12 أكتوبر 2019

سيرة مختصرة لسُلطةٍ لم تعد لها أيّ حاجة

سيرة مختصرة لسُلطةٍ لم تعد لها أيّ حاجة

ينتظرُ النّاس أيّ شيءٍ؛ تصريحاً هنا، تصريحاً هناك. لكن ليس لدى السّلطة الفلسطينيّة من تكاتبه، وليس لدى النّاس من يُحدّثها. "تنزل" الرواتب بنسبٍ مئويةٍ، وكأنّها الناطق الرسميّ باسم السلطة، مِنها يعرفُ النّاس أين وصلت الأمور. في أوقاتٍ كهذه تنتشر الخرافات، يرى النّاسُ الشّهداءَ على القمر، ويتوقعون أن تُقاتلَ السّلطةُ على مصيرهم: "لقد رفضت السّلطةُ استلام أموال المقاصة، من أجل أسر شهداء شعبنا وأسراه، ورفضت صفقة القرن بوضوح"، ألا يكفيكم ذلك لتصدقوا أنّها ستحمينا في النهاية وواجبنا أن نلتفَ حولها؟

 
لا أسوأ مِن شخصٍ يشتغلُ "بعّاصاً" لآمال الناس، سوى آخر يصدّق أيّ أملٍ معروضٍ عليه. كانت أموالُ عائلات الشّهداء والأسرى مُلاحقةً على الدوام، منذ قدوم محمود عبّاس والنخبة التي حوله إلى السّلطة. المئات من شباب المقاومة اعتُقلوا أو سُلِّموا لـ"إسرائيل" لقيامهم بهذا الدور تحديداً، وهو ما كان يُدعى في حينه "الإصلاح الماليّ" و"محاربة الإرهاب". يفتخر الرئيس دائماً بأنّه ارتبطَ بالأجهزة الأمنيّة حول العالم من خلال 83 بروتوكولاً أمنيّاً، لملاحقة أبناء شعبه ومقاوميه، مؤكّداً على أنّ هذه الالتزامات فوق أي مسألةٍ سياسيّة أخرى، أو كما عبّر في خطابه في الأمم المتّحدة: "قد نتخلّى عن أيّ شيءٍ سوى محاربة الإرهاب".

اقرأ/ي أكثر: البنك العربي.. إقصاء الأسرى وادعاءات مكافحة "الإرهاب"

يُكرر محمود عبّاس على الدوام أنّه يُرِيدُ توقيفَ التنسيق الأمنيّ (يُقال إنّه أعلن وقف التنسيق الأمنيّ 58 مرّة على الأقل). خلال هذه الإعلانات المتكرّرة، استمرّت اللقاءات مع الإسرائيليين. كما يُهدِّد الرئيسُ بحلِّ جميع الاتفاقيات الموقّعة مع "إسرائيل"، وينسى أنّ السّلطة نفسها عبارة عن اتفاق: هي نتيجة اتفاقٍ بين منظمة التّحرير و"إسرائيل"، ولايمكن لاتفاقية أن تحلّ نفسها بنفسها، فهي تحتاج إلى الطرف الذي وقّعها وهو منظمة التحرير. وقد جرى قتل منظمة التحرير منذ زمنٍ بعيدٍ على يد نخبة السّلطة ذاتها؛ كان عبّاس ورجاله أوفياء لجوهر السّلطة بوصفها شركة أمنيّة لا أكثر، وهو -أي عبّاس- الضّمان لئلا تنزاح عن وظيفتها، وألّا يبقى وجود لأيّ إرادة وطنيّة يمكن أن تجعل السّلطة تنسال في فعلٍ يهدّد العدو.

يدرك عبّاس أنّها المهمة الوحيدة المتبقية للسلطة؛ أن تكون شركةً أمنيّةً، بل أن ذلك جوهرها منذ أن نشأتْ، وقدومه إلى السّلطة كان تأكيداً على هذا الجوهر، وتخليصاً لها من أيّ استعمالٍ آخر لا يخصّها. يستمد عباس من هذه المهمّة شرعيّةَ استمراره، ويحفظ حياتَه وشبكةَ مصالحه التي بناها طوال هذه السنين بدون رقابة. إنّها المهمة الأخيرة، ويَحُول أداؤها  دون أن ينقضّوا عليه ودون أن يبنوا له قبراً مُشِعاً بالبولونيوم، فالجاهزون للتقدّم وإصلاح "الخلل" مجدداً -كما فعل هو سابقاً مع عرفات- كُثُر.

