عادت قضية جيفري إبستين الشهيرة لتطفو على السطح في حزيران/ يونيو 2025، حين أصدرت وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالية مذكرة ينكران فيها وجود أدلة تشير إلى قائمة شخصيات تعرضت للابتزاز من شبكة إبستين للدعارة والاتجار بالبشر. أثارت المذكرة غضباً رسمياً وشعبياً عارما، خاصة في ظل تورط الرئيس الأميركي دونالد ترامب في علاقة مباشرة مع إبستين، ما يشير إلى نيّة مبيتة لإخفاء الأدلة والتستر على ما يمكن أن يشكّل فضيحة مدوية لترامب ودائرته المقربة.
لا تخلو القضية، لطبيعتها الحساسة وألمعية الأسماء الضالعة فيها من كبار سياسيي العالم وعسكرييه وأثريائه، إضافة إلى كوكبة من الإعلاميين والحقوقيين والشخصيات المتنفذة؛ من المبالغات والتكهنات لتكون موضوعاً لنميمة المساء والصحافة الصفراء وجماعات نظرية المؤامرة، غير أن طبيعة الحراك وحجمه في الولايات المتحدة يجعلان من المهم متابعة القضية وربط خيوطها، خاصة تلك المتعلقة بشخصيات إسرائيلية رسمية وبعلاقة الموساد المزعومة بتسيير أعمال الشبكة، وما إذا كانت فعلاً تهدف إلى تسيير سياسات العالم وخدمة مصالح "إسرائيل" بالدرجة الأولى.
فما قضية إبستين؟ ولِمَ عادت للظهور الآن؟ من أين جاءت شبهات ارتباطها بالموساد الإسرائيلي؟ وما الأسماء والصلات التي تؤيد تلك النظرية؟ وأي مؤشرٍ يحمله التحول المفاجئ في الأصوات المنادية بالتحقيق في تلك الصلة؟ وما الذي قد يعنيه ذلك لـ "إسرائيل"؟ يحاول هذا المقال الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها في هذه القضية الشائكة التي ما زالت تختبئ جلّ تفاصيلها في الظل حتى لحظة كتابة المقال.
تعويذة إبستين
القضية باختصار تدور حول إنشاء الشخصية المالية الأميركية جيفري إبستين ومرافقته جيلين ماكسويل، شبكة دعارة واتجار بالبشر تتضمن فتيات قاصرات، يقدمن خدمات جنسية لأثرياء وسياسيين وكبار شخصيات العالم بمقابل مادي، في مدة أقلها بين عامي 2002 و2005، بينما تشير تقديرات أخرى إلى فترة زمنية أطول وأبعد من ذلك بكثير، بدأت في ثمانينيات القرن الماضي في منهاتن وجزر أميركية أخرى.
وقد ألقي القبض على إبستين عقب شكوى تقدمت بها عائلة إحدى ضحاياه عام 2005 قبل أن تُعقد صفقة مشبوهة مع مكتب التحقيقات الفيدرالي بقيادة أليكس أكوستا أفضت إلى إطلاق سراح إبستين بعد فترة بسيطة من احتجازه.
عادت القضية للظهور مرة أخرى عام 2018 بعد نشر سلسلة تحقيقات صحفية عن ملابسات صفقة إطلاق سراح إبستين وإمكانية تورط مكتب التحقيقات الفيدرالية في شبكة جريمة منظمة؛ ليتم القبض على إبستين وصديقته ماكسويل، وتبدأ بعدها سلسلة إجراءات قانونية رافقتها فضائح مدوية في الإعلام الأميركي لم تتوقف حتى مع موت إبستين الغامض داخل زنزانته في منهاتن عام 2019، وإدانة مساعدته وصديقته جيلين ماكسويل عام 2021 والحكم عليها بالسجن لمدة عشرين عاماً.

