في أيار/ مايو الماضي، بينما كنتُ مُستقِلاً القطار عائداً من مظاهرةٍ داعمةٍ للقضية الفلسطينيّة في العاصمة البلجيكيّة بروكسل، تعرّفت على مارا دي بيلدير، عضو في حزب PVDA البلجيكي، أو ما يُعرَف بـ"حزب العمال"، وهو حزب اشتراكيّ ماركسيّ. كان معها ابنها وابنتها في الرابعة والثانية من عمرهما على التوالي. تحدّثنا عن الحرب ومواقف حزبها الذي يُعدّ من أكثر الأحزاب دعماً للقضية الفلسطينيّة، وكانت أحاديثنا تنقطع باستمرار وهي تجري خلف ابنها الذي كانت تناديه باسم "نايييم". لم يكن وقع الاسم أوروبيّاً، فدفعني الفضول للسؤال عن معناه، فقالت: "أسميتُه نسبةً إلى مسؤول مكتب منظمة التحرير في بلجيكا. كان صديقاً مقرباً من والدي، وقد اُغتيل في بروكسل عام 1981. ألا تعرف ناييم كادير؟".
أصابني الحرج وأنا أجيب بالنفي، لأبحث على الفور عبر "جوجل" عن هذا الشخص، فتبيّن لي أنها تتحدث عن نعيم خضر. قادني حديثها للعودة إلى منتصف السبعينيات لأبحث أكثر عن الرجل وملابسات اغتياله، ثمّ عن تاريخ الوجود الفلسطيني في بلجيكا.
كان نعيم خضر، ابن قرية الزبابدة قضاء جنين، من مواليد عام 1938، مُكلّفاً من منظمة التحرير ليكون ممثِّلاً لها في بلجيكا، إذ كانت المنظمة في فترة السبعينيات تسعى للحصول على الاعتراف الدوليّ والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطينيّ، فأرسلت عدداً من أبنائها إلى بعض الدول الأوروبيّة.
الاغتيال الذي أنهى مساراً دبلوماسياً
كان السياق الذي عمل فيه خضر معقّداً، فلم يكن الفلسطينيون أصحاب كيانٍ سياسيّ وحضورٍ رسميّ دوليّ، وكانت العلاقات التي جمعت بين بلجيكا وحكومات الاحتلال المتعاقبة علاقات متينة، ساهم في تعزيزها اللوبي الصهيونيّ، الذي نجح في استقطاب شخصيات عامة وحزبيّة فاعلة ومؤثرة. ورغم أنها بلدٌ صغير نسبيّاً، إلا أن بلجيكا مهمة على الصعيد السياسي الدولي، إذ تقع فيها مقرات الاتحاد الأوروبيّ والعديد من المؤسسات التابعة له، وتنشط فيها جماعات ضغط كثيرة، ويتواجد فيها عدد كبير من الصحافيين والدبلوماسيين. كان الأمر أشبه بتكليف أحدهم بشقّ طريقٍ جبليّ بين صخورٍ وعرة بأظافره.
لكن نعيماً وزملاءه العاملين في الساحة البلجيكية، رغم ضعف مواردهم الماليّة، وقلة أعدادهم وإمكانياتهم، استطاعوا تنفيذ المهمة، إذ قررت بلجيكا بناء علاقاتٍ رسميّة مع المنظمة، وفتح مكتبٍ رسميّ لها على أراضيها. وبطبيعة الحال أصبح نعيم مديراً لهذا المكتب، وذلك عام 1976. وقد سافر نعيم ومعه ثلاثة أشخاص بلجيكيون إلى بيروت خصيصاً لإخبار ياسر عرفات بذلك.

يقال إنّ نعيماً كان شاباً ذكياً واجتماعياً، شديد الحيوية ودؤوباً على العمل، يتحدّث عدة لغات أوروبيّة مثل الفرنسيّة والإيطاليّة، وقد حصل على درجة الدكتوراه في الحقوق من جامعة "لوفن" الكاثوليكية في بلجيكا منذ عام 1969، كما كان نشطاً بشكلٍ ممتازٍ على الصعيد الطلابيّ في الأراضي البلجيكية، مندمجاً في المجتمع البلجيكي ويفهم كيف يفكر، ولديه شبكة علاقات واسعة مع مختلف الشخصيات السياسيّة هناك من جميع التيارات والأحزاب، فاستفاد من ذلك في الحديث بشكل مباشر وفعّال مع شخصيات وازنة وفعالة، ونجح في إقناعهم بالحق الفلسطينيّ، هذا عدا عن تحدثه أمام الجمهور في الندوات واللقاءات العامة. كما أنّه عمل من قبل موظفاً في السفارة السعوديّة في بلجيكا، إضافةً إلى عمله في مكتب جامعة الدول العربية في بروكسل، ما أكسبه بعض المهارات والعلاقات.
