30 يونيو 2024

 خسائر الاحتلال: آخر أيام اقتصاد الرفاه؟

 خسائر الاحتلال: آخر أيام اقتصاد الرفاه؟

مع دخول عدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزّة شهره التاسع، تتسع رقعة الأثمان الاقتصاديّة التي يدفعها من موازنته وأمواله وقطاعاته المختلفة. في هذا المقال نقِفُ على أثر الحرب على ميزانية الاحتلال العامة، وتراجع الناتج المحليّ الإجماليّ، وتحذيرات كبار الاقتصاديين مما يسمّونه "العقد الضائع" القادم بسبب هذه النفقات، وما يعنيه ذلك من ارتفاع معدلات العجز بصورةٍ غير مسبوقة، وإصابة "اقتصاد الرفاه" بضربةٍ كبيرة.

طوشة "الشيك على بياض"

بعد شهرين من اندلاع العدوان على غزّة، وتحديداً في منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2023، صادق الكنيست بصورةٍ نهائيّةٍ بالقراءتين الثانية والثالثة على تعديل الميزانية العامة للعام 2023، وذلك بزيادة 28.9 مليار شيكل (7.87 مليار دولار) لتغطية نفقات الحرب، وهو المبلغ الذي أُضيف للميزانية الأصلية التي بلغت قيمتها قبل التعديل 484 مليار شيكل (131 مليار دولار). وفي كانون الثاني/ يناير الماضي صادق الكنيست على تعديل الميزانية العامة لعام 2024، برفعها إلى 582 مليار شيكل (156 مليار دولار).

أما ميزانية جيش الاحتلال للعام 2024، فقد ارتفعت إلى 117 مليار شيكل (31.6 مليار دولار)، بزيادة حوالي 53 مليار شيكل (14.8 مليار دولار) عن الميزانية الأصلية التي أقرت من العام 2023، ونما إنفاقه العسكري بنسبة 24% ليصل 102 مليار شيكل (27.5 مليار دولار). وقد تواصلت في هذا الإطار الخلافات مع وزارة المالية حول ميزانية الجيش، إذ يطلب الأخير شيكاً مفتوحاً، فيما تطالب الوزارة بفحص احتياجاته بدقة، بزعم أن "العدوان على غزّة لا يعني منحه شيكاً على بياض"، كي لا يخرج عجز الموازنة1عجز الموازنة: هو الرصيد السالب لها، حين تزيد النفقات عن الإيرادات، وتضطر الحكومة في هذه الحالة لتمويل هذا العجز عبر الاقتراض، مما يؤدي لتزايد الدين العام، وهو ما وقعت به دولة الاحتلال خلال الحرب على غزّة. عن السيطرة بسبب الارتفاع الكبير في تكاليف الحرب، عقب وصوله إلى 7% من الناتج المحلي الإجمالي.2الناتج المحلي الإجمالي: هو القيمة السوقية الإجمالية للسلع والخدمات النهائية التي تنتجها الدولة، ولا يأخذ في الحسبان فروقات تكلفة المعيشة فيها، وقد تختلف النتائج بشكل كبير من سنة لأخرى بناءً على تقلبات أسعار العملة المحلية، وتطوراتها الداخلية، وجاء ترتيب دولة الاحتلال رقم 29 في قائمة الدول حسب ناتجها المحلي الإجمالي وفقا لتصنيف: صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، والأمم المتحدة. 

