24 ديسمبر 2020

رقبة البنوك الإماراتيّة سدادة لبنوك "إسرائيل"

رقبة البنوك الإماراتيّة سدادة لبنوك "إسرائيل"

على عكس اتفاقيات التطبيع السّابقة بين الدول العربيّة والاحتلال الإسرائيليّ، امتدّت اتفاقية التطبيع بينه وبين الإمارات، وبشكلٍ متسارعٍ، إلى قطاعاتٍ واسعةٍ وحيويّة، ومنها القطاع الماليّ المصرفيّ.  فمثلاً، مضى على اتفاقية كامب ديفيد 42 عاماً، وعلى اتفاقية وادي عربة 26 عاماً، إلا أنّهما لم تشهدا حتى اليوم علاقاتٍ ماليّة ومصرفيّة مُعلنةً وواسعة، رغم أنّ اتفاق التطبيع الأردنيّ ينصّ على "تعزيز التعاون الاقتصاديّ، بما في ذلك التجارة وإقامة مناطق للتجارة الحرة والاستثمار، والعمل المصرفيّ".

أما في حالة الإمارات، فبعد أقلّ من أسبوع على توقيع اتفاقية التطبيع، أو التحالف الاستراتيجي بتعبيرٍ أدق،  تهافت أكبر البنوك الإماراتيّة، بنك الإمارات دبي الوطنيّ إلى توقيع مذكرة تفاهم مع أكبر البنوك الإسرائيليّة وهو بنك لئومي (بالعربيّة: البنك الوطنيّ). أُسس هذا البنك قبل إعلان كيان الاحتلال، وذلك عام 1902 على يد أفراد من الحركة الصهيونيّة، بهدف التمهيد للاستيطان وإقامة المشاريع الصناعيّة والعمرانيّة والزراعيّة والبنية التحتيّة لتخدم المحتلين الجدد.1يعتبر بنك لئومي أكبر بنك في "إسرائيل" حسب إجمالي الأصول والتي تُقدّر بحوالي 145 مليار دولار، يستحوذ اليوم على قرابة 30% من الحصة السوقيّة من نظام "إسرائيل" المصرفيّ، وله أذرع وفروع في أكثر من 21 بلداً، منها الولايات المتحدة، ولوكسمبورغ، وسويسرا، وبريطانيا، والمكسيك، والأوروغواي، ورومانيا، والصين. وقد تفاخر نائب رئيس مجلس إدارة مصرف أبو ظبي الإسلاميّ خميس بوهارون بالقول إنّ هذه الاتفاقيات ستدعمُ الخدماتِ المصرفيّةَ للأفراد والشركات في احتياجاتهم المصرفيّة عند السّفر أو فتح الأعمال التجاريّة في البلدين.

سبقتْ هذه الاتفاقية، اتفاقيةٌ أخرى مع ثاني أكبر بنك في "إسرائيل" هو بنك هبوعليم، الذي أُسِسَ عام 1921 على يد منظمة الهستدروت الصهيونيّة (الاتحاد العام للعمال في "أرض إسرائيل")2يعتبر بنك هبوعليم ثاني أكبر بنك في "إسرائيل" حسب إجمالي الأصول والتي تقدر بحوالي 143 مليار دولار، يمتلك حصةً سوقيّةً شبيهة ببنك لئومي، إذ يتنافس معه على صدارة السّوق بشكلٍ سنويّ. يعمل بنك هبوعليم من خلال أكثر من 250 فرعاً مصرفيّاً في سبعة مراكز أعمال إقليمية، و22 فرعاً تجارياً في لندن، والولايات المتحدة، وكندا، وسويسرا، وجنيف، ولوكسمبورغ، وأميركا الجنوبية.. وتُعدُّ هذه الاتفاقية، الأولى من نوعها بين الجانبين، وتندرج في إطار بدء العلاقات الماليّة والاقتصاديّة بين طرفي التحالف.

على الصعيد الماليّ أيضاً، أعلنت بورصة تل أبيب في أكتوبر/تشرين الأول الماضي أنّها أطلقت محادثاتٍ مع سوق أبو ظبي للأوراق الماليّة، لبحث التعاون المحتمل بينهما. وأعلنت بورصة دبي للماس توقيع مذكرة تفاهم مع نظيرتها الإسرائيلية بهدف تعزيز فرص التجارة الثنائية والابتكار في صناعة الماس. ووفق بيانات البورصة، تجاوزت القيمة الإجماليّة للماس الخام والمصقول المتداولة في دبي خلال العام الماضي 84 مليار درهم (23 مليار دولار).