أثارت القضية اهتمام الشارع الأميركي وحتى الرأي العام العالمي؛ إذ إن بعض الوثائق التي أفرجت عنها المحكمة تبين صلة إبستين بشخصيات بارزة في عالم السياسة والمال والترفيه وحتى الأكاديميا، من بينها دونالد ترامب، وبيل كلينتون، ومحمد بن سلمان، والأمير أندرو، وإيلون ماسك، وبيل جيتس، وريد هوفمان، وستيفن هوكينج، وعشرات آخرين، ما أطلق العنان لكل أنواع التكهنات بشأن هدف هذه الشبكة والأشخاص المسؤولين عنها.
لم يخفت الاهتمام الأميركي بالقضية رغم مرور سنوات على إدانة ماكسويل وموت شخصيتها الرئيسة إبستين؛ إذ ظلت أطراف إعلامية وسياسية عديدة تحرّك مياهها كلما ركدت لأهداف سياسية متعددة. غير أن ارتباط ترامب شخصياً بالقضية جعل منها مادة حديث الإعلام والمجتمع.
اقرؤوا المزيد: مخلّص آخر الزمان!
وقد تعهد ترامب مع بداية دورته الانتخابية الحالية بالإفراج عن وثائق مرتبطة بالقضية تزيل الغموض عن تفاصيلها، قبل أن يتراجع في حزيران/ يونيو الماضي بمذكرة لوزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالية تنفي وجود أي دليل على قائمة إبستين، وتتراجع عن إمكانية الإفراج عن الوثائق لأسباب مرتبطة بالتحقيقات وسير العملية القضائية.
ومنذ حزيران/ يونيو الماضي حتى اللحظة، ورغم جسامة الأمور التي تحدث عالمياً، لم يتوقف الشارع الأميركي عن المطالبة بالكشف عن وثائق القضية التي تحتفظ بها المحكمة ومكتب التحقيقات الفيدرالية فيما يمكن أن يشكل أكبر فضيحة سياسية في الولايات المتحدة، لجسامة التهم الموجهة، ولأهمية الأسماء المتورطة، ولاتساع شبكة المتورطين حتى بات من المعتقد أنها تتجاوز حدود الولايات المتحدة الأميركية، لتشكّل شبكة عالمية لا للدعارة وحسب، بل للابتزاز والإكراه أيضا، لتشكيل سياسات دولية بما فيها السياسات الاستعمارية في الجانب الآخر من العالم.
وشهد شهر أيلول/ سبتمبر الماضي سخونة خاصة في الأحداث، بعد تصاعد الغضب الرسمي والشعبي وتوجيه أصابع الاتهام لأجهزة الدولة من وزارات ومحاكم ومكاتب تحقيق بالتستر على إحدى أكبر الجرائم في التاريخ الأميركي المعاصر. فمن مطالبات للمحاكم برفع السرية عن وثائق الإدانة الأولية، إلى اشتباكات لفظية وتوترات بين مكتب التحقيقات الفيدرالية ومشرعين أميركيين أثناء جلسات التحقيق في الكونغرس، وصولاً إلى ضغط لجنة المتابعة في مجلس النواب على وزارة الخزينة العامة وورثة إبستين للإفراج عن مواد متعلقة بقضيته، تصدرت قضية إبستين قائمة اهتمامات الشارع الأميركي.

وقد زاد الطين بلة تحقيقٌ نشرته صحيفة نيويورك تايمز في أيلول/ سبتمبر 2025، يظهر بناء على تحليل آلاف الوثائق المرتبطة بقضية إبستين ضلوعاً مباشراً لمجموعة "جي بي مورجان" المالية ومصرفها الأميركي الأشهر تشايس في عمليات تحويل أموال طائلة تجاوزت المليار دولار أميركي على مدى 15 عاماً لإبستين.
التحقيق سكب النار على الزيت ودفع بديمقراطيي الكونغرس للمطالبة باستصدار مذكرات استدعاء لرؤساء البنوك المعنية التنفيذيين للتحقيق؛ الأمر الذي رفضته لجنة التحقيقات في مجلس النواب التي يسودها الجمهوريون، في لفتة اعتبرت مرة أخرى تضليلاً للعدالة، وتستراً على شبكات فساد إجرامية يترأسها كبار مسؤولي وأثرياء الولايات المتحدة.
