لعب رجالُ الإصلاح والقضاة العشائريون في فلسطين تاريخيّاً دوراً بارزاً في حسم المنازعات وحلّها. نتج عن هذه الحالة إرثٌ ثقافيٌّ يقضي بحتمية تدخل العشيرة في فصل المنازعات وفق الأعراف والعادات السائدة من جهة، وتوَلَد شعورٌ بأهمية اللجوء للعشيرة بحثاً عن العدالة والحماية من جهةٍ ثانيةٍ.
وبعد تشكّلها، استعانت السّلطة الفلسطينيّة بوجوهٍ من رجال العشائر في تثبيت حُكمِها وفرض سيطرتها على مناطق مختلفة، رغم أنّها في الوقت ذاته أقرّت عشرات القوانين التي تقضي بسيادة القانون واختصاص القضاء الرسميّ بالفصل في المنازعات بين الأطراف المتنازعة. والقاسم المشترك بين جميع رجال الإصلاح المدعومين من السّلطة التنفيذيّة هو ولاؤهم لحركة "فتح"، أو على الأقلّ عدم انخراطهم في أيّ تنظيمٍ معارضٍ، مع توفر قاعدةٍ عشائريّةٍ معيّنة لهم.
وبشكلٍ خاصٍّ، فقد هيمنت السّلطة التنفيذيّة على صنع القرار السياسيّ والإداريّ في الضفة والقطاع، بما تملكه من قوّةٍ مصدرُها الدعمُ العشائريّ لها، ورمزية رئيس السّلطة الأول، ياسر عرفات، لدى الشعب، كمُناضلٍ يريد بناء دولةٍ مستقلة على أنقاض الاحتلال. ساعدته هذه الرمزية في بناء إطارٍ تنظيميٍّ وتشريعيٍّ يمنحه صلاحياتٍ واسعة، مثل إنشاء الهيئات التي تضمن له ولحزبه سيطرةً على النّاس.
تتبع الرئيس مباشرةً: هيئات لشؤون العشائر
أصدرَ عرفات قراراً بتاريخ 9/11/1994، يقضي بإنشاء "دائرة لشؤون العشائر" تتبع مكتبَهُ، وعيّن مديراً لها. لم يذكر القرارُ مهامَ هذه الدائرة وصلاحيّاتها، أو صلاحياتِ رجال الإصلاح المرتبطين بها. كما لم يُشر القرار إلى أصول عمل القضاء العشائريّ، وعلاقته بالنظام الرسميّ أو أيٍّ من مؤسساته. كما لم تـَرِد أيُّ إشارةٍ للقضاء العشائريّ أو إلى قيمة التدابير المتخذة من رجال الإصلاح في أيٍّ من القوانين التي سُنّت بعد تأسيس السُّلطة.
واستمراراً لنهج أبو عمّار، أصدر محمود عباس بتاريخ 5/8/2012 القرار رقم (89/2012)، القاضي بإنشاء "الهيئة العليا لشؤون العشائر" للمحافظات الجنوبيّة (قطاع غزة)، تتبع إليه شخصيّاً. اشتملت عضوية الهيئة على 21 عضواً جميعهم من الرجال، ومن عائلات مختلفة. ومنح القرار الهيئة صلاحية تشكيل لجان فرعيّة في المحافظات لمتابعة شؤون العشائر.
وكحال سابقه، لم يُشر القرار إلى سلطات الهيئة وأعضائها أو صلاحيّاتهم، ليترك للسلطة التنفيذيّة تفسيرَ الأمر على نحو ما يخدمُ مصالحَها. كما أنّ القرار يخالف القانون الأساسيّ المُعدّل لعام 2003، لأنّه حسب المادة (69) منه فإنّ إنشاء أيّ هيئة يجب أن يتمّ من خلال سنّ قانون، وليس بقرارٍ رئاسيّ. علاوةً على أنّ إنشاء هيئة كهذه يتعارض مع المبادئ الدستورية.