ورغم أنّ التعاونَ الماليّ ركيزةٌ أساسيّةٌ في بناء التحالفات، إلا أنّه من المعروف أيضاً أنّ المصارفَ تحرِصُ على عدم التوسع أو إبرام الاتفاقيات السّريعة دون دراساتٍ مُوّسعةٍ أو تقييماتٍ مُتعمقة. إلا أنّ السرعة في توقيع هذه الاتفاقيات، والتي استغرقت أقلّ من أربعة أيام منذ توقيع اتفاقية التطبيع، تبعثُ على التساؤل عن دوافع الهرولة الإماراتيّة نحو المصارف الإسرائيليّة، إذ لا يمكن اعتبار تلك الاتفاقيات عبثيةً، أو أنّها مجرد تسهيل للمعاملات التجاريّة والاستثماريّة كما يتداول إعلامياً. من الواضح أن هناك العديد من الأبعاد الماليّة والسياسيّة تقف في الظل وتدفع نحو هذه العلاقات السريعة، نشرح بعضها في السطور التالية.

واجهة "بلدية تل أبيب" تَضيء بألوان علم الإمارات عشية الإعلان عن تطبيع العلاقات بين الإمارات ودولة الاحتلال. 13 أغسطس/آب 2020، AFP.

حبلَ نجاة لبنوك "إسرائيل"

بعيداً عن التكهنات في الدوافع فإنّ تدقيقاً في أوضاع البنوك الإسرائيليّة المذكورة سيُشيرُ للفوائد التي ستجنيها من تدفق السّيولة ورؤوس الأموال الإماراتيّة. على سبيل المثال واجه بنك هبوعليم مؤخراً خساراتٍ كبيرةً بسبب تغير أسعار أصولهِ الماليّة الُمسعّرة سوقيّاً، أي الأصول المتداولة في البورصات ولها سعرٌ واضحٌ في السّوق، إذ تتميّز هذه الأصول بعدم إمكانية معالجةِ الخسائرِ المترتبة عليها عبر الإطفاء أو التحايل كما في حالة الأصول غير الُمسعّرة سوقيّاً، أي تلك التي لا يتم تداولها في البورصة وليس لها سعرٌ محددٌ في السّوق، وبالتالي تتم معالجتها  أو تسعيرها كما تراه الشّركة ملائماً.

ورغم أنّ الأوضاع الحالية لا تشي بأن البنك يواجهُ ما يهدِّدُ قدرتَه على الاستمرار وأداءِ أعمالِهِ، لكنّه بالتأكيد ليس في أفضلِ أحوالِهِ ويواجِهُ تحدّياتٍ جمّة قد تهددّه إذا استمرت خسائرُه الحالية أو تعمّقت. ويمكن القول إنّ أوضاعَ البنك وسيولتَه الماليّةَ غيرُ كافيةٍ لمواجهة سيناريو سحب نسبةٍ من المودعين أموالَهم، أو سيناريو موجةِ هلعٍ مصرفيّ3هلع مصرفي: توّجه عددٍ كبيرٍ من المودعين في بنك معيّن لسحب ودائعهم عند حدوث أزمةٍ ماليّة عامّة أو مواجهة البنك لمشاكل مالية وخسائر حادّة.،  وهكذا سيستفيد البنك الإسرائيليُّ من تدفق الأموال الإماراتيّةِ المتوقع في تعويض نزيف السّيولة المترتب على خسائره المخفية.

ولا تقتصر التدفقات النقديّة الإماراتيّة الُمتوقَعة على الاستثمار المباشر للبنوك الإماراتيّة في نظيراتها الإسرائيليّة عبر القروضِ والودائع وباقي الأدوات المالّية الاعتياديّة، بل إنّه من الُمرجح أنّ تُمرِّر الشركاتُ الإماراتيّة أموالَ استثماراتِها المستقبليّة في القطاعات الاقتصاديّة المختلفة للاحتلال من خلال البنوك الإسرائيليّة التي وُقِّعت معها اتفاقات التعاون، مما سيعني سيولةً وأرباحاً على العمليات الماليّة لهذه البنوك بطبيعة الحال.

أما بنك لئومي فيبدو أنّه أضعف من سابقه وأكثرُ حاجةً للسيولة، إذ أنّ نسبة كفاية رأس المال لديه منخفضة، وهي القيمة التي تعبّر عن حجم استثمارات البنك مقارنةً بحجم رأس ماله، والبالغة 14.36، أي أنّ استثماراتِ البنك أكبرُ من رأسِ مالِه قرابة 14 ضعفاً، يعني ذلك أنّ البنك معرضٌ لخسارة أكثر من رأس ماله بكثير في حال استمرار تدهور الأوضاع الاقتصاديّة، خصوصاً بعد خسارة أسواق الأسهم إذ من المتوقع أن يُسجِّلَ البنك للعام الحالي خسائر تتراوح بين 200- 300 مليون شيكل، بالإضافة إلى احتجازه لأرباح تقدر بحوالي 700 مليون شيكل في محاولة لمواجهة الأزمة التي يمرّ بها، والتي يرجع جزءٌ منها لتبعات جائحة كورونا. تُهدّد هذه الخسائر - في ظلّ ضعف رأس المال- بتآكل البنك، ومن هنا تأتي أهميّةُ تدفقِ الأموال والاستثمارات والودائع الإماراتيّة المرتقبة كحصانةٍ إضافيّةٍ للبنوك الإسرائيليّة، خاصّة في ظلّ استمرار الأزمة الاقتصاديّة.

