فوق ركام حي الأمل وأنقاضه بمدينة خانيونس، نصب الناس بسطات البيع، وحولوا الحي المدمر إلى سوق شعبي كبير، مكتظ بالناس الباحثين عما يسعد حاجاتهم، في حين يتسابق الباعة برفع أصواتهم مخبرين بما يحملون في جعبتهم.
معظم هذه البسطات لا تبيع طعاماً أو خضاراً وفواكه كما اعتدنا سابقاً في قطاع غزة، إنما تحمل حاجات استجدت للناس في ظل الحرب المستمرة على القطاع (2023-2025)، هنا بسطة لإصلاح خزانات المياه، تليها أخرى لإصلاح الأوراق المالية، وبائع آخر يصنع الأفران البدائية وبجانبه ثانٍ امتهن صناعة المراحيض. حتى الانتظار في الطابور أصبح مهنة، وشحن الكهرباء، وغيرها الكثير أيضاً.
حي الأمل ليس الوحيد، لقد تجولت بين بسطات الباعة المنتشرة في الزوايدة ودير البلح وخانيونس والقرارة - هذه الأماكن التي يحاصرنا فيها جيش الاحتلال - واكتشفت ما يبيعون، والمهن والحرف التي صنعتها الحاجة في الحرب، كم يعتمد عليها الناس في حياتهم اليومية؟ وكيف ساهمت كسعي دؤوب للناس في ثباتهم بوجه آلة الحرب؟
خزانات المياه.. تصليح ما يتلفه الرصاص
ينهمك ثائر المصري (28 عاماً) في ورشة إصلاح خزانات المياه، بالقرب من مفترق جامعة الأقصى غرب خانيونس، وحولها كثير أيضاً من البسطات والورش التي حولت المكان إلى سوق شعبي كبير، لتلبية حاجات نحو 50 ألف نازح لجؤوا إلى الجامعة التي أصبحت بقاعاتها وساحاتها الداخلية أكبر مركز إيواء للنازحين في غزة.
اقرؤوا المزيد: الخيارات المستحيلة.. كيف تجد الماء في غزّة؟
لم تكن حرفة إصلاح خزانات المياه يوماً في غزة، ولا أظنها موجودة في أي مكان آخر، إذ نادراً ما يجري إصلاح خزان المياه، ولكنه الآن أصبح ضرورة لا بديل عنها. فثائر الأب لثلاثة أطفال، أصغرهم ولد خلال الحرب، تعلّم هذه المهنة عبر الإنترنت، ثم امتهنها وأخويه طاهر وهمام، وأصبحوا من خلالها يحلون أزمة الناس، ويحصلون على مصدر رزق لعائلاتهم.
يُحدثنا ثائر أن سعر الخزان بسعة ألف لتر ارتفع إلى نحو ألفي شاقل (550 دولارا)، ما ألجأ الناس إلى شراء خزانات المياه المستعملة، أو إصلاح خزاناتهم التي استهدفها رصاص جيش الاحتلال أو شظايا صواريخه. يعلق ثائر، "نصلح خزانات المياه التالفة حتى يستطيع الناس مؤقتاً أن يستخدموها".
مرحاض لكل خيمة
كما هو الحال في المنزل الذي لا يخلو من دورات المياه، الخيمة أيضا تحتاج إلى ذلك، فكانت مهنة صناعة المراحيض إحدى المهن المستحدثة التي انتشرت في قطاع غزة.
فادي العمري في الثلاثينيات من العمر، مقيم في مخيمات العطار بمواصي خانيونس بعد أن أُجبر على النزوح وعائلته من مخيم البريج وسط القطاع، قال: "هذه المهنة تتطلب مهارات خاصة وقوة بدنية، وكثيراً من المال".
اقرؤوا المزيد: في غزة .. الحاجة أمُّ المهن
وعن كيفية صناعة المرحاض، يعلق العمري: "في البداية يجب عليك تجهيز حفرة بعمق يتراوح بين (1- 1.5 متر) للتصريف، ثم تُربط بأنبوب يمر بالمرحاض الذي عادة ما يُصمم من الباطون".
ويضيف: "لاحقاً يجري تصميم الحمام الذي عادة ما تكون مساحته (1-2) متر مربع فقط، بواسطة شوادر تكسوها ستائر داكنة اللون لحجب الرؤية من الداخل والخارج، وتكون الأرضية من الحجارة أو البلاط على قاعدة من الأسمنت لمنع انجراف التربة".
فتية يمتهنون ترميم الأوراق المالية
خلف بسطات فارغة إلا من صمغ لاصق ومقص، تجد باعة منشغلين بكل تركيزهم في إصلاح الأوراق المالية المهترئة والتالفة، يحاولون جمع أجزائها بعضها ببعض، لإعادتها إلى صفاتها الأصلية لتصبح جاهزة للاستخدام والتداول من جديد بعد أن أصابتها آلة القصف، فهي أوراق نقدية أخرجها أصحابها من تحت أنقاض منازلهم.

