بملامح مرتبكةٍ، ردّ على الهاتف: "آه يا حبيبي وين أنت؟ آخر الجلاء، طيب لا تقرب عند شارع الصفطاوي". أنهى سائق الأجرة أبو محمد الهسي المكالمة، ونظر إلى ركاب سيارته عبر مرآته الصغيرة المتدلية من سقف السيارة، وقال: "هذي حالنا معهم... مطاردات، تقول أنا وابني حرامية، مش بنحفر الشوارع لنجيب خبزنا". أنهى حديثه: "الدنيا أول الشهر؛ بدهم يسترزقوا من هالشعب المفلس".
في تلك المكالمة القصيرة قبل أشهر، حذّر أبو محمد ابنه، الذي يعمل سائقاً أيضاً، من الاقتراب من شارع الصفطاوي الواصل بين منطقة الجلاء غرب محافظة جباليا في قطاع غزّة، إذْ كان عناصر شرطة المرور ينتشرون في الشارع، "يتصيّدون"- حد وصفه – مرتكبي المخالفات المروريَّة، وأيَّ تجاوزاتٍ بشأنِ رخصِ السائقين وسياراتهم. يقول أبو محمد إنّ قيمةَ أيٍّ من هذه المخالفات المرورية تساوي مصروفَ عائلته ليوميْن. سلك طريقاً التفافيّاً للوصول إلى ميدان الجلاء، ليتجنب المرورَ بحملةِ التفتيش.
بعد 14 عاماً من الحصار الإسرائيليِّ المُطبِق، تحوّل قطاع غزة الذي يسكنه ما يقارب مليوني نسمة، إلى مساحةٍ مُنهِكةٍ معيشيّاً ومُستنزفَة اقتصاديّاً، بنسبةِ فقرٍ تتجاوز الـ54%. ومع تزايد أعداد المُعطّلين عن العمل- أبرزهم خريجو الجامعات- تحوّلت مهنة السياقة إلى أحد المشاريع الاقتصاديّة الممكنة في غزة. في الرُبع الثالث من عام 2019، وصلت نسبة البطالة في قطاع غزّة إلى 45%، بينما وصلت النسبة بين الشباب الحاصلين على شهاداتٍ جامعيّة إلى 77%.
"الخط"... حتى لا يقتلك الجوع
في السنواتِ الخمسِ الأخيرة، تحوّلت مهنة سياقة سيارات التكسي في غزّة، إلى ملاذٍ للمُعطّلين عن العمل. يجد غالبيتُهم في هذه المهنة، أو "الشغل عَ الخط" وفقاً للتسمية الشعبية، مصدراً يوفر الحدَّ الأدنى من متطلباتهم الماديّة، ولا يتطلّب إجراءاتٍ معقدةً للالتحاق به.
يشتري المقتدرون مالياً سيّاراتهم الخاصّة، بينما يعمل القسم الآخر بنظام الأجرة اليوميّة لدى ملّاك السيارات. والأخير هو الخيار الأول للخريجين الباحثين عن مصدر رزقٍ مؤقت إلى حين "حلحلة الأوضاع الاقتصاديّة"، أو حدثٍ ينجيهم من وحل الأزمات، مثل "هجرة مضمونة، إلى بلاد الله الواسعة"، كما قال أحد السائقين.
رهان خاسر بأمر حكوميّ
في ظلّ إقبال الغزيّين على مهنة السياقة، بدا أنّ حكومة غزّة وبدلاً من تقديم إعفاءات أو خصم ضرائب الترخيص، وجدت فرصةً للجباية. إجمالاً، يدفع السائق في إجراءات الترخيص الحكوميّة ما يزيد عن 1,000 دولار سنويّاً، وهي تكاليف باهظة قياساً بظروف القطاع، إذ يبلغ معدل دخل الفرد الواحد في غزّة 800 دولار أميركيّ سنوياً.
بالتفصيل؛ يدفع السائقون لتجديد رخصة السيارة العمومي/الداخلي بين 800-1400 شيكل، حسب نوع السيارة، وضريبة الدخل السنويَّة بقيمة تبدأ من 50 شيكلاً، وقد تصل إلى 300 شيكل، وفقاً لنوع السيارة. إضافةً إلى بطاقة السائق، التي تُجدَّد كلّ 6 أشهر بقيمة 250 شيكلاً، يُضاف إلى ذلك الفحص نصف السنويّ لأداء السيارة بتكلفة 150 شيكلاً.
فرضت حكومة غزّة جزءاً من هذه التكاليف خلال السنوات الأخيرة، مثل ضريبة الدخل ونظام بطاقة السائق، التي لم تكن مفروضة في السابق. وقد أعلنت وزارتا المواصلات والمالية في غزّة هذه الإجراءات في وقتٍ ادّعت فيه أنّها قدمت تسهيلات للسائقين. خفضت الحكومة قيمة الترخيص فعلاً، ولم تفرض ترخيصاً للسيارات العمومي/الخارجي، ولكن، حسب مراقبين اقتصاديين، فإنَّ ما أعلنت الحكومة تخفيضه، عوّضته بآليات جديدة كضريبة الدخل وكرت السائق والمخالفات.
مؤخراً، أعلنت وزارة النقل والمواصلات في غزة، تخفيض قيمة الرسوم المفروضة على مركبات العمومي التي تعمل على "الديزل" دون "البنزين"، ضمن إجراءات التخفيف من حدة أزمة "فيروس كورونا"على السائقين.