مفتاح إبستين
يشير المشتبهون في علاقة إبستين بالموساد الإسرائيلي وحتى المخابرات الأميركية ذاتها إلى ما يُعرف بملفات إبستين، وهي مجموعة ضخمة من الأدلة والوثائق والأقراص المدمجة التي حصل عليها مكتب التحقيقات الفيدرالية عام 2019 لدى مداهمة منزل إبستين في منهاتن وممتلكاته الأخرى في عدة جزر أميركية، ومنها فيرجين آيلاندس. تتضمن هذه الوثائق عدة مفاتيح بشأن علاقات إبستين وزبائنه وشبكة المصالح التي كان يديرها مع شركائه، عدا عن علاقاته المالية وثروته الضخمة وشبكة المصارف التي تديرها. ويرفض مكتب التحقيقات الفيدرالية حتى اللحظة الإفراج عن هذه الملفات بحجة سير العملية القضائية.
ورغم أن مكتب التحقيقات الفيدرالية أنكر وجود أي دليل على علاقة إبستين بأجهزة مخابرات أميركية أو أجنبية، فإن التلكؤ الرسمي الأميركي في إتاحة ملفات إبستين للصحافة والعامة، غذّى نظريات المؤامرة وأكثر القصص جموحاً عن طريقة حكم العالم والتحكم في أنظمة الدول عن طريق الابتزاز. إذ بعد وعدها بالإفراج عن مزيد من الوثائق من ملفات إبستين المحفوظة لدى وزارة العدل الأميركية، تراجعت إدارة ترامب مرة أخرى عن الخطوة، مثيرة بذلك مزيدا من الشكوك حول تورط الحكومة الأميركية وشخصيات أميركية عامة بارزة في الملفات ومنهم ترامب نفسه.
وقد زاد من شكوك العامة التغير المفاجئ الذي اعترى مواقف شخصيات مهمة في مكتب التحقيقات الفيدرالية، منهم رئيس الشعبة الحالي كاش باتل، ونائبه دان بونجينو، اللذان كانا من الأصوات المنادية بالكشف عن ملفات إبستين واتهام الحكومة الأميركية بالتستر على مؤامرة رسمية بالخصوص. كان ذلك قبل أن ينضم باتل وبنجينو لإدارة ترامب ويتلقيان دعماً مالياً ضخماً من قبلها، ويتحولان فجأة للدفاع عن عدم وجود قائمة ابتزاز، وضرورة عدم الكشف عن الملفات حالياً حتى تأخذ العدالة مجراها.

كان الإعلامي الأميركي ومستشار ترامب السابق للتخطيط الاستراتيجي ستيف بانون، وهو عضو في حركة "ماجا" اليمينية المتطرفة، أول من روّج فكرة ارتباط إبستين بالمخابرات، استناداً إلى ساعات طويلة من المقابلات المسجلة بين بانون وإبستين قبيل اعتقاله عام 2019. وهي تسجيلات لم ترَ النور حتى اللحظة، لكنها وفقاً لبانون تحوي إشارات مهمة لدور إبستين المخابراتي، التي وصفها بأنها "مفتاحٌ لفهم قضية إبستين".
وقد نشرت صحيفة نيويورك بوست عام 2021 مقطعاً تشويقياً لفيلم وثائقي يتكئ على تسجيلات بانون، تحت عنوان "الوحوش: حياة إبستين بين النخبة العالمية"، غير أن الفيلم الوثائقي لم يُعرض، وما زال من غير المعلوم مدى دقة المعلومات الواردة حول دور إبستين المخابراتي في ظل اتهاماتٍ لبانون بتلقين إبستين لغايات إعلامية وهو ما ينفيه بانون نفسه.