البدايات

حين جاءت النخبة الحاكمة الآن إلى قيادة السّلطة، جاءت بمشروعٍ مخصوصٍ وهو معالجة "الخلل" الذي تسبّب به أبو عمار مع اندلاع الانتفاضة الثانية. فُرض أبو مازن كرئيسٍ للوزراء على أبو عمار عام 2003، مع اقتراب الانتفاضة التي أُنهِكَت من نهايتها، وبعد استحداث منصب "رئيس الوزراء" لأجله خصيصاً. كما فُرِضَ محمد دحلان وزيراً للداخليّة. وكلا الرجلين من التيّار الذي دعى "للإصلاح"، الكلمة التي سيتضح لاحقاً معناها على أجسادنا ومصائرنا. 

لم يكن من السّهل مشاركة السّلطة مع أبو عمار، فقد نبذ الرجلين، وأشاعت حركة "فتح" يومها أنّ أبو مازن ليس سوى "كرزاي فلسطين"، في استعارةٍ لفرض حامد كرزاي رئيساً على الأفغان بعدما أنهكهم الأميركيون بالحرب.  سرعان ما استقال أبو مازن، وسرعان ما قُتل أبو عمار أيضاً. كان "أبو مازن ورجاله" يستعدون لبناء ما يتخيلونه دولةً، والجدارة الوحيدة التي يقدّمون أنفسَهم من خلالها هي "الأمن" و"الإصلاح الاقتصاديّ". وفي ذلك كان أبو مازن، ومع كامل الاحترام للمخيّلة الفتحاويّة، يذهب أبعد من كرزاي بكثير.

مع قدومه للحكم عام 2005 كانت الانتفاضة الثانيّة تلفظ أنفاسّها الاخيرة. رَفَعَ شعارَ "القضاء على عسكرة الانتفاضة"، وكانت ظاهرة الفلتان تنهش ما تبقّى من قيمةٍ للسلاح في أذهان النّاس. كانت أجيالُ الانتفاضة المؤسِسَة قد تكسرّت في اجتياح "السّور الواقي"، وتركت الأمرَ للزعران والبلطجيّة الذين كانوا ينحدرون غالباً من نفس فصيل السّلطة. لقد خَلَقوا المشكلةَ التي اقترحوا أنفسَهم كحلٍّ لها. وهكذا فرّغ أبو مازن المطاردين الذين قَـبِلوا وَعدَه الجديدَ في الأجهزة الأمنيّة، بينما قتلت "إسرائيل" أو اعتقلت من رفضه . أُعيد خلقُ الأجهزة الأمنيّة بطريقةٍ تضمن ارتباطَ الضّباط والجنود وحتى كُتّاب التقارير في السّلطة مع الإسرائيليين، وهو ما يختلف جذريّاً عن مفهوم التنسيق الأمنيّ في زمن أبو عمار، والمقارنة هنا بين سوءين.

استعان عبّاس بسلام فيّاض لإتمام "الإصلاح الاقتصاديّ" المُشابه "للإصلاح الأمنيّ". وحمل "الإصلاحُ الاقتصاديُّ" معنى التطهير للنظام الماليّ من أي طريقة يمكن فيها للمال أن يفيد المقاومة. سيطروا على المؤسسات الخيريّة ولجان الزكاة، ولاحقوا مصادر التمويل، ورفعوا من نشاط البنوك، وأغرقوا النّاسَ بمديونيةٍ عاليةٍ تُشعرهم برفاهٍ وهميّ. 

اقرأ/ي أكثر: الإغراق في الديون.. سياسات الإقراض في الضّفة

جرد الحساب

يحكي مهندس أوسلو قصة الاتفاقيّة في اجتماع مجلس جامعة الدول العربيّة في أبريل/ نيسان الماضي: "نقضت إسرائيل اتفاقية أوسلو كلّها، ونقضت ما جاء بعدها، وخاصةً اتفاق باريس الاقتصاديّ"، ويردف عباس بفخر:"لم تلتزم ببندٍ واحدٍ فيما التزمنا نحن بكلِّ البنود"، ويتابع "لم تُطبق أيضاً قراراً دوليّاً واحداً منذ 1947 لليوم". 1في خطابه خلال اجتماع مجلس جامعة الدول العربيّة، في دورته غير العادية، والمنعقدة في أبريل/ نيسان 2019، قال الرئيس محمود عباس: "هناك 722 من الجمعية العامة، 86 قراراً من مجلس الأمن، وعدد كبير في جنيف حقوق الإنسان، لم يطبق قراراً واحداُ. هي ليس فقط ترفض، بل أمريكا تقف وراءها في هذا الموقف".

المحزن أكثر في القصة أنّ عباس لم يناضل حتى في المساحات التي اعتبرها مقبولةً. مثلاً، بدا أنّه طرح خيارَ المقاومة الشعبيّة كمشاغبةٍ ضدّ الكفاح المسلح لا أكثر، ولم يأخذه بجديّة كافية. لم يقد عباس نضالاً شعبيّاً ضدً الاحتلال، بل على العكس، ساهمَ في كثيرٍ من الأحيان في قمع التشكيلات والفعاليّات الشعبيّة التي أخذت على عاتقها هذا النوع من العمل.

