15 يوليو 2024

"طوفان الأقصى" ولوبي يشمّر عن ساعديه

"طوفان الأقصى" ولوبي يشمّر عن ساعديه

ظهر المرشحان الرئاسيان الأميركيان عن الحزبين الديمقراطي والجمهوري، جو بايدن ودونالد ترمب، أمام كاميرات شبكة "سي أن أن"، يوم السابع والعشرين من حزيران/ يونيو الماضي، في أول مناظرةٍ رئاسيّةٍ عامّة، تمهيداً لانتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر القادم. وقد كان السؤال حول شكل العلاقات الأميركية - الإسرائيلية وموقف الإدارة الأميركية القادمة من حرب الإبادة التي تشنّها "إسرائيل" على القطاع، أحد أهم القضايا المطروحة، إذ تسابق المرشحان في تأكيد ولائهما لـ"إسرائيل" وتأييدهما المطلق لسياساتها، ودعمهما غير المشروط لحقّها في "الدفاع عن نفسها". وهو ما يذكّرنا بما صرّح به السيناتور الأميركي ويليام فولبرايت، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس،  سبعينات القرن الماضي بأن "الكونغرس أرض محتلة من قبل إسرائيل"، وأن الاخيرة هي المتحكم بالولايات المتحدة من خلال جماعات الضغط الموالية لها لا العكس.

يُثير هذا التسابق أسئلةً قديمةً جديدةً عن طبيعة العلاقات التي تربط "إسرائيل" بالولايات المتحدة؛ وتأثير اللوبي الصهيونيّ على تشكيل السياسة الأميركية. فما هو اللوبي الصهيوني؟ وأي دور يلعبه؟ وكيف يستطيع توجيه سياسات أميركا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية؟ وما الذي تغير في الساحة الأميركية خلال العقد الأخير؟ يحاول هذا المقال توفير إضاءات على هذه المحاور.

"المصلحة الفضلى لإسرائيل"

لعب اللوبي الصهيوني طوال العقود الماضية دوراً مفصليّاً فيما يتعلق بالسياسات الأميركية في الشرق الأوسط. يأتي هذا في سياق العمل السياسيّ المفتوح في الولايات المتحدة حيث يُفتح الباب واسعاً أمام عمل مجموعات الضغط المختلفة بأجنداتِها وأهدافها المتباينة، والتي بدورها تسعى من خلال تمويل المرشحين وحملات الانتخاب، والضغط الداخلي على مشرّعي "الكابيتل هيل" وموظفي البيت الأبيض وغيرهم من موظفي الإدارات الفيدرالية والمحلية، لتمرير مطالبها وتبني القوانين والسياسات التي تتوافق مع رغباتها. 

وتتنوّع مجموعات الضغط بين تلك المتعلقة بالسياسة الداخليّة أو الخارجيّة، من أمثلة "أميركيون في سبيل الازدهار" التي تعمل لتقليص دور الحكومة وتوسيع سياسة السوق الحرّ، و"مؤسسة الدواء الأميركية" و"مؤسسة التعليم والوطنية" التي تضغطان في مسائل متعلقة بالقطاعين الصحي والتعليمي، وغير ذلك من الجماعات.

إلا أنّ إحدى أقوى جماعات الضغط في الولايات المتحدة وأكثرها تأثيراً على السياسة الأميركية الداخلية والخارجية على السواء، هي جماعات الضغط الموالية لـ"إسرائيل" والمعروفة بـ"اللوبي الصهيوني". تضمّ هذه الجماعات ملايين الأميركيين من أصولٍ وخلفياتٍ متنوعة ويعود تاريخها إلى عشرينات القرن الماضي، إذ لعبت أدواراً مفصلية في السياسة الأميركية إبان الحربين العالميتين وما بعدهما. 

رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو يلقي كلمة أمام مؤتمر لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك) في واشنطن العاصمة، في 2 آذار/ مارس 2015. (تصوير: نيكولاس كام/ وكالة الصحافة الفرنسية)

تتميّز هذه الجماعات عن غيرها من الجماعات العاملة في الولايات المتحدة بأموالها الطائلة التي تجعل منها المساهم الأول في الحملات الانتخابيّة وتوجيه قوائم المرشحين، إلا أنّ أهم ما يُميّز هذه الجماعات هو دورها الذي يتجاوز الحياة السياسيّة إلى تشكيل الرأي العام والمساهمة في الأكاديميا والإعلام والجهود البحثيّة، وأسلوبها الذي يركن أحياناً إلى الترهيب وإسكات الأصوات المعارضة بالتهديد والابتزاز. 

وعلى عكس ما يتبادر للذهن؛ فإنّ اللوبي الصهيوني ليس منظمةً واحدةً، ولا يعمل على قولِ رجلٍ واحد، بل هو منظومة من المؤسسات والأفراد وشبكات المصالح متعددة المشارب والمعتقدات والأهداف ووسائل العمل، لكن يجمعها ما يُطلق عليه "المصلحة الفضلى لإسرائيل". على سبيل المثال يضم اللوبي تياراً يساريّاً، وآخر محافظاً، وطيفاً من التدرجات الدينيّة والسياسيّة والطبقيّة بين هذين النقيضين. 

فمنظمات مثل "مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل" و" مؤتمر الرؤساء الأمريكيين"، والمؤسسة الصهيونية الأمريكية"، و"المؤسسة اليهودية للأمن القومي الامريكي"، و"مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات"، و"لجنة العلاقات الإسرائيلية الأمريكية-إيباك"، إضافة إلى أثرياء أميركيين من أمثلة هاييم سابان وشيلدون أديلسون، تُعد أقطاباً بارزة في نسيج اللوبي الصهيوني الأميركي، وهي ليست متجانسةً في ديانتها ولا إثنيتها ولا حتى برنامج عملها السياسي بقدر اتفاقها على العنوان الفضفاض لمراعاة المصالح الإسرائيلية.

وقد ظهرت الخلافات بين المكوّنات الرئيسة للوبي الصهيوني جليةً في ظل إدارة ترمب، فبينما رحّبت "إيباك" بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، عارضت لجنة العمل السياسيّ "جي ستريت" الخطوةَ واعتبرتها ممهدةً لانفجارٍ أمنيّ في المنطقة. وتمتد خلافات تلك الجماعات إلى ملفاتٍ أخرى، وعلى رأسها الاتفاق النووي مع إيران و"حل الدولتين".

المال لصناعة الرأي

ينتهج اللوبي الصهيوني عدداً من الأساليب لتوجيه السياسة الأميركية، وأبرز وجوه عمله وأكثرها وضوحاً هو الدعم المالي المباشر لأحزاب ومرشحين للانتخابات التشريعية والرئاسية، من أدنى مستوياتها كالبلديات ومجالس التعليم والصحة وحتى منصب الرئيس، مروراً بمقاعد الكونغرس بشقيه النواب والشيوخ. 

يعمل اللوبي الصهيوني أيضاً بأساليب غير مباشرة بهدف توجيه الرأي العام وتشكيل مزاج الشارع الأميركي من خلال قنوات الإعلام بما يُعرف بـ"الإعلام الرسمي الأميركي - Mainstream Media"، إضافةً إلى الجهود البحثيّة طويلة الأمد والمساهمات في الحياة الأكاديمية والمجتمعية الأميركية.

متظاهرون يشاركون في وقفة احتجاجية أمام مقر لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك) في واشنطن، في 13 مارس/آذار 2024، بعد يوم واحد من اختتام مجموعة الضغط المؤيدة لإسرائيل مؤتمرها السنوي. (تصوير: جلال غونيس/الأناضول)

