بعد أشهرٍ من انتظامٍ ما في دخول السلع والمساعدات إلى مدن جنوب قطاع غزّة، عاد شبح المجاعة من جديد يفتك بالنازحين هناك. دفع ذلك الناس إلى إعلان الإضراب وإغلاق الأسواق مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، رفضاً لاحتكار التجار للسلع والتحكم في أسعارها سعياً للاغتناء دون أي اكتراثٍ بألم الناس، وذلك في تماهٍ مع سياسات الاحتلال في تجويعهم.
خرجت دعوات الإضراب بدايةً عبر بيانٍ حمل اسم "تجمع كبار العائلات"، ثم تبنّاه لاحقاً ناشطون ومبادرات أهلية مختلفة، وحتى ما تبقّى من الجهاز الحكوميّ في غزّة دعمه بشكل غير مباشر من وراء الكواليس.
وقد استخدم البيانُ تعبيرَ "التجار العملاء" و"تُجّار الحروب" في الإشارة إلى طبقةٍ جديدةٍ من التجار وأصحاب رؤوس الأموال ظهرت في القطاع بعد الحرب، وباتت قوّةً ماليّة ضخمة مدعومة بتشكيلاتٍ شبه عسكريّة قوامها عشرات المسلحين، لها نفوذها وأدواتها التي مكّنتها من بسط السيطرة على مفاصل الدورة الاقتصادية في القطاع.
"صوملة غزّة"
لفهم هذا الواقع الجديد، لا بدّ من التذكير بأنّ قطاع غزّة تعرّض خلال الحرب لتدمير مقدراته الاقتصاديّة بشكلٍ ممنهج، إذ جرفت آلة الحرب الإسرائيلية كلَّ ما يقفُ في طريقها من ورشٍ ومصانع وأسواق وشركات ومقدرات اقتصاديّة وتجاريّة وأموال سائلة وأصول وغيرها، وهو ما كان سبباً في إفلاس الكثيرين من الطبقة التقليدية لرؤوس الأموال، إذ خسر أولئك كل أرصدتهم وممتلكاتهم أو على الأقل النسبة الأكبر منها، ولم يعد بالإمكان ممارسة أعمالهم الاقتصادية كالسابق.
بالتوازي مع ذلك، استشهد المئات من تلك الطبقة وأُصيب آلاف آخرون. أما من تبقّى على قيد الحياة، فقد غادر كثيرٌ منهم القطاع خلال الفترة الممتدة ما بين كانون الأول/ ديسمبر 2023 وحتى أوائل أيار/ مايو 2024.

في ظلّ مغادرة هذه الفئة لقطاع غزّة، وانعدام فرص العمل وموجة الغلاء الفاحش وتقليص نسبة الرواتب لمن بقي يتلقى راتباً، تشكّلت طبقةٌ جديدةٌ من التُجّار استغلوا الاحتياج الشديد وتمكّنوا من سدّ الفراغ.
تعتمد هذه الطبقة الجديدة على قوّة السلاح والبلطجة، ويبدأ "عملها" بالسطو المسلّح على قوافل المساعدات والشاحنات التجاريّة مستغلين الملاحقة الإسرائيلية لأي مظهر من مظاهر فرض الأمن من قبل حكومة غزّة. يتجمّع عشرات الشبان أغلبهم في العشرينات من العمر، ويوزّعون أنفسهم على كمائن أثناء مرور الشاحنات القادمة من معبر كرم أبو سالم في طريقها للمخازن المخصصة لها.
تُعترض الشاحنات، يُثبّت السائق ويمنع من الحركة تحت تهديد السلاح، ويُجبر على تفريغ حمولته. تسيطر تلك العصابات على البضاعة وتحتكرها، ثم تبيعها بأعلى الأسعار. هذا النموذج أُطلِقَ عليه إسرائيليّاً "صوملة غزة"، نسبةً إلى نموذج الصومال إبان فترة الحرب الأهليّة.
الإتاوة أو الحرق
يلجأ آخرون لطريقة أكثر عنفاً باتت سائدةً في الأشهر الأخيرة وتسبّبت في أزمة الغلاء الأخيرة. يصطف العشرات من المُسلّحين المنتسبين لعائلاتٍ كبيرة أو قُطّاع طرق، أشهرهم جماعة "شادي الصوفي"، الذي بات مسيطراً على مسارات طرق الشاحنات، فمن خلاله تتم عملية تأمين الشاحنات مقابل "إتاوات" يدفعها التاجر بشكلٍ إجباريّ عن كل شاحنة تمرّ عبر حواجزه وتتراوح من 20-50 ألف دولار، أو مقاسمته في قيمة البضاعة وفي حال رفضه يُستولى عليها بالقوّة وتُحرق.