المصدر الثاني الذي أثار شبهة ارتباط إبستين بالموساد كان عملاء الموساد أنفسهم، ففي مقابلة أجراها زيف شاليف، المنتج التنفيذي السابق لشبكة "سي بي أس نيوز" مع آري بن مانيش، المدير التنفيذي السابق لمديرية الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، اعترف مانيش أن إبستين وصديقته ماكسويل كانا يعملان فعلياً مع الاستخبارات الإسرائيلية منذ ثمانينيات القرن الماضي، وأنه التقاهما عدة مرات خلال تلك الفترة.
اسم رسمي آخر أقرّ بعلاقة إبستين بالمخابرات الأجنبية هو أليكس أكوستا؛ المدعي العام الذي منح إبستين صفقة مخففة عام 2008 سمحت له بتفادي السجن الفعلي لقاء جرائمه المتعددة. أكوستا كان مرشح ترامب لمنصب وزير العمل في فترته الرئاسية الأولى. لدى استجوابه من قبل الإدارة الأميركية للتأكد من أهليته لتولي المنصب، برز سؤال الصفقة الرديئة التي منحها لإبستين وما إذا كانت ستشكّل عائقاً أمام أهليته لتولي هذا المنصب. أكوستا أجاب فوراً: "لا، لقد قيل لي إن إبستين ينتمي للمخابرات وعليّ أن أترك الأمر". تسرّب مفاد الاستجواب إلى الصحافة الأميركية، وتولت الصحفية المخضرمة فيكتوريا وارد مهمة نشر التسريب. غير أن أكوستا نفاه عام 2020 لدى سؤاله من قبل وزارة العدل في تحقيقٍ حول ملابسات قضية إبستين.
كل الخيوط تؤدي إلى "إسرائيل"
رغم إنكار الجهات الرسمية صلة إبستين بالموساد أو أي جهة مخابراتية محلية أو أجنبية، فإنّ خطوطاً متعددة تتقاطع باتجاه وجود صلة ما بين إبستين وشخصيات إسرائيلية بارزة.
الخط الأول منها، هوية صديقة إبستين وشريكته في القضية جيلين ماكسويل التي تمضي حالياً حكماً بالسجن لمدة عشرين عاماً بتهمة الاتجار الجنسي بالقاصرات. جيلين هي ابنة عملاق عالم الأعمال البريطاني روبرت ماكسويل، الذي ارتبط بصلات وثيقة بالموساد الإسرائيلي منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى مقتله المشبوه في تسعينيات القرن في حادثة غرق بالقرب من جزر الكناري في المحيط الأطلسي.
نُقلت جثة ماكسويل إلى جبل المكبر في القدس المحتلة، حيث دُفن بحضور ثلة من شخصيات الاستخبارات الإسرائيلية، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، حينها، إسحاق شامير، الذي شكر ماكسويل على المال الذي استثمره في "إسرائيل" و"العلاقات المتعددة" التي ربط "إسرائيل" بها في الخارج.
اقرؤوا المزيد: مستوطن البيت الأبيض.. هكذا يوسع ترمب "إسرائيل"
كما أن الصحفية الاستقصائية لصحيفة ميامي، هيرالد جولي براون، صاحبة كتاب "انحراف العدالة: قصة جيفري إبستين" التي كان لها الفضل في نبش القضية، التي اجتهد المحققون الفيدراليون في دفنها عام 2008، من خلال ثلاثيتها الاستقصائية التي نشرتها في ميامي هيرالد عام 2018، صرّحت لصحيفة "تايمز أوف إسرائيل" باشتباهها بوجود صلات بين إبستين والموساد الإسرائيلي بحكم علاقته المقربة من روبرت ماكسويل الذي ثبتت صلته بالموساد.
الصلة الأخرى التي ربطت إبستين بـ"إسرائيل" كانت رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، الذي زار جزر إبستين عشرات المرات على متن طائرات خاصة، وفق تحقيقات صحفية متعددة، منها تحقيقات لصحف إسرائيلية كـ "جيروساليم بوست" التي أوردت أن باراك زار إبستين بصورة شهرية بواقع 36 مرة بين عامي 2013 و2017. كما أوردت شبكة "واي نت" الإسرائيلية أن باراك كان أحياناً يغادر ممتلكات إبستين مغطياً وجهه ليتفادى كاميرات المراقبة. كما جمعت إبستين بباراك علاقات مالية متعددة، إذ كان إبستين مستثمراً في شركات باراك ومساهماً مالياً رئيسياً فيها.