لقد واجهت دولة الاحتلال عجزاً في الميزانية قُدّر بـ22.9 مليار شيكل في تشرين الأول/ أكتوبر 2023 مقابل 4.6 مليارات شيكل في أيلول/ سبتمبر الذي قبله، بالتزامن مع القناعات المتزايدة بأنّ الحرب ستؤدي لارتفاعٍ حادّ في نسبة العجز والدّين، وسط توقعات بأن يكون عام 2025 "ضائعاً اقتصادياً"، مع ارتفاع عجز الموازنة، مما سيُفضي في النهاية لمزيد من التدهور في نسبة الدّين العام مقارنة بالناتج المحلي3تشير نسبة الدين المنخفضة إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى الاقتصاد الذي ينتج ويبيع السلع والخدمات الكافية لسداد الديون دون تكبد المزيد منها، وهي النسبة بين الدين الحكومي للدولة وناتجها المحلي الإجمالي.، وربما مزيداً من خفض تصنيفها الائتماني4هو الجدارة الائتمانية، أو قدرتها على الحصول على القروض اللازمة، ومدى قدرتها على الوفاء بما عليها من التزامات في موعدها، وتوجد حاليا ثلاث وكالات كبرى للتصنيف الائتماني تهيمن على أكثر من 90% من سوق التصنيف في العالم، وهي: "موديز لخدمة المستثمرين" و"ستاندارد وبورز للخدمات المالية" و"فيتش للتصنيف الائتماني".، فيما تسبّب صعود مؤشرات التضخم5مؤشرات التضخم: من أكبر الاصطلاحات شيوعاً، ويُستخدم لوصف عدد من الحالات المختلفة مثل: الارتفاع المفرط في المستوى العام للأسعار، تضخم الدخل النقدي، أو عنصر من عناصر الدخل النقدي مثل الأجور أو الأرباح، وارتفاع التكاليف، والإفراط في خلق الأرصدة النقدية. بانخفاض قيمة الشيكل لأدنى مستوى، وكل ذلك يعني أن الاقتصاد الإسرائيلي بسبب نفقات الحرب على غزّة أمامه طريق طويل لتحقيق التعافي الكامل.

ومع تأثير الحرب على الاستهلاك الخاص والاستثمار الداخلي والسياحة وغيرها، تقدر وزارة المالية الإسرائيلية أن العجز في الإيرادات6يشير العجز إلى الفارق السلبي بين إجمالي الإنفاق والنفقات الحكومية، أو بين الواردات والصادرات في ميزان المدفوعات، ويحدث العجز عندما تكون النفقات أو الصادرات أقل من الإيرادات أو الواردات، مما يؤدي لتراكم ديون، أو فروق سلبية في الموازنة. سيكون 12 مليار شيكل، مقارنة بـ10 مليارات شيكل في التوقعات السابقة، هذا عدا عن سوء التخطيط الذي جعل النفقات تخرج عن السيطرة في وزارات مدنية مثل السياحة والصحة والضمان الاجتماعي بسبب النفقات الكبيرة التي ترتبت عن معالجة جرحى الحرب الكثيرين، وعمليات إجلاء النازحين للفنادق، وهناك إجماع واسع بأن الحكومة لن تستطيع الالتزام بعجز الموازنة الأصلي.

"المال ليس هنا!"

لقد بات واضحاً بعد مرور قرابة تسعة أشهر على بدء العدوان على غزّة أنه ليس من الحروب التي يعقبها نموٌّ اقتصادي، بل سيجلب ركوداً وتراجعاً من خلال النقاط المتشائمة المرتبطة بالتقييمات الأولية والرسمية المُعلنة لوزارة المالية التي تقدّر بأنَّ تكلفة الحرب 300 مليون دولار يومياً، والتقدير الحالي أنّ التكلفة ستصل 60 مليار دولار، وهذه تكلفة مرشّحة للارتفاع، لأن هناك تكاليف عديدة لم تؤخذ بالحسبان، ولأن القيادة السياسية الأمنية تتجه نحو حرب طويلة الأمد، قد تتجاوز كلفتها جميع التوقعات.

في ظلّ هذا الوضع، وجّه نحو 300 اقتصادي بارز من دولة الاحتلال وخارجها رسالة لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير ماليته بتسلئيل سموتريتش، تحثّهما على اتخاذ خطوات عاجلة لمعالجة الوضع الاقتصادي المتأزم. ومن أبرز الموقعين على الرسالة جوشوا أنغريست، الإسرائيلي الأميركي، الحائز على جائزةَ نوبل في الاقتصاد، فيما حذر محافظا البنك المركزي الإسرائيلي السابقان كارنيت فلوغ ويعكوب فرنكل أنه "إذا لم يتم إجراء تغيير كبير في الميزانية، فإن دولة الاحتلال ستواجه مخاطر مالية". 

جاءت ذروة التحذيرات على لسان الرئيس التنفيذي لبورصة تل أبيب، إيتاي بن زئيف، الذي حذّر من خطوة الحكومة بتشجيع الإسرائيليين عن غير قصد على إرسال أموالهم للخارج بدلاً من استثمارها في الداخل، رغم حاجتها الماسة لتمويل الإنفاق الحكومي المتزايد على الحرب، قائلاً "إذا استيقظنا بعد عشر سنوات لنجد أن المال ليس هنا، فسنتحوّل من دولةٍ غنية إلى فقيرة، إنّه منحدر زلق".