يداً بيد لمحاصرة أعداء "إسرائيل"

بعد توقيع اتفاقيّة التطبيع الإسرائيليّ الإماراتيّ صرّح مندوبُ الاحتلال في الأمم المتحدة داني دانون بأنّه يأمل أن تؤدّي الاتفاقيّةُ الجديدة إلى استهداف وقمع تمويل إيران لحلفائها في المنطقة. هكذا وبكلّ وضوح يتوقع الاحتلالُ أن يساهمَ الاتفاقُ مع الإمارات في محاصرة تدفق الأموال الى أعداء "إسرائيل" وخصومها، وهو ما نصّت عليه الاتفاقيّة في إحدى بنودها بـ"منع تمويل أي أعمال إرهابيّة"، وهو الذي سيعني مزيداً من الضّبط والرقابة للتبرعات والحوالات الماليّة من الأفراد والشركات. كما يُمكن أن يقودَ بطبيعة الحال لمزيدٍ من الحصار حتى  على السُّلطة الفلسطينيّة نفسها، إذ يُصنِّف الاحتلال بعضَ أنشطة السُّلطة كرواتب الأسرى ومخصصات عائلات الشهداء ضمن خانة دعم "الإرهاب"، ناهيك عن تسهيل عمليات تمويل حلفاء "إسرائيل" أو عملياتها في المنطقة.

اقرؤوا المزيد: ""إسرائيل"- الإمارات وبالعكس.. تحالف ضدّ من؟"

يُعزِّزُ هذا الأمرَ ما أظهرته وثائق FinCEN، من تورط كلٍّ من بنك دبي الوطنيّ وأبو ظبي الإسلامي في فضيحة البنوك وغسيل الأموال التي كشف فيها عن تورط بنوك عالميّة في تسهيل نقل أموال لصالح عالم الجريمة، ويدعم هذا سمعةُ مدينة دبي كعاصمة غسيل الأموال. تُقدّم هذه المعطيات خدمةً مُزدوجةً للاحتلال، فمن جهةٍ سيُتِيح لأجهزة أمن الاحتلال رقابةً أشدّ ووصولاً أكبر لشبكات التمويل المرتبطة بخصومِها وأعدائها، مستفيدةً من اتفاقيات التعاون والشراكة مع أهم البنوك الإماراتيّة التي عادةً ما تُشكّلُ قناةً لهذه الشبكات. ومن جهةٍ أخرى، يُسهّل عليها الاستفادةَ من المساحة المتاحة لإنشاء وتوسيع عمليات غسيل أموال وشبكات تهريب في خدمة أعمالها المختلفة، وتسهيل تمويل عملياتِها في المنطقة العربيّة. 

ومما يُعزّز هذا الافتراضَ أيضاً تورطُ شركاتٍ رسميّةٍ مملوكة للاحتلال في عملياتِ فساد ورشاوٍ حسب وثائق FinCEN تُقدّر بحوالي 769 مليون دولار. بالإضافة إلى توّرط بعض البنوك الإسرائيليّة مثل بنك هبوعليم في عمليات تهرّب ضريبيّ وقضايا فساد ورشاوٍ متعلقة بالفيفا، الأمر الذي كلّفها قرابة 904.3 مليون دولار .

هكذا تتضح ملامح العائدات الماليّة والاقتصاديّة الجمّة التي سيجنيها الاحتلال من خلال تدفق الأموال والاستثمارات الإماراتيّة كنتيجة لاتفاقيات التطبيع، إذ يبدو اقتصاد الاحتلال كثقبٍ أسود قادرٍ على ابتلاع المزيد من الأموال والاستثمارات وتعويض خسائره والخروج من أزماته. 

اقرؤوا المزيد: "الحرب على رواتب الأسرى.. القصة أكبر من حسابات بنكيّة!"

والأدهى أن ذلك يتقاطع مع أهداف الاحتلال ورؤيته الاستعماريّة وتعزيز سيطرته على بلادنا، وتثبيت نفسه كشريك اقتصاديّ محتمل وقويّ في المنطقة، ولكن بتمويلٍ عربيّ هذه المرة. إذ لن يكون مستغرباً أن نشهد عمليات تمويل استيطانيّة مباشرة تشرف عليها البنوك الإماراتية، إذ سبق لنظرائهم الإسرائيليين، بنك هبوعليم وبنك لئومي - الإشراف المباشر على عمليات الاستيطان من خلال الإسهام في تمويل وبناء المستوطنات وتمكين المجالس المحليّة الإسرائيليّة من توسيع المستوطنات. وعلى سبيل المثال، أعلنت نائبة رئيس بلدية الاحتلال في القدس بعد زيارتها للإمارات أنّها بحثت تمويل الإمارات لمشروعٍ استثماريّ استيطانيّ في القدس المحتلة يُعرَف بـ”وادي السيليكون” بقيمة تتراوح بين 600-700 مليون دولار، وهو المشروع الذي يُروج له كمصدر تشغيل لفلسطينيّ القدس، ويهدف لتعزيز سيطرة "إسرائيل" على أهالي القدس عبر دمجهم باقتصادها.