ويبدو أنّ الغاية من إصدار هذا القرار كانت محاولة بسط نفوذ ما للرئيس عباس في مقابل حركة "حماس"، التي تسيطر على القطاع منذ 2007. يتضح ذلك أكثر من نصّ المادة (3) من القرار ذاته، إذ تفيد باستمرار ولاية المنسق العام للهيئة إلى حين إجراء الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة.
وبتاريخ 18/4/2019، أصدر عباس قراراً آخر بإنشاء "هيئة عليا لشؤون العشائر" في المحافظات الشماليّة (الضفة الغربيّة) تتبع له مباشرة، وتتفرع منها لجان فرعيّة في المحافظات. بعد حوالي شهر ونصف من إقراره، ألغى عباس هذا القرار بناءً على توصيةٍ من رئيس المخابرات العامّة، عقب اجتماعه مع بعض رجال العشائر غير المُمَثلين في الهيئة، ما يعكس تخوف السّلطةِ التنفيذيّةِ من خسارة ولاء العشائر وانقسامها بسبب تجاهل تمثيل بعضها في الهيئة.
العشيرة في خدمة الهيمنة
بناءً على ما سبق، يُمكننا القولُ إنّ السلطة التنفيذيّة تقرّ بوجود رجال العشائر وتسعى للاستفادة منهم، بما يضمن هيمنتَها، دون أن تُشرِّع أعمالَهم في البتّ في النزاعات ضمن المنظومة القانونيّة. وقد يكون أحد الأسباب وراءَ ذلك هو عدم رغبتها في أن تظهر للمجتمع الدوليّ ومجتمع المانحين كغير المعنيّة في إنفاذ سيادة القانون.
وبالتدقيق في توقيتِ صدور القرارات الرئاسيّة المذكورة أعلاه، يمكن أن نستشفَ أهدافها السياسيّة؛ صدر القرارُ الأول في بدايات تشكّل السّلطة، سبقتها مرحلةٌ طويلةٌ هيمَن خلالها رجالُ الإصلاح على شؤون الناس في ظلّ غياب جسم سياسيّ فلسطينيّ، وضعف ثقة النّاس بالمؤسسات القضائية التابعة للاحتلال، ورفضهم التعامل معها أحياناً.1الآغا، محمد، العرف في القضاء العشائري الفلسطيني، رسالة ماجستير، جامعة الزيتونة، تونس، 2006.
كما أنّ القرار الثاني جاء في مرحلة انحسار ولاية ونفوذ رئيس السّلطة في قطاع غزّة. في حين جاء القرار الثالث في ظلّ تخوف السّلطة من محاصرتها والحدّ من دورها من قبل "إسرائيل"، ضمن ترتيبات "صفقة القرن"، وكذلك رغبّة منها في كسب ودِّ العشائر بعد قرار المحكمة الدستوريّة، الموالية للرئيس، بحلّ المجلس التشريعيّ الذي ينتمي غالبية أعضائه إلى عشائر مختلفة.
والسّؤال الآن، طالما ثبت اعترافُ السَلطةِ التنفيذية بالعشائريّة- مع خلو التشريعات الرسميّة من أيّ تنظيم قانونيٍّ لتدخلات قضاة العشائر- فما هو الأساس القانونيّ لانخراطهم في حلّ النزاعات؟ وما القيمة القانونيّة للقرارات الصّادرة عنهم؟
غير قانونيّ.. لكن مستمر!
تقتضي الإجابة على هذا السؤال الانطلاق من محددات القرار الأول الصادر عن رئيس السّلطة في تونس بتاريخ 20/5/1994، وهو القرار رقم (1) لسنة 1994. أبقى القرار العمل بالقوانين والأنظمة والأوامر التي كانت سارية المفعول قبل تاريخ 5/6/1967 في الضفة الغربيّة وقطاع غزّة، إلى أن يتمّ توحيدها أو تعديلها أو إلغاؤها.
