1 نوفمبر 2023

طوفان الأقصى: يا بنيّ اركب معنا

طوفان الأقصى: يا بنيّ اركب معنا

"من الناحية الثقافية، تخلفوا عنا بنحو 500 عام، ومن الناحية الروحانية، لم يوهبوا مثلنا قدرة التحمل، ولا حتى قوة الإرادة"1زئيف جابوتنسكي، عن الجدار الحديدي، مجلة قضايا إسرائيلية، العدد (37-38)، 2010، 32.، هكذا قال الصهيوني الأوروبي زئيف جابوتنسكي قبل قرن عن أهل فلسطين، في مقالٍ له بعنوان: "عن الجدار الحديدي". 

لقد خرق طوفانُ اليوم "الجدار الحديدي" و"الجدار الذكي"، الذي تتباهى به "إسرائيل" وقد صرفت عليه المليارات، وكما تبّين عجز الجدار مراراً، تبيّن عجز جابوتنسكي، كغيره ممن يعجز إدراكهم، عن فهم روح المُقاوِمِ والمقاومَة بالروح، التي لا تيأس من رَوْح الله؛ "إنه لا ييأس من رَوْح الله إلا القوم الكافرون". 

هذا ما أثبته المجاهدون والمرابطون، وجاءت معركة "طوفان الأقصى" لتعيد صياغة البرهان على وهم الاعتقاد باستحالة انتهاء المشروع الصهيوني، والتنبيه إلى ما ورائيات القضية، بأبعادها الغيبية وعوالمها السرمدية، وشحن الأذهان بتخيّل مشهد التحرير الكامل، كما هيّجت صلة الأمة الإسلامية والعربية بقضيتها المقدّسة؛ صلة لا تقف عند المساندة والتضامن، بل تتعداها إلى كون القضيّة لهم كما هي للفلسطينيين. 

سذاجة "ازدواجيّة المعايير"

"كيف يهدد الهجوم على إسرائيل الغرب بأكمله؟"، هذا ما تساءلت عنه صحيفةٌ ألمانية على غلافها قبل أيام، ومع اختلاف البواعث بيننا، أراني أتفق مع افتراضها المُضمر بالسؤال، فالذات الغربية النموذجية ترى في "إسرائيل" امتداداً لها، والإبادة التي تحصل اليوم في غزة لا يمكن فصلها عن "حضارة" الغرب، التي مكّنت المشروع الصهيوني من الوجود في المقام الأول. 

وعليه، فإن السُعار الغربي تجاه ما يحصل، لا يعبّر إلا عن الصلة الطبيعية والأصلية بين الغرب وهذا الكيان، ناهيك بالدعم العسكري الغربي للكيان خلال هذه الحرب، فإن ما يُتداول عن سوء تصوير الغرب للأحداث وللمقاومة يتجاوز مجرّد سوء التصوير، إلى كونه يمتلك "قدرة أدائية" لا تقل في أهميتها عن الدعم العسكري، وهو ما سماه وائل حلاق بـ"القدرة الأدائية للاستشراق"2انظر إلى: وائل حلاق، قصور الاستشراق: منهج في نقد العلم الحداثي. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2019.

تجعله هذه القدرة أداةً مساهمةً في عملية الإبادة، باعتبار أن الإبادة أساسٌ في المشروع الحديث، أو فلنقل إن الحداثة إباديةٌ بطبيعتها، وبهذا يكون سوء التصوير والدعم العسكري وغيره، مركباتٌ ضمن بنية كاملةٍ، تشارك في عملية الإبادة، بما تحمله هذه الكلمة من مضامين مادية وغير مادية. ولمّا تعهدت قوى الغرب الحداثي بتمكين المشروع الصهيوني ومنع عرقلته، كان لزاماً عليها ضمان ذلك، والصهيونية بدورها تحث هذه القوى "على تأدية دورها بحزم ودون رأفة"3جابوتنسكي، عن الجدار الحديدي، 34.

إذاً، من السذاجة القول بـ"ازدواجية معايير الغرب"، فعلى العكس من ذلك، إن ما يحصل اليوم هو النتاج الطبيعي لهذه المعايير. 