يعمل في هذه المهنة فتية لم تتجاوز أعمارهم 20 عاماً، أحدهم كان الفتى سعيد شراب (17 عاماً) يجلس خلف بسطته في منطقة القرارة. يقول سعيد: "مفروض أكون في الثانوية العامة، لكن الآن ما في مدارس ولا تعليم، وبعد استشهاد أبوي صرت المسؤول عن البيت".
ويتابع سعيد، "إخوتي صغار وأمي مريضة ما بتقدر تتحرك، ولكن أنا تعلمت من صديق أبوي كيف أصلح العملات.. بطلع في اليوم 30-50 شاقل بنمشي حالنا فيها".
اقرؤوا المزيد: ضرب ونهب ونصب.. كيف اختفى المال من غزّة؟
العودة إلى أفران الطين
استعاد أهالي القطاع أفران الطين القديمة لإعداد الخبز بعد أزمة انقطاع غاز الطهي وتوقف المخابز الآلية عن العمل جراء أزمة الطحين التي أوقفت عشرات المخابز عن العمل، سواء بسبب استهدافها بقصف الاحتلال، أو انقطاع الطحين القادم من الخارج لرفض الاحتلال إدخال كميات كافية منه.
كانت هذه الأفران في البداية مصممة لإعداد الخبز، ولكن ما لبثت أن تحولت إلى مواقد رئيسية لتجهيز الطعام وإعداده، إذ توضع الصواني والحِلل والأواني داخل هذه الأفران لتجهيز الطعام، وأباريق الشاي، وتسخين المياه للاستحمام.

لا يلزم في هذا المشروع كثير من الإمكانات، سوى بعض الخشب والكرتون، ومهارات إشعال النار، والتحكم فيها لتلائم الحاجة، هكذا حدثنا فراس النادي، الذي أصبح تاجراً مشهوراً في صناعة هذه الأفران وبيعها.
وعن تصميم الفرن وآلية عمله، يقول النادي: "الفرن يتكون من جزءَين، أحدهما موقد النار الذي يوضع فيه الخشب والكرتون، والثاني صحن الفرن وهو عبارة عن أرضية من الباطون يوضع عليها الخبز أو أواني الطبخ". أما عن مصدر الطين الذي يصنع منه الفرن فيبحث عنه النادي أسفل الأشجار، إذ تكون هذه التربة سهلة العجن والتليين ثم الصب فوق الأفران.
من مهندس كهربائي إلى سائق عربة الكارّو
لعل أهم حرفة عرفها الغزيون في هذه الحرب هي اقتناء "عربات الكارّو"، التي باتت وسيلة النقل الوحيدة في قطاع غزة. ركبنا إحداها وطلبنا من سائقها محمد دلول عمري (42 عاماً) إيصالنا إلى منطقة المواصي غرباً، التي تضم مئات الآلاف من النازحين يكابدون مأساة النزوح والجوع والبرد والقصف.
كان يبدو على عمري علامات الإرهاق والحيرة، قال بصوت مجروح يكتنفه القهر موجها سؤاله للركاب "شو آخر أخبار الهدنة، متى راح نرجع على الشمال؟ صار إلنا أكثر من سنة بعيدين عن بيوتنا، والله متنا قهر"، وهو السؤال الذي يسأله مئات آلاف النازحين في وسط القطاع وجنوبه.
يحمل عمري شهادة في الهندسة الكهربائية من الجامعة الإسلامية، وكان يمتلك محلا لبيع الأدوات الكهربائية في منطقة الشيخ زايد، قبل أن يضطر وعائلته للنزوح وترك منزله ومحله التجاري.

يقول عمري: "بعد عدة أشهر من نزوحنا إلى رفح، قرّبت نقودنا تخلص، عرضت على أخي أن نشترك في مشروع نعتاش منه، فقال لي نشتري عربة "كارّو"، حتى نقدر نعيش من وراها".
اقرؤوا المزيد: غزّة.. كيف نقرأ جغرافيا المعركة؟
يعمل محمد عمري على عربته منذ ساعات الصباح الأولى إلى أذان الظهر، ويتسلم بعده أخوه العمل ليكمل ما تبقى من النهار حتى ساعات المساء. يعلق عمري: "بطلعلنا 70-100 شاقل بنستر حالنا فيها". أي قرابة 20-30 دولارا، وهي بالكاد تكفي مؤونة يوم واحد في ظل الأسعار الجنونية التي يشهدها قطاع غزة.