وبمراجعة التشريعات التي ظلّت سارية المفعول إلى الآن، وفقاً للقرار أعلاه، لا يوجد أيّ تشريعٍ سارٍ يُقرُّ بوجود محاكم للعشائر، أو بسلطة رجال الإصلاح أو قضاة العشائر بالفصل في أيّ نزاع. ذلك أنّ القانون الأساسيّ لسنة 2003 قد ألغى كلّ ما يتعارض مع أحكامه. وألغت المادة (39) من قانون تشكيل المحاكم (لسنة 2001) قانونَ المحاكم رقم 31 (لسنة 1940)، والذي كان سارياً آنذاك في محافظات غزّة، وكان يقرّ صراحةً بوجود محاكم للعشائر، وألغت كذلك قانونَ تشكيل المحاكم رقم 26 (لسنة 1952) الذي كان معمولاً به في محافظات الضّفة.
وبدخول القانون الأساسي المُعدّل لسنة 2003 حيَّز النفاذ، أصبح القضاء العشائريّ، من الناحية النظريّة، خارج المنظومة القضائيّة الرسميّة؛ إذ أقرّ هذا القانون بحقّ كلّ مواطن في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي، وقضى باستقلال السلطة القضائيّة التي تتولاها المحاكم، وترك طريقة تشكيلها واختصاصاتها للقوانين الخاصّة. بالفعل، حصر قانونا السّلطة القضائيّة رقم (1) لسنة 2000 وتشكيل المحاكم النظاميّة رقم (5) لسنة 2001، سلطة فضّ النزاعات، على اختلاف أنواعها، بالقضاء النظاميّ الرسميّ دون سواه. ولم ترِد في هذين القانونين أيّةُ إشارةٍ للقضاء العشائريّ.
رغم كلّ ما سبق، دأبت المحاكمُ النظاميّة على اعتبار صكوك الصّلح، الصّادرة عن رجال الإصلاح، ظرفاً مُخفِّفَاً لعقوبة الجاني، لما تعنيه تلك الصكوكُ من إسقاطٍ لحقّ المجني عليه الشّخصيّ. إضافة إلى دور تلك الصكوك في تعزيز طلب الإفراج عن المُتهمين بكفالةٍ في بعض الأحيان؛ لما تتركه من قناعةٍ لدى القاضي بعدم تشكيل قرارِه الإفراجَ عن المتهم خطورةً على النظام العامّ؛ إذ يُساهم رجال الإصلاح بهذا في الحفاظ على السّلم الأهليّ.
وبالنظر إلى قانون العقوبات الأردنيّ لعام 1960- والذي أُلغيت بعضٌ من مواده الماسّة بحقوق المرأة وكرامتها- فإنّنا نجد تأثراً بنظام القضاء العشائريّ، وأحياناً تبنيّاً لبعض الأفكار الاجتماعيّة التي كان يُعزّزها إلى وقت قريب ذلك القضاءُ. فمثلاً، وحسب القانون، كان يُمكن تخفيف العقوبة في حال توفرت أسبابٌ مُخفِّفَة، ومنها مثلاً وجود صكوك صلح مبرمة وفق النظام العشائريّ.
كما كانت المادتان (98، 340) من قانون العقوبات لسنة 1960، حتى وقتٍ قريبٍ، تمنح قاتلَ المرأة على خلفية ما يُسمّى "الشرف" ظرفاً مخففاً في العقاب، وعذراً مانعاً من العقاب حال قتلَ الزوجُ زوجتَه وهي متلبسةٌ بالزنا على فراش الزوجية. عُدِّلت المادتان (في 2011 و2014) بما يرفع الميزة الممنوحة للجاني، إلا أنّ الأمر من الناحية الواقعيّة لم يتغير كثيراً، إذ ما زالت هناك سلطةٌ تقديريّةٌ للمحاكم في الاستناد على نصوص قانونيّة أخرى كأسباب لتخفيف العقوبة، ومن ذلك صكوك الصلح العشائريّ التي يسقط من خلالها المجني عليه حقه الشخصيّ، ولو تحت إكراه رجال العشيرة.