اقرؤوا المزيد: طوفان من الرعب.. ماذا عن الصحة النفسية في "إسرائيل"؟

وفي السياق ذاته، يتزايد التحذير من التفاؤل حول إمكانية ترميم الاقتصاد بسرعة بعد نهاية الحرب. ويستدلّ من رسالة بعثها محافظ بنك إسرائيل المركزي، أمير يارون، لرئيس الحكومة، في كانون الثاني/ يناير 2024 من أنّ التأثير السلبي لحرب غزّة على الاقتصاد الإسرائيلي سيستمر لسنوات طويلة، بسبب رفع ميزانية الأمن بشكلٍ دائمٍ خلال السنوات المقبلة، مما يستدعي تنفيذ خطوات تقلّص إنفاق الدولة، وترفع دخلها في السنوات القادمة، لمنع استقبال مزيد مما أسمّاها "السنوات الضائعة". 

وفيما يتوقع البنك ذاته انكماشاً مرتقباً لاقتصاد الاحتلال في 2024، خاصة أنّ التأثير مثير للقلق على قطاع التكنولوجيا الفائقة الذي يُعدّ محركه الرئيسي، وينضوي العديد من موظفيه في صفوف جنود الاحتياط، وفي كل يوم يتواجدون في غزّة، يكافح أصحاب العمل لمواصلة الاستثمار في التطوير والحفاظ على حصتهم في السوق. كما حذّر بنك "هبوعليم"، أكبر البنوك الإسرائيلية، المستثمرين وصانعي السياسات من الإفراط في التفاؤل، لأن التعافي الكامل قد يكون أطول أمداً مما كان متوقعاً في البداية، مُرجّحاً أن تمتد فترته لأكثر من سنة.

في الوقت ذاته، فقد تلّقى السوق المالي بتل أبيب ضربةً قاسيةً بسبب الحرب على غزّة عقب تدني العلامة التجارية لدولة الاحتلال، إذ بات المستثمرون حول العالم ينظرون لها بشكلٍ مختلفٍ، ويفضّلون وضع أموالهم في دول أكثر استقراراً، في ظل المخاوف من احتمال توسع حرب غزّة، وتحوّل الرأي العام الدولي ضدها، فإنها فاقمت المخاطر المحيطة بمستقبل تجارة الشركات الإسرائيلية مع الخارج.

 

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by متراس - Metras (@metraswebsite)

دَين يجر ديناً

وفق وزارة المالية الإسرائيلية، بلغت استدانة دولة الاحتلال بسبب الحرب في غزّة 43 مليار دولار عام 2023، وامتدت إلى 2024، وشملت 21 مليار دولار كديون إضافية، وبلغت نسبة الدَّين إلى الناتج المحلي مستوى 62.1% في 2023، ويُتوقع أن تصل إلى مستوى 67% في 2024، و8 مليارات دولار من بيع سندات دولية منذ أكتوبر 2023، و31 مليار دولار إجمالي الدَّين المحلي في 2023، و304 مليارات دولار إجمالي الدَّين العام الإسرائيلي حتى نهاية 2023.

تكشف هذه النفقات أن حكومة الاحتلال تعمل للحصول على قروض مالية لتمويل تكاليف حربها المدمّرة على غزّة، من خلال بيع سندات خزانة للمستثمرين، رغم أنّ إصدار هذه السندات أصبح أكثر تعقيداً في ظلّ الحرب. وكانت وكالة "موديز" لخدمات المستثمرين قد خفّضت تصنيف السندات الحكوميّة الإسرائيليّة إلى مستوى A2 بعد أن كان A1، مما يضعها على نفس المستوى مع دول متواضعة مثل أيسلندا وبولندا. 

مع العلم أن عبء ديون دولة الاحتلال سيكون أعلى مادياً مما كان متوقعاً قبل اندلاع الحرب، إذ تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على السوق المحليّة لتلبية احتياجات الاقتراض، وتغطية عجز الموازنة العامة، مع وجود توقعات بأن يصل إجمالي إصدار الديون إلى 210 مليارات شيكل (58 مليار دولار)، بزيادة تقارب الثلث عن 2023، لاسيما وأنه منذ الحرب على غزّة، يعاني اقتصادها ركوداً هزّ جنباته بصورة متدرجة، فقد عانت قطاعات عدّة من شللٍ شبه تام، واستمر نشاط قطاعات أخرى بحدّه الأدنى.

