20 أغسطس 2025

حلم طبيبة في زمن الإبادة 

حلم طبيبة في زمن الإبادة 

بدأت القصة صباح السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حين تأجّل الامتحان إلى إشعارٍ آخر، وهو حدث لم نشهد له مثيلاً منذ بداية دراستنا الطب قبل ستّ سنوات. لم يكن تأجيلاً فحسب، بل كان قطعاً كاملاً لحبل دراستنا؛ فقد تسارعت الأحداث بشكلٍ قاسٍ، ومرّت أيامٌ سوداء، أُجبرنا فيها على النزوح، وتعرّضنا للقصف مرّاتٍ عديدة، وعشنا ما لا يمكن وصفه من مرارة الحياة. لكنّ الأدهى والأمرّ، أن جامعتنا دُمّرت، وقُطعت شبكات الاتصالات التي تربطنا بالزملاء والهيئة التدريسية والأطباء. وهنا كان الرعب الذي اجتاح نفوسنا: هل سنُكمل الحلم ونصبح أطباء؟ أم سنموت ونحن نبحث عن الحياة؟

سريعاً مضت الأيام بشدّتها وحيرتها، حتى سمعنا ما طال انتظاره: "سنُكمل دراستنا من حيث توقّفنا." بُعث فيَّ أملٌ جديد، كرَيحانةٍ سقاها الله ماءً بعد حرمانٍ طويل. لكنّ سؤالاً كثيراً ما تردّد من حولي: كيف ستذهبون إلى المستشفيات والعيادات في ظل القصف والاستهدافات العشوائية في كل شبرٍ من القطاع؟ هل ستكونون آمنين؟

في الواقع، يبدو السؤال منطقياً، لكن ما هو غير منطقيّ، هو أنّه في مدينتنا لا أحد آمن، سواء في الخارج أو داخل بيته أو خيمته، طبيباً كان أو صحفياً أو معلّماً. كلّنا أهدافٌ مباحة على حدّ سواء، فلِمَ الخوف إذن؟

عندما هربت من المصابين

لم يكن الدوام كما عهدناه؛ فالمستشفيات لم تعد مكاناً للتعليم، بل ساحات طوارئ ممتلئة بالدم، بالبكاء، بالصراخ، وبقصصٍ لن تُنسى. كنّا نذهب بملابسنا المتواضعة وقلوبنا المرتجفة، لا لنحضر محاضرة أو نتابع حالة روتينية، بل لنقف في ممرّاتٍ ضاقت بآهات المصابين، ولنكون أياديَ إضافية تُمسك بالحياة قبل أن تفلت.

أكثر من مرة، قُطعت محاضراتنا على وقع مجازر مفاجئة، ونداءات استغاثة، وحالات طارئة استنزفت المستشفى بمن فيه. أكثر من مرة، جاءنا تهديدٌ بإخلاء المستشفيات ونحن بداخلها، وبعض زملائنا حوصروا مع الطواقم الطبية تحت القصف. أكثر من مرة، توقفت المحاضرات على صوت جنازة تمر في الساحة أو شهيدٍ يُزفّ من قسم الطوارئ.

اقرؤوا المزيد: رعب اسمه: حقيبة الطوارئ

كنّا نساعد قدر المستطاع؛ نُسعف، نُقيّم الحالات، ننقل المصابين، نحاول أن نُبقي شيئاً من الحياة قائماً وسط هذا الخراب. لم يعد التعليم أكاديمياً، بل صار تدريباً ميدانياً على الحافة بين الحياة والموت.

وقد مررتُ شخصياً بلحظةٍ جسّدت هذا المعنى تماماً. ذات ظهيرةٍ مشؤومة، في صيف 2024، استُهدف مخيم النزوح الذي كنّا نحتمي فيه عائلةً واحدة، فاستُشهد خمسة من أقاربي دفعةً واحدة.

مشاهد الوداع كانت تتكرّر أمامي: هذه تبكي زوجها، وتلك والدها، وأخرى على أشلاء طفلها المُلقى فوق الرمال.