إذا ما أخذنا "إيباك" مثالاً، فاللجنة تعمل على عقد مؤتمرٍ سنويٍّ ضخم للساسة الأميركيين، وتنظيم الفعاليات الشعبيّة في مختلف الدوائر الانتخابية لتعريف الناخبين على برامج المرشحين وكيفية خدمتها للمصالح الإسرائيلية، وتنظيم رحلات "ودّية" للمشرّعين الأميركيين إلى "إسرائيل". كل هذا وهي تدّعي أنها لا تموّل حملات الانتخاب ومعسكرات الناخبين. بينما تنفق اللجنة بالفعل مبالغ طائلة لحشد الضغط فيما يتعلق بالقضايا المتعلقة بـ"إسرائيل"؛ فقد بلغ مقدار ما أنفقته اللجنة عام 2018 وحده، والذي كان عاماً حاسماً للوبي في ظل رئاسة ترمب، قرابة 3.5 مليون دولار متفوقة بذلك على بقية منظمات اللوبي بفروق مريحة، إذ تلاها "اتحاد الفعل الإسرائيلي - الأميركي" بإنفاق ما يقارب 550 ألف دولار أميركي. 

إلا أن الحال تغيّر عام 2021؛ فقد أطلقت "إيباك" مشروع "ديمقراطيون متحدون" كلجنة عمل سياسي تموّل الحملات الانتخابية بدون حدود، شريطة أن لا تتبرع مباشرة للمرشح نفسه، ما يعني انخراطها بشكلٍ مباشر في الدعاية والدعم وحشد الأصوات وتقويض معسكرات الانتخاب المقابلة. وقد جاء هذا التغير في عمل "إيباك" مع إظهار استطلاعات رأي تغيراً في التأييد الأميركي خاصة بين فئة الشباب والمجتمعات اليهودية، لتصبح أكثر تعاطفاً مع القضية الفلسطينيّة، الأمر الذي زادت حدته بشكل واضح مع الحرب الحالية. 

التحالف مع الشيطان

قدّم اللوبي الصهيونيّ دعماً ضخماً للانتخابات التشريعيّة الأميركيّة عام 2018، وذلك رغبةً في خلق أريحية تشريعيّة مساندة للإدارة الأميركية الموالية للصهاينة آنذاك تحت قيادة دونالد ترمب. وقد بلغ الدعم المالي الذي وفرّه اللوبي حينها قرابة 14.8 مليار دولار أميركي. 

لكن المفاجئ لكثيرين أن أغلب الدعم المالي والسياسي للوبي يتوجه لمرشحين ديمقراطيين وليس للجمهوريين. فقد أظهر تحقيق نشره موقع "Open Secrets" المعروف بتتبع حركة الأموال في عالم السياسة، أن أغلب الدعم المالي المقدم في معرض الانتخابات التشريعية والرئاسية بين عامي 1990-2024 والذي تقدّمه أبرز عشر مؤسسات للوبي الصهيوني، يذهب لمرشحين ديمقراطيين، لا جمهوريين. 

وقد تبيّن أنّ السيناتور الديمقراطي روبرت مينيندز، والذي شغل فيما بعد منصباً رفيعاً في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، تلقى أكبر دعمٍ ماليٍ من اللوبي خلال انتخابات 2018 بواقع 546.507 دولار أميركي، وتلاه السيناتور الجمهوري تيد كروز بمبلغ 349.437 دولار أميركي. 

وقد أظهر التحقيق الذي نشرته صحيفة "الغارديان" حول أصول شبكات الأموال الضخمة التي يضخها اللوبي لتوجيه سير الانتخابات أن معظمها يأتي من أثرياء جمهوريين يحاولون شراء معارضيهم من الحزب الديمقراطي، خاصّةً في الانتخابات التمهيدية التي تسبق خوض مضمار انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر العامة. 

كله يهون لأجل عيون "إسرائيل"

لا يتوانى اللوبي عن دعم أكثر المرشحين تطرفاً وشبهةً في الملفات الأخلاقية والقانونية طالما ضَمِنَ ذلك دعماً غير مشروط لـ"إسرائيل". وقد كالت حركات ومنظمات يهودية أميركية مناهضة للاحتلال الاتهامات مراراً لسياسة اللوبي بتبني حملات انتخابية محافظة ذات نعرات طائفية وتمييزية عرقية تكيل العداء لليهود الأميركيين، وتساهم في نشر معاداة السامية بين أنصارها، فقط لضمان تمرير سياساته في الكونغرس وتوفير دعم غير مشروط لسياسات "إسرائيل" الإبادية في الأراضي المحتلة. 