في الأول من حزيران/يونيو 1981، وبينما كان نعيم في طريقه إلى مكتبه، أطلق شخصّ النار عليه فأرداه قتيلاً. وُجّهت الاتهامات للموساد الإسرائيلي، وقال البعض إنّ ذلك هدف لمنع تطوير علاقته مع الحكومة الفرنسية بما يضرّ بالاحتلال، إذ كان من المفترض أن ينتقل في ذلك الشهر ليصبح ممثلاً للمنظمة في باريس، وكان في الوقت نفسه يحظى بعلاقة مميزة وقريبة من وزير الخارجية الفرنسي آنذاك.
أشعلتْ حادثة اغتياله حالة من الصدمة للسياسيين البلجيكيين الذين عرفوه، بحكم العلاقات الواسعة والمتينة بينهم. كما أن قضيته أسالتْ حبراً كثيراً في الصحافة البلجيكية وأثارتْ الرأي العام وقتها، وكانتْ سبباً في تنامي التعاطف مع القضية الفلسطينية في الأوساط البلجيكية.
الحروب والبحث عن الرزق
بالعودة إلى الحضور الفلسطينيّ ونشأته في بلجيكا، فيرجع ذلك إلى أواخر الستينيات، عندما استُقدِم عشرات العمال الفلسطينيين، ممن كانوا مقيمين في الأردن، للعمل في مصنعٍ للورق المقوّى في مدينة فيرتون Virton جنوب بلجيكا، حيث استقروا مع أسرهم، وذلك وفقاً لرئيس جمعية الجالية الفلسطينية في بلجيكا، حمدان الضميري، والمختص في الشؤون الأوروبية وأحد قدامى الفلسطينيين في بلجيكا، محمد رجائي بركات، إذ أمضى كلاهما ما يزيد عن أربعين عاماً في بلجيكا.
بالإضافة إلى هؤلاء العمّال، كان هنالك عشرات الطلاب الفلسطينيين من المقيمين في الأردن وفلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948، الذين كانوا يلتحقون بالجامعات البلجيكيّة، لكن معظمهم كان سرعان ما يغادر الأراضي البلجيكية عقب إنهاء دراسته.
بقي الحال هكذا، إلى أن اشتعلت الحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975-1990)، التي أدّت إلى نزوح عشرات الألوف من الفلسطينيين المقيمين في لبنان إلى العديد من دول العالم ومن بينها دول أوروبا، في موجات نزوح تواصلت رغم انتهاء الحرب الأهلية، إذ كان نصيب بلجيكا الآلاف منهم كـ"لاجئين".
ثمّ وصلت إلى بلجيكا موجة جديدة من الفلسطينيّين بداية التسعينيات، قادمين من الكويت، إذ غادروها عقب الغزو العراقي لها. ثمّ جاءت واحدة من موجات الهجرة الكبيرة، من قطاع غزّة تحديداً، وذلك عقب فرض الحصار الإسرائيليّ المشدد عليه عام 2007، فقد سهّلت بلجيكا نوعاً ما إجراءات الحصول على الإقامة لطالبي اللجوء الفلسطينيين، مقارنةً ببقية الدول الأوربية، بطريقة أثارتْ جدلاً كبيراً وتساؤلات عديدة حول أسباب ودوافع هذا الأمر.
وهكذا ارتفعت أعداد الفلسطينيين في بلجيكا من ستة عشر ألفاً عام 2016 إلى ما يقارب السبعين ألفاً حالياً، معظمهم من قطاع غزّة، وذلك بحسب حمدان الضميري، رئيس جمعية الجالية الفلسطينية في بلجيكا (هناك مصادر أخرى تشير إلى رقم أقل من ذلك، حوالي 25 ألفاً).

واليوم تقابل في بلجيكا الكثيرين ممن يمكن تسميتهم "أبناء الجيل الثاني" الذين ولدوا في بلجيكا، أو كانوا صغاراً جداً حين قدموا إليها، يتحدثون الفرنسية أو الهولندية بطلاقة، وكثير منهم يتحدث باللهجة الفلسطينية فقط، ولا يفهم الفصحى، كما أنّ ارتباطهم بفلسطين عاطفيّ الطابع، إذ لا يملكون معرفة أساسية بالتاريخ. وقد شارك بعض هؤلاء في الحراك الطلابي الداعم للقضية الفلسطينية في الجامعات البلجيكية. وفي ظلّ ضعفها في نشاطات الحشد والتوعية، يرى كثيرٌ من أبناء الجالية ضرورة لتعزيز دور المؤسسات التي تمثّلهم في بلجيكا، وتطوير برامجها، والتشبيك فيما بينها، من أجل تعزيز مكانة الجالية، ورعاية واحتضان أبناء الجيل الجديد بالذات، حتى يكون ارتباطهم ببلادهم مبنياً على المعرفة والاطلاع والفهم الحقيقي، وحتى يساهموا بشكل فعّال أكثر في الفعاليات المناصرة للقضية الفلسطينيّة.