وَجَدَ عباس في مسألة الدولة "بدون عضو" فرصةً لتثبيت إنجاز ما، وحاول تحشيدَ النّاسِ حول هذا المسار الذي يبدو أنّه لم يكن أكثر من تعويضٍ رمزيٍّ عن غياب حقائق السّيادة على الأرض. لكنّه حتى في هذه المسألة لم يكن قادراً على النضال من خلالها، أو حتّى في دفعها إلى مساحاتٍ يُمكن أن تُزعِجَ "إسرائيل". فمثلاً؛ امتنع عبّاس عن دخول 22 مؤسسة دوليّة بناءً على طلب الأميركيين، وحتّى دون حصوله على مقابلٍ يُذكَر2المصدر السابق.. كما امتنع عن أيّ سعيٍّ لمحاسبة "إسرائيل" في أعقاب تقرير غولدستون، وحتى سعى مباشرةً إلى تمييع مذكرة القرار المتعلقة بمحاسبة "إسرائيل" في أعقاب تقرير لجنة التحقيق الدوليّة الأخيرة حول قمع مسيرات العودة في قطاع غزّة.

موت الجغرافيا الحزين 

ما الذي نتحدث عنه فعليّاً حين نقول إنّ السّلطة "تحكم"؟ فقد كان على هذه السّلطة لكي تُخلَق في أوسلو أن تتخلص من معظم الشّعب الفلسطينيّ: اللاجئين وفلسطينييّ الداخل. ثمّ كان عليها لكي تستمر بعد الانتفاضة الثانيّة أن تتخلّص من غزة. أمّا في الضفّة الغربيّة -مكان سيادتها المفترضة- فتعمل "إسرائيل" تدريجيّاً على تحويل هذه الاكتظاظات المسمّاة "مناطق السّلطة" إلى حزمةٍ تُحيطُ بمشروعها التوسعيّ؛ يد عاملة رخيصة مضبوطة بأجهزةِ شرطةٍ محليّةٍ تنطٍقُ بلغةِ تلك اليد العاملة، أجهزة تنظّم جوع الناس وفقرهم، وتُشرف على موتِ آخر شعورٍ سياسيٍ لديهم يدفعهم لحلم التّحرير.3ضمن هذا التحليل يمكننا كذلك فهم موافقة "إسرائيل" على فتح مراكز للشرطة الفلسطينية، ونشر عناصر أمن فلسطينيّة في ضواحي القدس (العيزرية، أبو ديس، والرام، وغيرها).

تسيطر إسرائيل على 60% من الضفّة عسكريّاً، وهي المنطقة التي تُعرف بمنطقة "ج". فيما تُشكِّلُ المنطقتان "أ" و"ب" نحو 40% من مساحة الضّفة الغربيّة، ويُفترض رسميّاً أنّها تحت حكم السّلطة الفلسطينيّة بشكلٍ جزئيّ ومتفاوت.4 يُذكر أن 94% من الأغوار الفلسطينيّة محظورة على استخدام الفلسطينييّن تحت شعارات مختلفة، كالقول إنّها مناطق عسكريّة مُغلقة، أو محميات طبيعية، أو مناطق استيطان. يمكن مراجعة: "عنف المستوطنين وأثره على الفلسطينيّين"، نبيل الصالح، مركز مدار، 2014، ص 21. ينعدم من منطقة السلطة أي تواصلٍ جغرافيّ، فالمنطقة التي تحكمها أشبه بلطخات دمٍ متناثرٍ على الخريطة من 165 قطعةٍ جغرافيّة مكتظّة ومخنوقة وممنوعة التوسّع، تستعد لأن ترتصف كأحزمة فقرٍ ويد عاملة رخيصة لأيّ مركزٍ يطلب استخدامها5 عاد عددُ العمال الفلسطينيّين من الضّفة الغربيّة العاملين داخل السّوق الإسرائيليّة إلى ما كان عليه قبل 25 عاماً، وهو ما يُقدّر بحوالي 127 ألف عامل، أي حوالي 13% من إجمالي العاملين الفلسطينيّين، (و20% من العاملين في الضّفة الغربيّة)، ويُسهمون بتوليد 15% من الدخل القوميّ، وهي نسب تقارب تلك التي كانت سائدة قبل 25 عاماً. وقد عُقدت لقاءات فلسطينية - إسرائيليّة مؤخراً لترتيب صرف رواتبهم من خلال المصارف الفلسطينيّة. . وكان من المفترض لهذا التقسيم (أ، ب، ج) أن يستمر لخمس سنوات فقط بعد أوسلو، لكن "إسرائيل" أبّدته، وبنته واقعاً جديداً يخّصها على أعين السّلطة منذ يوم أوسلو الأوّل.

