

منذ بداية هذا القرن، لم ينجح الاحتلال في حسم أيٍّ من معاركه الحاسمة. اتفاقية أوسلو لم تهزم الفلسطيني، كما لم تؤدّ أيّ من جولات المواجهة مع المقاومة إلى "أوسلو جديدة". 

لذلك، حين تولّى أفيف كوخافي رئاسة أركان جيش الاحتلال عام 2019، وهو المعروف بولعه بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وجّه الجيش الإسرائيليّ نحو استراتيجية جديدة: أن يكون "أكثر إبادة"، عبر "تحويل الإبادة إلى صناعة"، مُستخدماً الذكاء الاصطناعي في سياق ما سُمّي بسياسة "جيش إبادي فعّال متطوّر تقنياً"، كما أشار الدكتور خالد عودة الله في إحدى محاضراته.

أحد جنود جيش الاحتلال يستخدم نظارات هولولنسHoloLens من انتاج شركة مايركوسوف والتي تتيح الجمع بين الكلمات الواقعية والافتراضية لأغراض عسكرية.
أحد جنود جيش الاحتلال يستخدم نظارات هولولنسHoloLens من انتاج شركة مايركوسوف والتي تتيح الجمع بين الكلمات الواقعية والافتراضية لأغراض عسكرية.

هذا الاعتماد المفرِط على التكنولوجيا، والذي عُدّ أحد أسباب فشل جيش الاحتلال في معركة 7 أكتوبر، لم يدفع إلى مراجعة السياسة أو تهذيبها، بل إلى التمادي في الاعتماد عليها. التقارير المشار إليها سابقاً توثّق هذه القفزة في اعتماد جيش الاحتلال على خدمات شركات التقنية المختلفة منذ تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023.

اقرؤوا المزيد: لُعبة "Call of Duty" فوق سماء غزّة

ما يحدث ليس انحرافاً أو خطأ فردياً في أعلى هرم القرار السياسي والعسكري والأمني، بل هو انسجام تام مع نظرة الإنسان الحداثي، الذي لم يَعُد يرى فارقاً بين ذاته والأداة التي يصنعها ويستخدمها؛ الإنسان الشيء، والأداة الشيء. هذا الحدّ الفاصل الذي نتخيّله نحن، لم يعُد هو يتخيّله. ولهذا نرى في غزة نموذجاً مُصغّراً لشكل الحروب القادمة بين المستعمِر وخصومه؛ حروب تُدار عبر تحالف بين الجيوش والمكوّن الشركاتي، لإنتاج أدوات ذكاء اصطناعي تختصر سلسلة القتل (Kill Chain) بشكل أكثر فاعلية وأقل كلفة.

الإنسان الذي شيّأ نفسه وفق التصوّرات العلمانية الحداثية، التي برزت مع ما سُمّي بعصر الأنوار، جسّد هذه الرؤية في بنى الدولة والشركة. وقد قادت هذه البُنى، منذ قرنين، عمليّة استعماريّة استهدفت "الإنسان الآخر" - أي نحن - ذلك الإنسان الذي كان منسجماً مع كونه وخالقه، رغم ما اعتراه من عوار ناتج عن التفريط.

ومع تراكب هذا التفريط الداخلي والهجوم الاستعماريّ، انهارت البُنى التي كانت تعبّر عن جذورنا وتصوراتنا: انهارت الأوقاف، والحسبة، ومنظومة الحكم، وتراجعت المعرفة، ولم يَعُد أمامنا من سُبُلٍ للسعي إلّا البُنى المستوردة من الآخر.

وهكذا، استوردنا - رغبةً ورهبة - منظومة الآخر: دولته، شركته، وصرنا نتعامل معها كما لو كانت نواميس كونية لا تقبل التغيير.

الفطرة في مواجهة البُنى

جاءت المواجهة بين رئيس قسم الذكاء الاصطناعي في مايكروسوفت، وأحد موظفيه، خلال احتفال الذكرى الخمسين لتأسيس الشركة، مواجهةً على أمرٍ قيميّ.

فهذه الشركات لا تملك تراكماً في البُعد الفنّي التكنولوجي فحسب، بل تملك خبرة مؤسسية عميقة في تنظيم بيئة العمل، واستيعاب الطاقات الفنية والوجدانية والنفسية للعاملين، والتعامل مع التناقضات الناتجة عن الاحتكاك الأفقي بين الأقران، والرأسي بين مستويات اتخاذ القرار.