وسط الفوضى والدموع، وقفت مذهولة أمام عمي، الذي يحمل أشلاء حفيدته الطفلة "رغد"، ذات العامين، ويُظلّلها من شمس الصيف الحارقة كأنّها لا تزال نائمة. وسط هذا المشهد المروّع، سمعت صوتاً يناديني: "يا دكتورة! روحي في الإسعاف مع المصابة." دكتورة! للحظة، نسيت أنني كذلك. نسيت أن لي دوراً هنا، وسط هذا الركام.

اقرؤوا المزيد: الفقدان الذي لم نعتده في غزة

وصلت إلى مستشفى ناصر بملابس الصلاة، في هيئةٍ لا تُشبهني، وقلبي ممزّق لا يعرف من أين يبدأ. اختبأت في زاوية بعيدة، أبكي بصمت، حتى تذكّرت فجأة أن قريبتي المصابة بحاجة إليّ، وأن عليّ أن أكون "أنا" من جديد... أن أكون الطبيبة. تحرّكت، حاولت، ساعدت، ونجحت في تقديم ما أقدر عليه، لكنّ الألم الحقيقي أنني لم أودّع أحبّتي، واكتفيت بتلويحةٍ حزينة من خلف بوابة الطوارئ، وهم يرحلون مكفّنين نحو المقبرة. وكلّ ما بعد هذه اللحظة، أصبح له طعم مختلف؛ أقسى، أصدق، وأقرب إلى القلب.

دون أقلام ودفاتر 

في كلّ مرة كنت أعود فيها إلى الخيمة بعد الدوام، أحمل في صدري سؤالاً مريراً: هل هذا هو مستقبلي الطبي؟ هل سيظل بهذه القسوة؟ أم سأستطيع يوماً أن أمارس الطب كما حلمت به: إنسانياً، هادئاً، فيه حياة تُبنى لا تُنتشل؟

كنّا ندرس في ظروفٍ لا تُطاق؛ بلا كهرباء لشحن الأجهزة، وبلا إنترنت لتحميل المحاضرات أو التواصل مع أساتذتنا، وحتى الأقلام والدفاتر بالكاد كنا نجدها في الأسواق.

ورغم هذا كله، كان علينا دراسة كمٍّ هائل من المحاضرات، ومتابعة المواد الطبية التي تتطلب جهداً ذهنياً وجسدياً مضاعفاً. لم يكن الوضع عادلاً، ولا حتى منطقياً، لكن إحساسنا بالمسؤولية كان أكبر من كل الظروف.

كنا نؤمن أننا يوماً ما سنقف في الصف الأول، وأن أرواح أبناء شعبنا ستكون بين أيدينا. وهذا وحده، كان كافياً لنكمل، رغم انطفاء كل شيء من حولنا.

حُلم يتحقق وسط الخراب 

الطب في غزة ليس مجرد مهنة، بل هو اختيارٌ صعب، ومقاومةٌ صامتة، وطريقٌ محفوفٌ بالقهر، والخطر، والخوف.

لم يكن حلمي أن أكون شاهدةً على كل هذا الخراب، لكن قدري أن أكون جزءاً من طاقم يُمسك الحياة بأطراف أصابعه، في الوقت الذي يتساقط فيه كلّ شيء من حولنا.

اقرؤوا المزيد: مقاومة لا تراها الطائرات

وما زلنا حتى هذه اللحظة نكمل تعليمنا في نفس الظروف، بل ازدادت قسوتها. نذهب إلى الدوام أحياناً بلا طعام، بلا نوم، بلا طاقة، نُقابل حالات طبية ونحن في حالٍ أسوأ منها، من الجوع أو الإنهاك أو التعب النفسي.

ووسط كل ذلك، نُدرك دوماً أن أي لحظة قد نتحوّل فيها من طلاب طب إلى مصابين، من أطباء إلى أرقامٍ في كشوفات الطوارئ.

كلُّ ما مررنا به لم يكن في كتب الطب، ولا في محاضرات القاعات، لكنه أصبح جزءاً لا يتجزأ من هويتنا كأطباء المستقبل.

في الختام، الطب كان وسيظل حلمنا الأول، وستبقى غزة مدرستنا الأولى والأخيرة، التي - رغم كل شيء - نحبّها.