ما التحيّر في القيم الغربية؟

من أساسات الحداثة الإبادية، مفهوم "السيادة"، الذي يحدد طبيعة الذات الحداثية - الغربية النموذجية، التي تظن أنها صاحبة إرادة مطلقة، ولا تخضع لشيء أعلى منها، "إذ لا تعلو السيادة على المبادئ فحسب، بل تصنع تلك المبادئ بإرادتها"4حلاق، قصور الاستشراق، 164-165.. فهذه الذات المتسيّدة تريد أن تتحكم في شؤون العالم، وأن تحل محل الله (والعياذ بالله)، وأن تسيطر على الطبيعة، بعد أن أفرغتها من كل قيمة. وما هذه السيادة إلا السيادة العلمانية للذات الحديثة حين حاولت أن تُدرك نفسها، إذ يشترط تحقق الذات المُدرِكة (ego cogito) تحقق الذات الغازية (ego conquiro)، بمعنى أنّ "أنا أغزو إذاً أنا موجود" أصبحت أساس "أنا أفكر إذاً أنا موجود"5المصدر السابق،147. يتفاعل حلاق مع طرح الفيلسوف إنريك دوسل حول الذات الغازية كأساس للذات المدركة.، فتكون الشعوب غير الغربية، بعد نزع صفة الآدمية عنها، من جملة الأشياء التي تحاول هذه الذات السيطرة عليها، إذ ترانا امتداداً للطبيعة (منزوعة القيمة).

من هنا نفهم الوصف المتكرّر للفلسطينين على أنهم حيوانات بشرية وهمجيون وغير ذلك، ونفهم تعريض كل مناصرٍ لفلسطين أينما كان في العالم لنزع الآدمية هذا، وما يسهّل الأمر أكثر أن يكون مُسلماً، فمن نافلة السُعار الغربي، أن هذه المقاومة هي إرهابٌ إسلاميّ، فمعنى أن تقاوم الاستعمار وأن تستعيد فاعليتك في هذا العالم هو تمام معنى الإرهاب عندهم! 

إن مقاومة هذه الذات المتسيّدة، ليست محاولة للخروج عن سيطرتها فحسب، وإنما هي أيضًا تبيانٌ لوهمها، في فهمها لذاتها وفهمها للآخر، بل ولرؤيتها للكون، فالحقُّ أن عملية "طوفان الأقصى" هزّت الذات الصهيونية - الغربية، وهي هزّةٌ للذات الحداثية - المتسيّدة، إذ تعرّت بجلاء، وكلما حاوَلَت إنكار ذلك زادت من وقاحتها، فما التَحيُّر في القيم الغربية بعد هذا إلا من العمى!

في فهم الصراع فهماً ائتمانياً - إيمانياً

إن فهم القضية الفلسطينية من خلال مقاربات تاريخية أو قانونية أو سياسية، هو فهمٌ قاصرٌ بطبيعة الحال، يسلب القضية عوالمها الغيبية أو أبعادها السرمدية، أو كِليهما. يقدم لنا طه عبد الرحمن في كتابه "ثغور المرابطة"، ما يسميه "المقاربة الائتمانية"، التي تصل المشهود والزمني بالغيبي والسرمدي، وتقوم على مبدأ أساسي؛ أن الروح هي الأصل في تفسير صورة الأشياء، وبالتالي توجّب ردّ صورة الاحتلال الإسرائيلي، أرضاً وإرثاً، إلى روحه، وهي من جانبين، أولهما: إيذاء الإله6الأصل الذي اعتمده طه في استعمال عبارة "إيذاء الإله" هو الآية القرآنية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا﴾ [الأحزاب: 57].، منازعةً له في صفة "المالك"؛ "مستشعرين أنهم يضاهون الإله في التصرف في مُلكه كيف يشاء"7طه عبد الرحمن، ثغور المرابطة: مقاربة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية، الرباط: مركز مغارب، 2018، 22.، وهذا روح احتلال الأرض، وآخرهما: إيذاء الإنسان، قلباً للقيم أو سلباً للفطرة، وهذا روح احتلال الإرث.

فأولو الأبصار ينظرون إلى آيات الله في غزة، في جهاد أهلها ورباطهم، ويعتبرون، ويرَون في أولادهم التربية الإيمانية التي تُمهّدُ طريق نهاية الاحتلال، بانتهاء تدنيس الأرض وتزييف الفطرة، ولتحقيق ذلك، يذكرنا طه بخاصيتي المرابطة المنشودة، الأولى: حفظ ميثاق الأمانة؛ لمّا عرض الحق سبحانه وتعالى الأمانة على مخلوقاته فأبت أن تحملها وحملها الإنسان8تدبر قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ [الأحزاب: 72].، وبالتالي تكون هذه الأرض أمانةً في ذمته، وعليه واجب حفظ قداستها، فالأصل أن علاقة الإنسان بالأشياء علاقة أمانة، ونسبةُ المُلكية هي لله وحده، ومن ثم يكون استرداد ملكية الأرض المسلوبة تابعٌ لرفع تدنيسها وتجديد قدسيتها، وما أحوج المرابط إلى توسل حقيقة الأمانة من خصوصية "الإسراء النبوي"، لمّا أسرى الله تعالى برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، فيتذكر "حقيقة المسجد أنه البيت الذي لا يملكه أحدٌ غير الله"9طه عبد الرحمن، ثغور المرابطة، 39..