هذا التراكم التنظيمي لا يُعالج التناقضات من جذورها، بل يكيّفها ويُسكّنها بالقدر الذي يضمن استمرار الإنتاجية وعدم اضطراب أداء الموظفين. من هنا تتشكّل ديناميات داخلية تُكوّن بصمة فريدة لكل شركة، تمكّن الموظف الجديد من معرفة ما إذا كان هذا النمط من البيئة يناسبه أم لا.

الشرطة الأمريكية تعتقل متظاهراً خلال تظاهرة احتجاجية داعمة لفلسطين خارج مؤتمر مايكروسوفت بيلد، في واشنطن، في 19 أيار/ مايو 2025. (تصوير: جيسون ريدموند/وكالة فرانس برس)
الشرطة الأمريكية تعتقل متظاهراً خلال تظاهرة احتجاجية داعمة لفلسطين خارج مؤتمر مايكروسوفت بيلد، في واشنطن، في 19 أيار/ مايو 2025. (تصوير: جيسون ريدموند/وكالة فرانس برس)

ومع ذلك، لم تتمكّن هذه الخبرة المتراكمة - بعد خمسين عاماً من الريادة العالمية - من احتواء التناقض القيمي الذي فجّرته لحظة الطوفان. بل ظهر هذا التناقض على السطح، بعد أن عجزت كل آليات التكيّف والتسكين والتبرير التنظيمي عن امتصاصه. لم يكن التناقض عارضاً، بل بنيوياً، نابعاً من العلاقات المركّبة بين الدولة والشركة، ودورهما في المشروع الاستعماري من جهة، ومن الدور المركزي الذي يلعبه رأس الحربة (الاحتلال) في توجيه تطوير التكنولوجيا بما يخدم مصالحه ومصالح سيّده الاستعماري من جهة أخرى.

كما جسّدت هذه اللحظة ارتباكاً خاصاً بنموذج المسلم الذي تمثّل في ابتهال: نموذج لمسلمة صاحبة هِمّة، أرادت من الدنيا المعالي، وطلبت السّعي فلم تجده إلّا في بُنى الآخر الاستعماري. فشقّت طريقها ضمن تلك البُنى، مُفترضةً حياد مسالك التطوير التكنولوجي، وحين جاءت اللحظة، غلبت فطرتها تناقض الواقع.

 فقط، عبر تصوّر توحيدي

إن مستقبل الذكاء الاصطناعي، والتطور التقني عموماً، يحدّده مَن يملك مشروعاً يسعى إلى تنزيله، ويدفع الأثمان اللازمة في سبيله.

وما يتّضح لنا من قراءة الواقع اليوم هو أنّ المشروع الحداثي الغربي يسعى بقوة لرسم هذا المستقبل، مستنداً إلى مصالح دولة المركز الاستعماري (أميركا) وإلى دورٍ رياديّ وفعّال لرأس حربته في المنطقة: "إسرائيل"، وخصوصاً في مجال العسكرة الإبادية.

كل ذلك يجري وفق نموذج تطوير شركاتي احتكاري، يُخضع التقنية لمقتضيات الربح والهيمنة.

ولا يبدو أن هناك سبيلاً في المستقبل المنظور لمواجهة هذا الزحف إلا عبر تصوّر توحيدي، تُحرّكه طاقة مُلهَمة من مشروعٍ أمميّ يرى في التطوّر التقني - بما فيه الذكاء الاصطناعي - وسائل سعي لتحقيق مراد الله بإقامة الدين.

فيسعى وفق أبنية جديدة منسجمة مع هذا التصوّر، ومُعبِّرة عن ذلك المشروع، لإنتاج ما يتناغم مع فطرة الإنسان واحتياجات سعيه، ويستوعب طاقاته الإبداعية، من دون أن تُحوّله إلى أداة أو شيء.

هذا ما أمكن طرحه في هذه المقالة. وفي مقالة قادمة بإذن الله، ننزل من المستوى الاستراتيجي العامّ إلى المستوى الخاص بقضية تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي؛ نتناول فيها دور الذكاء الاصطناعي في الحرب، ونرسم شبكة الأطراف المعنيّة بتطويره، والمصالح المرتبطة بكل طرف - سواء كانت اقتصادية، أمنية، أو غيرها - مع تحليل تقاطع هذه المصالح، واستعراض أمثلة واقعية تُظهر انعكاسات ذلك على مسارات استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب.



21 نوفمبر 2023
من بدرٍ الكُبرى إلى طوفان الأقصى

في السنة الثانية للهجرة النبويّة تجمّع المسلمون، من المهاجرين والأنصار في حضرة النبي الكريم، يتدارسون فكرةَ تنفيذ عمليةٍ بالغة السريّة…