وفي عام 2015، أسس كل من إيهود باراك وإبستين شركة إسرائيلية ناشئة تحت مسمى "ريبورتي"؛ الشركة التي غيّرت اسمها إلى "كاربين" تعمل على بيع برنامجها الإلكتروني لمراكز الشرطة والطوارئ مع إمكانية تنزيل التطبيق الخاص بها للتعرف على الوجوه وتحديد المواقع بهدف المساعدة في حالات التعرض لـ"هجوم مسلح". وقد كان كل من باراك وإبستين من أكبر المستثمرين في الشركة، بينما ترأس باراك مجلس إدارتها، وهو مجلس مكون في غالبيته من رؤساء وشخصيات متنفذة في شعب الاستخبارات الإسرائيلية، بما فيها الشعبة سيئة السمعة 8200، ومن هذه الأسماء عامير إليشاي وبينشاس بوخريس وليتال ليشيم، إضافة إلى ثلة من الشخصيات المقربة من ترامب، ومنها بيتر ثيل ومايكل شيرتوف وتري ستيفينس، وقد لعب كل هؤلاء أدواراً مهمة في إدارتَي ترامب الأولى والثانية.
سياسة تُصنع في إبستين
تتعدى أصابع الاتهام، الموساد وإيهود باراك، إلى شخصيات بارزة في وكالة المخابرات الأميركية، وعلى رأسهم رئيس شعبة المخابرات الأسبق ويليام بيرنز، إضافة إلى ثلة من السياسيين الأميركيين على أعلى المستويات.
فقد نشرت الصحفية الاستقصائية ويتني ويب خلال عام 2019، تحقيقاً استقصائياً من أربعة أجزاء في موقع "مينت برس"، وهو مؤسسة إعلامية يسارية أميركية، عن علاقة إبستين بالمخابرات الأميركية والموساد، عقب "الموت المفاجئ" لإبستين في زنزانته بمنهاتن، الذي قيل بأنه انتحار، وسط تشكيك عائلي وشعبي وحتى طبي مستقل. ووفقاً للجزء الثاني من التحقيق في أسرار فترة ريجن وبدايات عمل إبستين مع الموساد والسي آي إيه؛ فإن الشبكة بدأت تتشكل في فترة فضيحة المخابرات الأميركية في ظل حكم ريجن المعروفة بـ"إيران كونترا أفير"، وهي فضيحة انطوت على بيع إدارة ريجن أسلحة لحكومة المرشد في إيران، إبان حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق، في مخالفة لقرار الكونغرس بمنع بيع الأسلحة لطهران.
في تلك الفترة، بدأت تتشكل شبكة الجريمة المنظمة التي جمعت بين تل أبيب وواشنطن، حسبما ترى ويتني ويب، وقد كان بيل كلينتون الذي شغل منصب حاكم ولاية أركانساس آنذاك من أهم الأسماء المتورطة في تمويل إبستين وجرائم مالية تشمل غسيل الأموال والتهريب، إضافة إلى الجرائم الجنسية المعروفة.

بعد أن ورط إبستين الساسة، مارس حملة ضغط سياسية على البيت الأبيض خصوصاً تعود على الأقل إلى حقبة بيل كلينتون، كما تُشير ويب في كتابها "أمة واحدة تحت الابتزاز". وقد أوردت الصحيفة البريطانية "ديلي ميل" أن إبستين زار البيت الأبيض أيام بيل كلينتون أكثر من 17 مرة برفقة نساء جميلات من دون أن تثير الصحافة الأميركية أي شبهات حول تلك الزيارات.