اقرأ/ي المزيد: "سيرة مختصرة لسلطة لم تعد لها أيّ حاجة".
من جهة ثانية، تشير الدراسات إلى عدم تأثر القضاء العشائريّ بالأحكام الصادرة عن القضاء النظاميّ.2جامعة بيرزيت، معهد الحقوق، القضاء غير النظامي: سيادة القانون وحل النزاعات في فلسطين، بيرزيت، 2006. ففي كثير من الأحيان، أدان قضاة عشائريون مُتَّـهَمين رغم صدور أحكام قضائية ببراءتهم. كما يخلو نظام العشائر من تمثيل النساء، فلا تساهم المرأة في حلّ النزاعات أو إبرام الصلح، بل لا تظهر في مراسم الصلح وإجراءاته كضحيَّة. وبالتالي، هي لا تحكم، ولا تدافع عن نفسها أو تعرض طلباتها على هيئة الصلح، وعليها قبول ما يقرّره الرجال.
وفي القضاء العشائري، لا يستند العقاب إلى نَصّ القانون، وإنّما يستوحى من الأعراف والتقاليد. وكثيراً ما تكون العقوبات جماعيّة وفيها انتهاك لحقّ الإقامة والتنقل، كترحيل عائلة المتهم (الجلوة)، أو منعهم من السير في شوارع معينة، أو فرض مبالغ مالية تتشارك في تأديتها العشيرة، على خلاف مبدأ المسؤولية الشخصية. إضافة إلى إيلام المتهم من خلال إيقاع العقوبة عليه مرّتين؛ مرّة من خلال قرارات العشائر، وأخرى بواسطة سلطة القضاء الرسميّ.
اقرأ/ي المزيد: "حلقات قهر النساء المتشابكة في فلسطين: حوار مع إصلاح جاد".
يساهم القضاء العشائريّ في الحدّ من تفاقم النزاعات وردود الأفعال، من خلال "جبر خواطر" أهالي الضحيّة أمام الملأ، وحشد "الجاهات" إلى دواوين العائلات، وهو سلوك تتطلبه عادات العشيرة لتحقيق ما بات يعرف بِرَدّ الاعتبار للعائلة، لا سيّما في ظلّ ضعف مؤسسات قطاع العدالة الرسميَّة، وعجزها في بعض الأحيان أو في بعض المناطق، بحكم التقسيم السياسي للأراضي الفلسطينية. ولكن رغم كلّ ذلك، يساهم نهج القضاء العشائري سلباً في تعزيز مبادئ سيادة القانون وضمانات المحاكمة العادلة للأفراد، سواء أكانوا جناة أم ضحايا.
بناء على ما سبق، نلاحظ اهتمام رئيس السلطة التنفيذية برجال الإصلاح والعشائر، مع امتناع السلطتين التشريعية والقضائية عن التدخل في هذا الخصوص. ما يعني أنَّ القضاء العشائريّ رافد من روافد السلطة التنفيذية، ويقوم بممارسة مهام منوطة بشكل حصريّ بالقضاء الرسميّ.
وبذلك نرى أنّه من المستحيل تحقيق ما نُسمّيه "إنفاذ سيادة القانون"، وذلك لوجود نظام عدالة ذكوريّ عشائريّ موازٍ للنظام الرسميّ ومدعوم من السّلطة التنفيذيّة، وكذلك بسبب سيطرة منطق القوّة والمصالح الحزبيّة على الهيئات التي شكّلتها السّلطة الفلسطينيّة، لا سيما تلك العاملة في مكافحة الفساد. ولا يخفى علينا أنَّ تصاعد اللجوء إلى القضاء العشائريّ مرتبطٌ بانعدام الثقة بالقضاء الرسميّ واستقلاليته، والوعي بمظاهر تغوّل السّلطة التنفيذية وهيمنتها، وسكوتها في كثير من الأحيان عن مظاهر التسلّح.