أما الخاصية الثانية؛ فهي حفظ ميثاق الإشهاد، لمّا أشهد الحق سبحانه وتعالى ذرية بني آدم، على ربوبيته ووحدانيته10تدبر قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 172].

، آخذاً منهم الميثاق، وهو الأصل في وجود الفطرة، فيكون رفع تزييف الفطرة بترك إرادة الذات إلى إرادة الله، مكابدةً للنفس وإدباراً عن القيم المضادة للفطرة، وما أحوج المرابط إلى استحضار المعاني والقيم الفطرية متوسلاً بـ"العروج النبوي"، لمّا أشهد الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم من آياته وصفاته الحسنى ما لم يشهده أحداً11طه عبد الرحمن، ثغور المرابطة، 52.

ومن مراتب تصدي المرابط لتزييف الفطرة، مقاومة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، لأن التطبيع تضييعٌ للطبيعة وللروح وللقداسة وللحياء، وذلك بترك إرادة الذات، ليس إلى إرادة الله، وإنما إلى إرادة "إسرائيل"، فالفرد المطبّع يخون أمانة الحرية التي في ذمته، والحاكم المطبّع يخون أمانة العدل، فمن الضروري توعية المجتمع الذي أُكره على التطبيع، بمدى الضرر الذي يهدد كيانه وفطرته، فعندما يُسلّم المطبّع إرادة ذاته إلى إرادة الإسرائيلي، لا يبقى له من الإنسان، إلا صورة العربي أو صورة المسلم، أما روحه فهي الإرادة الإسرائيلية12المصدر السابق..

تفيد هذه المقاربة ضرورة بث الروح الرباطية في كل مكان، وعدم تخصيصها بأرض فلسطين، وبالتالي فتح إمكانية أن يتلبّس أيُ إنسانٍ يريد تطهير الأرض المقدسة بهذه الروح، متى أخذ بموجِباتها، فالأذى الذي يتعرض له الإنسان الفلسطيني أضحى شأنا يعم الجميع، "لا من جهة انشغال المجتمع الإنساني بحقوق الإنسان، ولا من جهة اهتمام المحافل الدولية بقضيته، وإنما من جهة تأذي المجتمع الشامل بما يتأذى به الإنسان الفلسطيني، قلباً للقيم وسلباً للفطرة"13المصدر السابق، 53.

إن هذه المرابطة في الأصل هي مقاومةٌ بالروح، المُمتلئة بمعاني الميراث الروحي الذي يغشى أكناف بيت المقدس إلى يوم الدين، وبمعاني قداسة الأرض وأصالة الفطرة. فلا خوفٌ على مرابطةٍ هي مقاومة بالروح، وما مقاومة الجسد إلا تَبعٌ لها، فلو توقف الجسد أو انقطعت مقاومته الظاهرة، فلن تنقطع مقاومة الروح على الدوام، فـ"لولا الروح، ما كان الجسم، وإلا فطين لازب؛ ولولا الروح، ما كان التاريخ، وإلا فسُكون سرمَد؛ ولولا الروح ما كان العالم، وإلا فكيان موات"14المصدر السابق، 39.

لقد انتشرت آفات التسيّد الحداثي، وما عادت مقتصرةً على الغرب، فحجبت كثيرين عن معانٍ هي أصلٌ في إيماننا بهذه الأرض المقدّسة، وأنستهم جوهر الصراع، الذي هو صراعٌ بين الحق والباطل؛ بين الخير والشر. وكما ينبهنا الأستاذ طه عبد الرحمن إلى تلك المعاني، والتي لا شك في أنها تنطلق من أُسسٍ إسلاميةٍ صريحة، جاءت المقاومة في السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر تَدُلنا عليها، وتَرُدّنا إليها، لكن يصّرُ فريقٌ من الناس على تجاهُلها، عاجزين عن النفاذ إلى فهمها. 



19 أكتوبر 2021
العمار في خِرَب فلسطين

قيل "الخِربَة" أي: موضِعُ الخراب. يستخدمها الفلسطينيّون لوصف كلّ مكانٍ فيه تجمّع لمبانٍ قديمة مُهدّمة ومهجورة. وتعجّ فلسطين بالخِرَب، وتُعتبر…