شقّت "إسرائيل" -في خدمة المستوطنين- شوارع يبلغ طولها 49 كيلومتراً تشمل 43 نفقاً وممرّاً تحت أرضيّ. وهي شبكة بُنية تحتية ممنوعة عن الفلسطينيّ الذي قذفت به إلى شبكة من الطرق الالتفافيّة يضطر فيها لسلوك طرقٍ يتراوح طولها بين ضعفيّ وخمسة أضعاف طول الطرق المباشرة.6المصدر رقم 4.  ص20.   فيما بلغ عدد المواقع الاستيطانيّة، والقواعد العسكريّة الإسرائيليّة في الضّفة الغربيّة 435 موقعاً مع نهاية عام 2017، من بينها 150 مستوطنة، و116 بؤرة استيطانيّة7 وقد شهد عام 2018 "زيادةً كبيرةً في وتيرة توسيع المستوطنات"، وصلت للمصادقة على بناء 9384 وحدة استيطانية جديدة إضافة الى إقامة تسع بؤر استيطانية جديدة.. لا يمسّ هذا الوجودُ الاستيطاني حياةَ الناس فقط، بل هو وجودٌ مجبولٌ على الاعتداءات التي تتزايد بشكل طرديّ مع ازدياد القبضة الأمنيّة للسلطة.8 ارتفعت نسبة اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين في الضّفة الغربيّة بنسبة 315% منذ عام 2007 إلى 2012. راجع المصدر رقم 4، ص 35. بُنيت كذلك عشرات المستوطنات لتشكّل طوقاً لحماية القدس ولمنع أيّ تواصلٍ جغرافيٍّ وبشريٍّ بين مدن جنوب القدس (بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور والخليل وحلحول) وشمالها (رام الله والبيرة وقراها)، وهي المستوطنات المعروفة بما يُسمّى "القدس الكبرى".9 "إسرائيل والاستيطان: الثابت والمتحول في مواقف الحكومات والأحزاب والرأي العام"، مركز مدار، 2014. ص 18.

ثمّة دولة في الضّفة، صحيح، لكنها  للمستوطنين. والسّلطة الفلسطينيّة هي جهازٌ يضمن استقرارَ هذه الدولة. تُشير الإحصاءات إلى أن 70٪ من سكان المستوطنات يختارونها لأغراض الرفاه، وهذا بالضبط ما يعنيه جوهر وجود السّلطة؛ أن تؤمّن رفاه الإسرائيليّ.10"الاستيطان: آثار كارثيّة على الاقتصاد الفلسطينيّ"، عاص أطرش، مركز مدار، 2015، ص 19.  

تتواصل اليوم "إسرائيل" مع سكان الضّفة جميعهم متجاوزةً السّلطة الفلسطينيّة، من خلال الارتباط المدنيّ والغرف التجارية ورجال الأعمال وخلافه، وصولاً إلى استخدام شبكات التواصل الاجتماعيّ، التي يخاطب فيها "المنسق" وقيادات المناطق العسكريّين الفلسطينيّين بشكلٍ مباشرٍ، متجاوزين حتى الارتباط المدنيّ الفلسطينيّ. 

هكذا، تكسّر "إسرائيل" تدريجيّاً احتكار السّلطة تمثيلَ أيّ إنسان يعيش تحت حكمها داخل الضّفة الموّزعة على هذا التقطيع الرهيب في الجغرافيا. حتى أنّها قامت مؤخراً بفتح البوابات في الجدار الفاصل، بالقرب من إحدى قرى طولكرم، وهي تراقب فرحَ النّاس الذي يشبه الفزعَ حين استقلوا سياراتهم أو ساروا على أقدامهم ليشاهدوا السّاحل الذي طردتهم "إسرائيل" عنه، أو يتجولوا في أفق الجغرافيا الرحب، بعد أن حبستهم السّلطة في قليل منه. لم تنسق "إسرائيل" في ذلك لا مع السّلطة ولا مع النّاس، وإنّما تمارس فعلها كحقٍّ إلهيّ لا يفسّر تصرفاته، لم تعلنه كحقّ أو مكتسب، بل تستخدمه كمنفذٍ للتنفيس والضّبط كما تفعل مع التصاريح والعمل والعلاج. 

خاتمة

 … ثم من فوق 40% منقوصة السّيادة في الضفة، دعا الرئيس محمود عبّاس غزّة المحاصرة أن تحتكم لصناديق الاقتراع.