كما تشير في أحد تحقيقاتها إلى الضغط الذي مارسه إبستين على بيل كلينتون "الذي يدين له بواحدة"، وفقاً لإبستين، بإطلاق سراح العميل الإسرائيلي مارك ريتش، المقرب من إيهود باراك، الذي أدين بالتعامل مع إيران لمصلحة "إسرائيل" عام 1983، في مخالفة للقانون الأميركي. مارك ريتش عميل الموساد وأحد أهم الأسماء في عالم الصفقات المشبوهة وفقاً لصحيفة "هآرتس" يعد من الأسماء التي تربط إبستين بالموساد، إذ ارتبط اسم ريتش ببنك "بي سي سي آي" وجماعة "ميجا" الداعمة لـ "إسرائيل"، واستثمر مبالغ طائلة في برنامج "حق الولادة" التي توطن يهود العالم في "إسرائيل".
ليس كلينتون وحده من يبرز اسمه على قائمة إبستين، فحتى جورج بوش الابن وأوباما لم يسلما من القوائم المسربة من وثائق إبستين. إلا أنّ العلاقة الأبرز في رؤساء الولايات المتحدة، وتحاول الإدارة الأميركية التستر عليها قدر المستطاع، هي علاقة ترامب بإبستين وشبكة أعماله. إذ يرتبط ترامب نفسه بعلاقة وثيقة مع إبستين، فصرّح في مقابلة مع "نيويورك مغازين" عام 2002 بوجود صداقة وثيقة بينهما طوال 15 عاماً، حيث يجمعهما "حب النساء الجميلات". بينما ادّعى إبستين كونه صديق ترامب المقرب، وأنه أول من قدم له زوجته الحالية ميلانيا ترامب. وما زالت تفاصيل تلك العلاقة غير معروفة للعامة وتشكّل تفاصيلها المخفية ورقة رابحة في يد مناوئي ترامب.
بنك العلميات السرية
ارتبط جيفري إبستين منذ بداياته بدوائر مغلقة من المصرفيين والأثرياء الذين استثمر لهم ثرواتهم وأدار عملياتهم المالية والمصرفية، قبل أن تتحول تلك الدائرة المتنفذة إلى إحدى أكبر شبكات التمويل لأعمال إبستين. ولدى تتبع الشبكة المالية الممولة والداعمة لإبستين، يتبين أن أحد أكبر عملائه الماليين نهاية ثمانينيات القرن الماضي كان ليس ويكسنر، مالك شركة "فيكتوريا سيكريت" ومؤسس "المجموعة السرية ميجا"، وهي مجموعة مليارديرات مهمتها "الإيمان بدولة إسرائيل والتفاني لها" بحسب مؤسسيها ويكسنر وتشارلز برونفمان. وقد تبين أن ويكسنر وضع ثروته المقدرة بـ 1.4 مليار دولار حينها تحت تصرف إبستين ومنحه توكيلاً رسمياً بالتبرع وصرف الشيكات في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
لعبت "ميجا" دوراً مفصلياً في علاقات الولايات المتحدة و"إسرائيل"، وأسدت خدمات جليلة لتل أبيب من حيث التمويل واللوبي الداخلي وأعمال التجسس والابتزاز. وقد فجر تحقيق لـ "واشنطن بوست" عن علاقة حركة "ميجا" بالموساد الإسرائيلي قنبلة من العيار الثقيل في الأوساط الرسمية الأميركية. فقد استند التحقيق إلى مكالمة مسربة بين عميل موساد أميركي وتل أبيب، يشير فيها إلى حاجة "إسرائيل" إلى رسالة سرية موجهة من وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر إلى ياسر عرفات، وقد تضمنت المكالمة إشارة لحركة "ميجا" واستخدامها من قبل الموساد.
إضافة إلى ويكسنر، ارتبط إبستين بسلسلة متشابكة من الأسماء المؤيدة لـ "إسرائيل"، فمن أعلام حركة "ميجا" واللوبي اليهودي في الولايات المتحدة أيضاً رونالد لاودر، وريث مملكة التجميل "إستي لاودر" ورئيس الكونغرس اليهودي العالمي، أحد كبار المتبرعين لحزب الليكود ولبنيامين نتنياهو، وصديق حميم لدونالد ترامب والعميل الإسرائيلي روي كوهين. والأهم من هذا كله، مؤسس جامعة "أي دي سي هيرتزيليا" الإسرائيلية المرتبطة بالموساد والمخابرات الإسرائيلية.