وفي مقابل هذا التوجه، حاولت بعض شخصيات اللوبي الصهيوني الترويج لتبني ثقافة ديمقراطية تعددية؛ فقد عرف عن "إيباك" مثلاً دعمها لمرشحي الحزب الديمقراطي عادةً. إلا أن الإحراج المتلاحق لـ"إسرائيل" وسياساتها في الأروقة الأميركية، والتعاطف المتزايد مع الفلسطينيين بين أعضاء الحزب الديمقراطي، دفع "إيباك" للتحالف مع مرشحين جمهوريين متطرفين، مبررةً ذلك بالقول إن الوضع الذي فيه "إسرائيل" لا يتيح لها أن تكون انتقائية فيمن تدعمه، وأنه من الآن فصاعداً لن يكون للوبي معيار اختيار آخر غير الدعم المطلق لـ"إسرائيل".  

ففي الانتخابات التشريعية النصفية التي عُقدت 2022، دعم اللوبي مئات الأسماء التشريعية الموالية لـ"إسرائيل"؛ كان من بينها 37 مرشحاً جمهورياً محسوباً على اليمين المتطرف ومؤيداً للرئيس السابق دونالد ترمب، ممن يعرف عنهم أنهم ذوي ميول عنيفة وعنصرية، ومنهم جوش هولي، ورون جنسون، وريك سكوت. أثار هذا الدعم سخط اليهود الأميركيين الذين اتهموا اللوبي وعلى رأسه "إيباك"، "بالذهاب بعيداً" في سبيل تنفيذ أجندتها مُخاطِرةً بمصالح اليهود وسلامتهم. 

النقد يعلو أيضاً

في الوقت الذي يحاول فيه اللوبي الصهيوني اللعب على وتر المشاركة المنصفة في الحياة السياسية كحق طبيعي للمجتمعات اليهودية وحاملي الفكر الصهيوني في الولايات المتحدة، واتهام من يسائل طبيعة عمله بمعاداة السامية ومخالفة الحقوق الدستورية، تعلو الأصوات المنتقدة لتدخلات اللوبي في توجيه السياسة الخارجية الأميركية باتجاه ارتكاب الفظائع وانتهاكات حقوق الإنسان بما يخالف مصلحة الولايات المتحدة في الخارج. 

فالدائرة المغلقة للساسة الأميركيين تدرك أكثر من غيرها خطر اللوبي الصهيوني على المصالح الأميركية؛ وقد رفع أكثر من مسؤول صوته بالشكوى حول الدور الذي يلعبه اللوبي الصهيوني في حشد العداء للولايات المتحدة في الخارج والعمل ضد مصلحتها منذ منتصف القرن الماضي. ففي رسالة وجهها مستشار الأمن القومي إزبجنيو بريزيزينسكي، للرئيس الأميركي آنذاك جيمي كارتر، وضّح التغيير الملحوظ الذي فرضه اللوبي الصهيوني على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. وفقاً للمستشار، نجح اللوبي في دفع الإدارة الأميركية من موقع الوسيط المحايد إلى حدٍ ما والباحث عن مصلحته إلى دور الوسيط النائب عن "إسرائيل" والمتبني بالكلية لموقفها، وما جرّه ذلك من خطرٍ على المصالح الأميركية وتعريضها لهجمات انتقامية.

غير أن اللوبي الصهيوني نجح عبر العقود بتحصين نفسه من الانتقاد؛ إذ يُعدّ التحدث عن دوره نقطةً ساخنةً في السياسة والإعلام الأميركييْن، وتُشرَع في وجهه كافة جهود الإسكات والتهديد والتباكي. فعقب نشر الأكاديميَين الأميركيَيْن  المعروفَين جون ميرشيمر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاجو، وستيفين والت، أستاذ الحوكمة في جامعة هارفارد، عام 2006، كتاباً بعنوان "اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية"، وجّها فيه أصابع الاتهام للوبي بإفساد العلاقات الأميركية - العربية، وإيقاع الشرق الأوسط في مستنقع من العنف والفساد وتعريض المصالح الأميركية في الخارج للخطر؛ واجه الكتاب موجة عارمة من الانتقادات والهجوم على كافة المستويات. وما زال هذا الهجوم مستمراً على كل من تسول له نفسه مجرد طرح التساؤلات عن مدى تأثير اللوبي في أروقة السياسة وصنع القرار في واشنطن. 