استطاع الصوفي المحكوم سابقاً بالإعدام بسبب قضايا أمنيّة حساسة، منها التخابر مع الاحتلال وقتل الأسير جبر القيق، شراء ذمم عائلات كبيرة وتجار وتشكيل جيش من العصابات يزيد عددهم عن مئة مسلح، يدفع لهم أجرة عن كل يوم عمل مبلغاً يتراوح من 200-400 شيكل (50-120 دولاراً).
تتجمع هذه العصابات في منطقة صوفا، وهو طريق إجباري لمرور الشاحنات يقع بين مدينتي رفح وخان يونس، وهو طريق بعيد عن سيطرة شرطة حكومة غزّة التي يتعرّض كل من ينتسب لها لملاحقة واستهداف إسرائيلي، وهنا يظهر دور الاحتلال في منع استهداف هذه العصابات من قبل القوة الشرطية التابعة لحكومة غزّة.
تعطيش السوق
منذ بداية الحرب، يواجه قطاع غزة منعاً تاماً وأحياناً تقليصاً إسرائيلياً وتحكماً مباشراً في كمية ونوعية الشاحنات التي تمرّ نحو القطاع، وهي اليوم بمتوسط 100 شاحنة يومياً، منها شاحنات الوقود وغاز الطهي وقوافل مساعدات موجهة لمنظمات إغاثية وشاحنات موجهة للتجار تضمّ خضارا وفواكه ومنظفات ولحوم ودواجن، بالرغم من أنّ احتياج القطاع يزيد عن 500 شاحنة يومياً. لكن مشكلة الأسعار ليست مرتبطةً بقوى السوق (العرض والطلب)، بل هي مرهونة بسياسة التجار الجدد بتكديس البضائع وتعطيش السوق لرفع أسعارها بشكل بات يُهدد الناس بالمزيد من الجوع.

في الإضراب الأخير، هدّد المحتجون باقتحام مخازن التجار ما لم تُخفّض الأسعار ويُفرج عن البضائع المكدسة، ومع ذلك يرفض التجار الإفراج عنها لتبقى في مستوى أسعار يسمح لهم بمضاعفة أرباحهم. من أمثلة ذلك، كان يصل سعر الكيلو الواحد من السكر قبل شهر من الآن لخمسة شواكل، ولكن التجار أرادوا زيادة الأرباح عبر تخزينه فضاعفوا سعره لأكثر من سبعين شيكلاً، أما زيت القلي فقد تضاعف سعره من 8 شواكل لأكثر من 40 شيكلاً، وبهذا النمط تضاعفت أسعار غالبية السلع الأساسية في الجنوب.
وفي هذا السياق يشير الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في أحدث تقاريره، إلى أنّ مؤشر أسعار المستهلك في القطاع وصل بعد عامٍ من الحرب لـ283%، أي أن متوسط الأسعار وصل لثلاثة أضعاف سعرها قبل الحرب.
أين الشرطة؟
حصر الاحتلال التواجدَ الشرطي والحكومي في شريطٍ ضيّقٍ من قطاع غزّة، يمتدّ من منطقة النصيرات مروراً بدير البلح وانتهاءً بخانيونس، حتى أنّ السيطرة الشرطية ليست مطلقة في هذه المناطق، إذ يتركّز التواجد الرئيس في المنطقة الغربيّة المعروفة بـ "المنطقة الإنسانية". كما سبق أن اغتال الاحتلال عناصر من الشرطة حين حاولوا تأمين قوافل المساعدات والاشتباك مع العصابات، وما زالت تلك المحاولات مستمرة.
وتجدر الإشارة إلى أن انتشار هذه العصابات أخذ مساراً مختلفاً بعد خضوع مدينة رفح للسيطرة الإسرائيلية، إذ بات الاحتلال متحكماً بشكلٍ كاملٍ بمعبر كرم أبو سالم، وبالتالي لم تعد حكومة غزّة على دراية بحجم ونوعية ما يدخل منه، هذا عدا عن تدمير معبر رفح بشكلٍ كاملٍ، وهو الذي كان أوّل بوابةٍ للتواجد الحكوميّ والسلطويّ في غزّة.
أمام هذا الفراغ الأمنيّ، فإن هذه القوّة الموازية تعمل على زعزعة السلم الأهليّ والمجتمعي وتشكّل خطَّ هجومٍ متقدم أمام قوّة حماس العسكريّة، كما أنّها تؤدي دوراً وظيفيّاً يخدم سياسة الاحتلال في إنهاك جيوب وبطون الغزيين وزيادة نقمتهم على أداء حماس الحكومي وتحميلها مسؤولية ما يجري. وهنا تتضح مصلحة الاحتلال في ظهور وبقاء هذه العصابات.