شمل القرار خفض "رسوم المركبات الخصوصي والعمومي (الديزل) بنسبة 29% للملاكي و50% للعمومي، بواقع 600 شيكل، لتصبح 1500 شيكل بدلاً من 2100 شيكل". وقد وصفت الوزارة هذا القرار بـ"العادل" ، إلا أنّه يبقي القيمة أكبر من ضعف قيمة ترخيص المركبات نفسها في الضفة الغربية، مع الإشارة إلى أن قرار التخفيض مرحلي، وقد يجري الرجوع عنه بعد الأزمة. كما شكّلت أزمة وباء "كورونا" تعقيداً جديداً يضاف إلى الصعوبات التي تواجه السائقين، إذ تضرر عمال التاكسي بشكلٍ كبير، بفعل تعطيل الجامعات والمدارس وقلة الحركة.
وبحسب ما كشفه مصدر في دائرة الترخيص في وزارة المواصلات في غزة في حديث مع "متراس"، تجبي الحكومة سنوياً من إجراءات الترخيص ما معدله 72 مليون شيكل.
على الجانب الأخر، لم تجرِ الحكومة تنظيماً لعمل السيارات وتدفقها إلى الشوارع. ففي شوارع غزة الضيقة 75 ألف مركبة، تسيرُ في مساحة 365 كم². وهو عدد أكبر بأضعاف ما يمكن لشوارع القطاع أن تحتويه. وقد أثّر ذلك بشكلٍ واضح على دخل السائقين اليومي، يمكن فهم هذا الأثر من عبارة واحدة تجري على ألسنة السائقين: "والله يا عمي بطل في ناس من كثر السيارات".
كمائن المخالفات: "أوعى قدامك حاجز"
بالعودة إلى السائق أبو محمد الهسي، الذي يهربُ من عيون شرطة المرور خشية مصادرة سيارته، فإن الشّرطة سحبت رخصة سيارته نهاية العام الماضي، إلى حين تجديدها. لكنه استمر في استخدامها وقيادتها. إذا ضبطته الشرطة الآن، برخصة سيارته المنتهية، ستغرمه مخالفة ماليَّة، لتجاوزه إنذار التجديد.
أما ابنه حسام، خريج الإدارة الصحيّة من جامعة القدس المفتوحة، فيعمل بنظام الأجرة اليومية، سائقاً لسيارةٍ انتهت تراخيصها، وتتراكم عليها المخالفات المروريّة بقيمة 3500 شيكل. الأمر الذي دفع مالك السيارة في نهاية المطاف إلى عرضها للبيع، لأنها حسبما وصفها الرجل "بطلت جايبة همها".
يحكي أبو محمد، عن المعاناة التي يتقاسم مرارتها مع ابنه: "ابني، إلي كنت أحرم نفسي الأكل عشان أعلمه، آخرها اشتغل معي عالخط، بنصارع الاسفلت". يُضيف، معبّراً عن صعوبة تسديد المبالغ المطلوبة: "والله بدي سنة، اشتغل بدون أكل عشان أوفرهم في هالوضع التعيس".
تقيم دوريات شرطة المرور في غزة، حواجز تعرف باسم "الحواجز الطيّارة" ويسميها السائقون بـ "الكمائن"، لأنها تنصب على غفلة في شارع ما، لضبط السائقين، غير المسددين مخالفاتهم أو من لم يجدد رخصه أو رخصة سيارته، ومن يجري ضبطه، يغرم بمخالفة أخرى.
ويصل متوسط عدد المخالفات المروريّة التي توجه للسائقين 680 ألف مخالفة، تجبي عبرها الحكومة حوالي 12 مليون شيكل سنوياً. بين الالتزامات التي يسددونها لمالك السيارة، وتكاليف الوقود، يجد السائقون أنفسهم مع 30 شيكلاً كدخلٍ يوميّ. بينما تتراوح قيمة المخالفة الواحدة بين 50 و300 شيكل.
يستطيعُ السائقون تقديم طلبِ استرحام لوزارة المواصلات، وفي مراكز شرطة المرور، يُحال بعدها إلى المحكمة، لتقرّر الأخيرة خفض قيمة المخالفة المُحرَّرة أم لا، بناءً على شهادة السائق، ومزاجيّة القاضي.
"الدولة لا تدار ببلاش"
لا تستند الحكومة في تحديد قيمة الترخيص والإجراءات الأخرى المتعلقة به إلى أساسٍ قانوني، إذ يجري تقييمها وفق إجراءٍ إداريٍّ لوزارة المواصلات أو وزارة الماليّة، ما يعني وجود مساحة كبيرة للمرونة ومراعاة الحكومة لظروف القطاع المعيشية.
قال مدير دائرة الترخيص في وزارة المواصلات في غزة، خليل الزيان، إنَّ تعاطي وزارته مع السائقين مرنٌ جداً، ومراعٍ للأوضاع الاقتصاديَّة في القطاع، ومتسّقٌ مع "إدارة الدولة". مضيفاً: "تفرض ضرائب الدخل نظير الخدمات التي تقدمها الدولة، التي لا تدار بالمجّان، وتحدد قيم المعاملات الحكومية وفق ما تراه الدولة". يتحدث الزيان بمعزلٍ عن خصوصيَّة الواقع الذي خلقه الحصار، مفترضاً أنَّ نفس المنطق الذي يحكم دولَ العالم، من الممكن تطبيقه في القطاع.
في النهاية، تحوّل مشروع سيارات الأجرة في غزة إلى مشروعٍ يؤمّن مدخولاً للحكومة. وتسمح الحكومة بالمزيد من تدفق السيارات إلى الشوارع لزيادة عائدها الماديّ. يحوّل هذا خيارَ سيّارات الأجرة إلى حصانٍ خاسرٍ، فينتهي "عملك وعمل سيّارتك" في "جيب الحكومة".