غلاف كتاب "اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية"، للأكاديميَين الأميركيَيْن المعروفَين جون ميرشيمر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاجو، وستيفين والت، أستاذ الحوكمة في جامعة هارفارد.

وعليه فقد شهد العقد الأخير تصاعداً في الدور المشبوه الذي يلعبه اللوبي الصهيوني وما يرافقه من توظيف غير أخلاقي في حده الأدنى لشبكات المصالح والأموال، وتزايداً في النقد الموجه له. إذ توجه الشارع الأمريكي الرافض لدور اللوبي لتنظيم نفسه مع كل انتخابات أميركية رئاسية أو نصفية، لمناهضة الأجندة التي يحاول اللوبي فرضها. يعمل هذا التيار المناهض للوبي على دعم مرشحين موالين له ودعم أسماء يحاول اللوبي هزيمتها، رغم الفرق الشاسع في الميزانيات والقدرات اللوجستية والدبلوماسية والسياسية. 

اكتسبت اللعبة زخماً مضاعفاً مع انطلاق حرب الإبادة الإسرائيلية في القطاع منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي؛ فقد اتخذ نقد وحصار اللوبي شكلاً أكثر تنظيماً بين مؤسسات المجتمع المدني والقوى الشعبية والمنظمات العاملة في مجال الحق الفلسطيني على الأراضي الأميركية. ففي حملة مشتركة، أطلقت عشرات المنظمات الأميركية وعلى رأسها المنظمات اليهودية المناهضة لـ"إسرائيل"، مثل: "أصوات يهودية من أجل السلام"، وحركة "إن لم يكن الآن"؛ رفضاً مشتركاً لدور "إيباك" كممثل رئيس للوبي الصهيوني في الانتخابات الأميركية وأروقة السياسة الخارجية عامةً. وقد راهنت هذه المنظمات على الوعي الشعبي المتنامي في دعم المرشحين المناوئين لسياسات "إسرائيل"، والذين يسعى اللوبي حثيثاً لإسقاطهم من السباق الانتخابي؛ داعيةً الجمهور الأميركي للتصويت بغزارة لتلك الأسماء، وعلى رأسها رشيدة طليب وإلهام عمر وجمال باومان وسمر لي وكوري بوش وغيرهم.

"يهود من أجل جمال"، حملة لتنظيم اليهود في أمريكا دعماً لجمال بومان، مرشح الكونجرس لعام 2020 من منطقة نيويورك 16.
"يهود من أجل جمال"، حملة لتنظيم اليهود في أمريكا دعماً لجمال بومان، مرشح الكونجرس لعام 2020 من منطقة نيويورك 16.

 

أثر الطوفان

دفعت الأحداث المتسارعة بعد سقوط المعادلة الأمنية الإسرائيلية يوم السابع من أكتوبر وما تلاها من حرب إبادية مجنونة في القطاع وسياسات استعمارية تطهيرية في الضفة من ناحية، وخسارة مدوية لـ"إسرائيل" في أوساط الرأي العام العالمي وتراجع تأييدها بين الشعوب الغربية من ناحية أخرى؛ اللوبي لإجراء تغييرات جذرية في عمله وتكثيف جهوده والتوجه للتطرف والعنف أحياناً لتحقيق مآربه.

وقد سعى اللوبي منذ ذلك التاريخ في دهاليز الحكم والتشريع لتكثيف الدعم لـ "إسرائيل" من خلال إقرار حزم مساعدات عاجلة واستثنائية بلغت، ضمن حزمة مساعدة لأوكرانيا أيضاً، 105 مليار دولار. إضافةً إلى صفقات الأسلحة التي بلغ عددها أكثر من 100 صفقة تضمنت أسلحة وقذائف فتاكة ومعدات دفاعية واستخباراتية، بلغت القيمة المعروفة للجمهور لصفقتين منها فقط مقدار 250 مليون دولار. 