ظهرت هذه المهنة نتيجة لتوقف السيارات والمركبات عن العمل جراء أزمة الوقود، إذ يصل سعر اللتر الواحد من السولار إلى أكثر من 50 شاقلاً، والبنزين إلى نحو 200 شاقل.
"بيع دورك في الطابور"!
مع ساعات الفجر الأولى ينطلق آلاف الفتية إلى المخابز، وآخرون إلى الصرافات الآلية، في حين يقرر آخرون الذهاب إلى مراكز الأونروا لتوزيع المساعدات، يقفون ساعات طويلة من دون غرض حقيقي، فقط يأملون أن يأتي أحد المواطنين المتأخرين عن دوره، أو على عجلة من أمره، يعرضون عليه بيع دور متقدم في طابور الانتظار مقابل 50-100 شاقل، وهكذا يضمنون قوت يومهم.
يعيل هؤلاء الفتية ذويهم وهم في أعمار الطفولة، فقد طالتهم قسوة الحرب وأكلت من أرواحهم، وتجدهم يبحثون عن مهن بسيطة يعيلون بها أنفسهم وذويهم.
كهرباء وإنترنت للبيع
في أثناء سيرنا بالسوق، صادفنا نقطة لشحن الكهرباء، يافطة كبيرة مكتوب عليها "نقطة شحن علاء القوقا"، كشك صغير صُمم من الخشب والنايلون على سقفه لوحان من ألواح الطاقة الشمسية موصولان ببطاريات وجهاز لتوليد الكهرباء.
يمتلئ الكشك بعشرات المقابس، لشحن الهواتف والبطاريات والحواسيب المحمولة وماكنات الحلاقة وكشافات الإنارة وغيرها، مقابل شاقل واحد للهاتف المحمول، وشاقلين للحاسوب المحمول، وبطاريات الإنارة بـ3 شواقل.
تنتشر نقاط الشحن في كل أحياء القطاع تقريباً، وقد تحولت إلى مصدر دخل لكثير من الأسر، كما أنها أوجدت بديلاً للكهرباء لمعظم أهالي القطاع، بعد أن قطع جيش الاحتلال الكهرباء عن قطاع غزة ودمر بنيتها التحتية.
وكما الكهرباء، هناك أيضاً نقاط لتزويد الناس بالإنترنت مقابل شواقل بسيطة، إذ تمكن مبرمجون ومهندسون في غزة من تحويل نقاط الإنترنت المنزلية إلى خطوط تجارية لعامة الناس، بعد أن دمر جيش الاحتلال شبكة الاتصالات.
اقرؤوا المزيد: "خسرت المنحة".. لماذا تنهي الجامعة حلماً أجلته الحرب؟
محمد أكرم مهندس اتصالات من مدينة دير البلح، صاحب نقطة لبيع بطاقات الإنترنت: "يتم برمجة بطاقات الإنترنت لتصبح متاحة للناس بنظام دخول مستقل لكل هاتف، مقابل بضع ساعات تتراوح بين (4 – 12 ساعة) وبتكلفة بسيطة لا تتعدى 1 أو 2 شاقل". بينما تُخصص بطاقات (VIP) لأصحاب المهن التي تتطلب رفع المواد عبر الإنترنت كالصحفيين والمبرمجين مقابل أجر مادي مضاعف.

بمرور الوقت توسعت هذه المشاريع فأخذت طابعاً أقرب إلى مساحات العمل التي باتت تكتظ بالعشرات، حيث يجري تخصيص أماكن وتجهيزها بالشوادر والأخشاب، يوفر أصحابها خدمات الإنترنت وشحن الكهرباء، وهي أماكن مناسبة للطلبة الجامعيين والأكاديميين والصحفيين وأصحاب المهن التي تتطلب تواصلا عن بعد.
مع ذلك يكتنف هذه المساحات خطر الاستهداف والقصف من جيش الاحتلال. يقول محمد أكرم: "لقد تعرض كثير من طواقمنا وزملائنا للقصف والاستهداف من طائرات الاحتلال المسيرة في أثناء تسلقهم أعمدة الكهرباء بغرض إيصال كوابل الإنترنت بين الأحياء والشوارع، وكنا نضطر في كثير من المرات إلى الانتظار لأيام وأسابيع حتى يُسمح لنا بإجراء تنسيق عبر الصليب الأحمر لصيانة الخطوط".
هنا، انتهت جولتنا بين عدد من بسطات الحرب، التي تبيع ما لا يُباع في أي مكان آخر خارج قطاع غزة، وقد امتهن أصحابها حرفاً جديدة لم تشكل مصدر رزق لعائلاتهم فحسب، بل عملت على سد حاجات أهالي القطاع الثابتين في وجه الحرب والحصار، وأسهمت رغم بساطتها في الحد من تفاقم الأزمة الإنسانية.