وفي ظل ذلك. أوصت وزارة المالية بإغلاق عشر وزارات حكومية "زائدة عن الحاجة" بهدف تغطية العجز في ميزانية الحرب، كوزارة تطوير النقب والجليل، ووزارة النهوض بأوضاع المرأة، وغيرها. كما أوصت بخفض أموال الائتلاف الحكومي بقيمة 5 مليارات شيكل (1.4 مليار دولار)، وإلغاء الدعم على أسعار الغاز، وزيادة ضرائب السجائر، والخدمات المصرفية، وتجميد التعيينات الحكومية، وتأجيل زيادة أجور الوظائف العامة، وخفض المزايا الضريبية، وفرض ضرائب إضافية على البنوك تصل 2.5 مليار شيكل (700 مليون دولار) للعامين المقبلين، مما يؤكد أن حرب غزّة وضعت الاقتصاد الإسرائيلي أمام مأزق كبير.

ضعف الشيكل وأشياء أخرى..

كل ذلك يعني أن درجة عدم اليقين الاقتصادي الناجمة عن حرب غزّة كبيرة جداً، مما زاد من وزن المخاطر، وتفاقم العجز المالي المتزايد لدولة الاحتلال، والخوف من احتمال تخفيض تصنيفها الائتماني السيادي مجدداً، لأن عائداتها من السندات قصيرة الأجل آخذة في الانخفاض، بالتزامن مع ارتفاع هروب المستثمرين إلى دول أكثر أماناً، بسبب تداعيات الوضع الجيو-سياسي، فمثلاً علقت شركة "إنتل" الأميركية العمل في توسيع مصنع لإنتاج المعالجات الدقيقة في دولة الاحتلال، بسبب الحرب، والذي كان من المفترض أن يشكّل استثماراً أجنبياً ضخماً، كما لم تعد دولة الاحتلال مدرجة في قائمة الدول العشر الأوائل التي يستثمر فيها أصحاب الملايين. وقد  بلغت علاوة المخاطر في مقايضات العجز الائتماني7نوع من التأمين ضد مخاطر التخلف عن السداد من قبل دولة معينة، فكلما ارتفع السعر زادت احتمالية التخلف عن السداد، وبالتالي زادت مبادلة مخاطر الائتمان. للسندات الحكومية الإسرائيلية أعلى مستوياتها منذ عشر سنوات.

وتمثّلت المظاهر الأخرى للأزمة الاقتصادية الإسرائيلية بسبب حرب غزّة في ضعف الشيكل، وزيادة كلفة المنتجات المستوردة، وتأجّج التضخم، ومواجهة الشركات الإسرائيلية أزمة في جمع سيولة من الأسواق الخارجية، ويواصل المستثمرون الأجانب بيع أسهمهم فيها، لأنها بعد أن حقّقت أرباحاً بـ3.5 مليارات دولار في النصف الأول من 2023، فإنها واجهت في الربع الأخير منه، والنصف الأول من 2024 تراجعا في الأرباح، عقب اندلاع الحرب.

كما تأثرت أسهم البنوك الخمسة الأكبر في دولة الاحتلال خلال الحرب، وتراجعت بنسبة 20 بالمئة، وانخفضت على النحو التالي: ليئومي بنسبة 22%، ديسكونت بنسبة 20.4%، وبنك إسرائيل الدولي الأول بذات النسبة، هبوعليم بنسبة 18%، مزراحي تفاحوت بنسبة 17.1%، وكلما طال أمد الحرب، زاد عدد المستثمرين الذين يبيعون أسهمهم فيها.

تكشف هذه المعطيات عن عينة فقط من الأضرار الأولية التي لحقت بالاقتصاد الإسرائيلي جرّاء الحرب المتواصلة على غزّة، بالتزامن مع توقعات الخبراء الاقتصاديين بأن العام 2024 سيكون سيئاً من الناحية الاقتصاديّة بالنسبة للإسرائيليين الذين "سيكون معظمهم أكثر فقرًا، أو أقل ثراء"، كلٌ بحسب وضعه، وسينخفض الاستهلاك، مما يعني أنّ اقتصاد الرفاه الذي روّجت له دولة الاحتلال على مدى العقود الماضية قد يصبح جزءاً من الماضي. وهذه ليست توقعات مفاجئة، لأن الاحتلال في حالة حرب في غزّة، وربما يتورط في حرب أخرى في لبنان، مما سيجعل اقتصاده ينحدر ويتهاوى بصور وأشكال غير مسبوقة.