اقرؤوا المزيد: "استير" وأخواته.. كيف يُحرّم ترامب انتقاد "إسرائيل"؟
وقد ظهر اسم لاودر في تحقيقات الشرطة الأميركية بخصوص جواز سفر نمساوي مزور تم العثور عليه في بيت إبستين في منهاتن، يحمل صورة إبستين واسماً آخر، ويشير إلى المملكة السعودية مكانَ إقامة. وقد توجهت أصابع الاتهام للاودر الذي كان يشغل منصب سفير ريجن إلى النمسا حينها.
ورغم أهمية هذه الأسماء، فإنّ أهم حلقة مالية جمعت إبستين بالموساد كانت مصرف الدين والتجارة العالمية "بي سي سي آي" المعروف بعلاقاته المشبوهة بالسي آي إيه والموساد، والذي أقر الكونغرس الأميركي بإشرافه على تمويل عمليات إرهابية وجماعات متطرفة في الخارج، وشبكة دعارة عالمية، وتورطت فيه أسماء عربية لحكام من الإمارات والمملكة السعودية، قبل أن تتم تصفيته لاحقاً عام 1991، في ظروف غامضة.

من الأسماء البارزة المرتبطة بالبنك وعملياته غير القانونية كان تاجر السلاح السعودي، عدنان خاشقجي، عم الصحفي الذي قتله النظام السعودي جمال خاشقجي. يرتبط عدنان بإقرار فيكتور أوستروفيسكي، عميل الموساد الشهير، في كتابه "عن طريق الخداع"، بعلاقات بالموساد الإسرائيلي. وقد ظهر اسم خاشقجي في عملية الاحتيال "إيران كونترا" حيث دفع ما يقارب خمسة ملايين دولار أميركي لإنجاح الصفقة بين إيران من ناحية والاستخبارات الأميركية والإسرائيلية من ناحية أخرى.
يشير عدد من التحقيقات الاستقصائية لصحفيين بارزين إلى العلاقة المريبة التي جمعت خاشقجي بإبستين، ومنهم الصحفية فيكتوريا وارد، التي أشارت في المجلة الأميركية "فينيتي فير" إلى أن خاشقجي كان عميلاً لإبستين في الفترة نفسها التي انخرط فيها في عملية "إيران كونترا". وقد جمعت الطرفين علاقةٌ متينةٌ بتاجر سلاح بريطاني معروف هو سير دوجلاس ليسي في صفقة سلاح مشبوهة للعائلة السعودية المالكة والمعروفة بـ"عملية اليمامة"، وهي واحدة من سلسلة عمليات رشوة وابتزاز لشخصيات عالمية مالكة لا يُعرف عنها إلا القليل في ظل تستر مخابراتي عالمي بالخصوص.
لسنا خدماً لـ "إسرائيل"
اتخذ الديمقراطيون من القضية، خاصة في ظل تورط ترامب وشخصيات جمهورية بارزة في علاقات علنية بإبستين قبل القبض عليه، مادة للمناكفة السياسية والتضييق على مناوئيهم في كل من الكونغرس والإدارة الأميركية الحالية. لكن الضغط تجاوز الديمقراطيين لينضم إلى صفوفهم جمهوريون يطالبون بالشفافية، والكشف عن ملابسات القضية، إضافة إلى ضغط متصاعد من ضحايا إبستين وعوائلهم الذين شكلوا بأنفسهم جماعة ضغط مرحّباً بها في بعض وسائل الإعلام ودهاليز السياسة، إذ تتجمع بشكل دوري في واشنطن العاصمة للمطالبة بالكشف عن وثائق القضية وإحقاق العدالة للضحايا وذويهم.