وفي المقابل، شدّد اللوبي من قبضته على الإدارة الأميركية؛ فقد تعرضّت إدارة بايدن لضغط شديد من جماعات اللوبي إثر التجميد المؤقت لحزمة الأسحلة الفتّاكة التي تخوفت الإدارة من استخدامها في رفح أيار/ مايو الماضي.

من ناحية أخرى، شهد اللوبي توسيعاً لنشاطه المالي المباشر في الانتخابات التمهيدية الأميركية. وقد تلقت جماعات اللوبي تبرعات ومساهمات مالية طائلة بعد السابع من أكتوبر، بلغت حتى شباط/ فبراير الماضي 90 مليون دولار إضافية، مكّنتها من توسيع رقعة نشاطها وإنفاقها؛ فضاعفت من إنفاقها لدعم المرشحين المؤيدين لـ"إسرائيل". على سبيل المثال، كانت "إيباك" قد أنفقت مبلغ 17 مليون دولار في الانتخابات النصفية عام 2022، بينما بلغ مقدار ما أنفقت حتى اللحظة على الانتخابات القادمة 23.4 مليون دولار. 

كما توسّع اللوبي في نشاطه القمعي للأصوات التي تنادي بإيقاع العقوبات على "إسرائيل" أو تقييد المساعدات الأميركية لها أو حتى المنادية بوقف إطلاق النار في القطاع، مستخدماً الترهيب المبطن كالتهديد بالإقصاء من الحياة السياسية والمعترك العام من خلال تمويل حملات انتخابية مناوئة. بينما لجأ في أحيانٍ أخرى للتهديد المباشر والسعي بالضغط الفعلي على المناوئين لـ"إسرائيل"؛ فقد نجح اللوبي بتلفيق تهم معاداة السامية لعدد من المرشحين أثّرت على حظوظهم في الانتخابات التمهيدية؛ فعلى سبيل المثال تكبد جمال باومان، المرشح الديمقراطي التقدمي عن ولاية نيويورك، هزيمة في الانتخابات التمهيدية الحالية بعد أن دفع اللوبي كامل قوته باتجاه إقصائه وتشويه سمعته لموقفه المناوئ لحرب الإبادة في القطاع. 

ختاماً، يشمر اللوبي عن ساعديه مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل. وهي انتخابات مفصلية للحزبين وسياساتهما الداخلية والخارجية على السواء، وتأتي في وقت حرج للغاية للولايات المتحدة وحليفتها "إسرائيل". وقد كشفت صحيفة "الغارديان" عن نية "إيباك" لوحدها إنفاق قرابة مئة مليون دولار لإسقاط مرشحين ديمقراطيين ترى دعمهم "غير كافٍ لإسرائيل"، في إشارة إلى الممثلين التشريعيين التقدميين الذين رفعوا أصواتهم في انتقاد "إسرائيل" والذين طالبوا بوقف إطلاق النار مراراً في الكونجرس.

وعلى الجانب الآخر، تزداد لعبة الاستقطاب والتنظيم الشبابي ومعركة الوعي استعاراً بين مناهضي اللوبي الصهيوني بخلفياتهم وأصولهم المتنوعة، كما يزداد تأثيرهم في الشارع الأميركي الذي بات أكثر تعاطفاً مع الفلسطيني ورفضاً لدور اللوبي، بينما ينتظر سباقاً انتخابياً دامياً خلال أشهر معدودة قد يغير الكثير داخلياً وخارجياً.



16 سبتمبر 2020
مخطط "برافر" باقٍ ويتمدد

في العام 2013 شهدت فلسطين احتجاجات عارمة ضدّ مخطط "برافر". وأدّت هذه الاحتجاجات، التي اعتُقل وجُرح فيها العشرات، إلى إلغاء…