لكن المفاجأة كانت انضمام شخصيات مقربة من ترامب ومحسوبة على حركة "ماجا" اليمينية المتطرفة، التي تعتبر دونالد ترامب أباها الروحي، للمطالبة بالكشف عن تفاصيل القضية، وتصاعدت الأصوات بينها باتهام الموساد الإسرائيلي بالوقوف وراء شبكة إبستين.
اقرؤوا المزيد: "طوفان الأقصى" ولوبي يشمّر عن ساعديه
وأثارت أسماء بارزة في الحزب الجمهوري واليمين الأميركي المحافظ مسألة ارتباط إبستين بالموساد الإسرائيلي وعلى رأس هؤلاء جاء تشارلي كيرك، المؤثر الأميركي المحافظ الذي قُتِل أثناء إحدى جولاته التعليمية في أيلول/ سبتمبر الماضي. وقد أثار كيرك، المقرب من ترامب والصهيونية المسيحية، حفيظة الأوساط الإسرائيلية، التي وصفت تلك المزاعم بأنها "نظريات مؤامرة" تشير إلى ارتباط إبستين بالموساد الإسرائيلي.
وانضم إلى كيرك صوتٌ مؤثرٌ آخر، هو الإعلامي الجمهوري الشهير تاكر كارلسون، الذي أشار بأصابع الاتهام إلى الموساد بتجنيد إبستين، في عملية ابتزاز طالت كبار الشخصيات الأميركية وأثرت على مصالح البلاد وتوجهات سياسييها لصالح "إسرائيل".
هذه الأصوات، وإن لم تستند إلى أدلة قاطعة، تكشف عن تحوّلٍ واضح داخل الحزب الجمهوري، وفي أوساط اليمين والمحافظين الأميركيين عموماً. فقد طال هذا التحوّل شخصياتٍ كانت معروفة بولائها لـ "إسرائيل" وانتمائها إلى التيار الصهيوني المسيحي. ويبدو أنه يعكس رغبة التيار الانعزالي الجمهوري في التركيز على سياسة "أمريكا أولاً"، الشعار الذي تتبناه حركة "ماجا" ويكرّره ترامب ومقرّبوه، ورفضه أن يتحول إلى أداةٍ تُحرّكها المصالح الإسرائيلية كيفما تشاء.
متى تتدحرج كرة الثلج؟
القضية ما زالت حية ونابضة لإيمان كثير من الأميركيين الذين يعتقدون أن ما تم تداوله حتى اللحظة هو قمة جبل الجليد فقط، وأن القضية تنطوي على أكبر عملية احتيال وفساد عالمية، قد تكون شكلت سياسات على مستويات عليا سياسية ومالية ومجتمعية، وربما تكون تخطت حدود الولايات المتحدة الأميركية.
ورغم أن مواقع تحقيقات أميركية بارزة مثل "بيزنيس إنسايدر" أشارت إلى أن شخصيات وازنة في مكتب التحقيقات الفيدرالية أكدت للموقع خلو ملفات إبستين من أي إشارة إلى تورط أي جهة حكومية بالقضية، خاصة أن إبستين وماكسويل لم يتطرقا خلال محاكمتهما والتحقيق معهما لأي ذكر للموساد أو أي جهة أميركية أو أجنبية حكومية في دفاعهما.
إلا أنّ شبكة العلاقات المشبوهة التي جمعت إبستين بكبار الأثرياء والمتنفذين في عالمي المال والسياسة والمقربين من أجهزة المخابرات الأميركية والإسرائيلية، تشير إلى وقوعه ضمن شبكة معقدة من الجريمة العالمية المنظمة، التي استخدمت جرائم جنسية تنطوي على الفتيات والفتيان القُصّر، إضافة إلى جرائم تمويل الميليشيات والجماعات المتطرفة، وجرائم غسيل الأموال والتهريب، وصفقات أسلحة مشبوهة على أعلى المستويات، ما يثير شكوكاً في محلها بشأن الهدف من هذه الجرائم وكيف تخدم المصلحة القومية والأمنية للولايات المتحدة و"إسرائيل".